أنهى أركل تعديل ياقته، ثم اتجه نحو المكتب القابع في زاوية الغرفة.
“ألستِ تجدين صعوبة في العيش هنا؟”
سألني من غير أن يلتفت.
سؤال لطيف جدًّا إذا ما قورن بكونه خاطفًا.
صعوبة في العيش…؟
‘في الحقيقة، لا على الإطلاق.’
فبما أنني أملك ميولًا غريبة، فقد كنت أستمتع كثيرًا بأجواء قصر كايِين.
ورشة عمل ناران… وزريبة البشر في المزرعة… كلها كانت مشاهد تبعث في نفسي نوعًا من الإثارة.
صحيح أن الخوف لم يغب تمامًا، لكن بالمقارنة مع حياتي السابقة التي لم تكن سوى أنفاس متقطعة في جسد ميّت… فحتى خطر الموت الآن أهون بكثير.
وفوق ذلك، قبل قليل فقط… ظهر أمامي هدف جديد لا بدّ أن أحققه.
‘أركل كايِين، سأجعلك تبكي.’
أريد أن أرى دموعك مهما كلف الأمر.
بمجرد أن خطرت لي تلك الفكرة الجميلة، كدت أفقد صوابي.
وضعت يدي أمام فمي أخفي ابتسامة عابثة خرجت مع أنفاس حارة.
لا شك أن ملامحي بدت مشبوهة للغاية، ولحسن حظي أنّ أركل كان مشغولًا بظهره نحوي.
‘لكن… ماذا يفعل بالضبط؟’
رأيته يجلس خلف مكتبه يمسك بريشة يخط بها شيئًا فوق الورق.
غير أن الريشة توقفت فجأة بعد أن كانت تتحرك بلا انقطاع.
ثم بدأ يطرق بطرفها سطح المكتب بخفة، وكأن أفكاره قد انقطعت.
تقدمت بخطوات حذرة من ورائه وسألت:
“ماذا تكتب؟”
“…..”
لم يجبني، وإنما التفت نحوي التفاتة قصيرة، ثم تمتم وكأنه يحدّث نفسه:
“…ألم يصل هوان بعد.”
هوان، الاسم بدا مألوفًا.
تذكرت، هو ذلك الرجل ذو النظارة الذي رأيته في المزرعة.
إذن فهذا هو معاون أركل.
قلت مازحة:
“هل تنوي التخلّص مني سريعًا؟”
فأجاب ببساطة من غير تردد:
“نعم.”
‘أما آنفًا فكنت تمسك بيدي وتطلب البقاء أكثر….’
تذمّرت في سرّي، لكني أبقيت على ابتسامتي المشرقة.
“وما الذي تكتبه إذن؟”
لم أتراجع عن فضولي، فسألته مرة أخرى.
رفع أركل نظره إليّ ثم قال:
“دعوة.”
“دعوة؟ لأي شيء؟”
استغربت… فبيت كايِين قوم منعزلون، لا يكثرون من مخالطة العائلات الأخرى.
“سنقيم مأدبة عشاء قريبًا. وسأدعو وريث بيت موريل.”
بيت موريل… نعم، أعرفهم.
بيت الماركيز الذي ورث تجارة أحجار المانا عبر الأجيال.
أما وريثهم فهو…
‘جيليان موريل.’
زميل بطل القصة جين أليهايم في الأكاديمية، والهاوي المتيم بليزِي.
بل إنه في الأصل كان أول من تعقب أثرها بعد اختفائها.
تذكرت مسار الرواية.
لطالما طمع بيت كايِين في مناجم المانا التابعة لموريل.
ولهذا استدعوا جيليان إلى مأدبة عشاء للتفاوض على صفقة.
لكن حينها، التقط جيليان بعض الأحاديث الجانبية للخدم، فاكتشف أن ليزي مختطفة هنا بالذات، ثم أسرع ليخبر جين بذلك.
‘إذن هذه هي تلك المأدبة بالذات.’
“أصلًا، مثل هذه الأمور كانت تتولاها أختي… لكنها الآن في العاصمة.”
تنهد وهو يضغط بأصابعه على صدغيه.
كان واضحًا أن كتابة الدعوة أثقلت عليه.
مع ذلك، أنا رأيت الريشة تتحرك سريعًا قبل قليل… لابد أنه كتب شيئًا بالفعل.
فتملكني الفضول:
“أيمكنني أن أرى؟”
تردد قليلًا، ثم سلّمني الورقة.
نظرت فيها… فلم أجد سوى أربع كلمات:
[دعوة إلى السيد جيليان موريل.]
‘مجرّد الاسم… ثم توقف؟’
حتى عبارة تشجيع لم يسعني قولها.
خفض أركل عينيه وهمس بمرارة:
“لم يسبق لي أن كتبت شيئًا كهذا في حياتي.”
حقًا، يبدو أنه لم يكتب رسالة واحدة من قبل.
“الأمر ليس صعبًا. افتتح بحديث بسيط عن الطقس مثلًا…”
“الطقس… كسماء موريل الكئيبة.”
“لا، حاول أن تكون ألطف قليلًا.”
“ليت غيوم موريل الرمادية تنقشع وتصفو كما هنا.”
هززت رأسي مبتسمة:
“دعني أكتبها لك.”
عندها ارتسمت على وجهه نظرة ارتياح لمحتها جيدًا، كمن يرى بصيص نور.
تردد لحظة ثم قال:
“أتُراكِ… تقبَلين؟”
“هات الورقة.”
تناولت منه الريشة والورق، وبدأت أكتب بلا تردد.
فلديّ خبرة لا يُستهان بها في كتابة التعليقات المطوّلة…
افتتحت بتحية مهذبة، ثم شرحت بإيجاز ما أراده أركل، وأنهيت بالدعاء بازدهار بيت موريل.
قرأ أركل ما كتبت، ثم تمتم بإعجاب مكتوم:
“أوه…”
كلمة قصيرة، لكنها حبلى بالمعاني.
ابتسمت ابتسامة ظافرة وقلت:
“بهذا الأسلوب سيحضر حتمًا.”
“أجل… وإن تمّت الصفقة فهذا أفضل.”
صفقة… نعم.
لكن السبب الحقيقي لقبول جيليان لم يكن الصفقة… بل الخداع.
رفعت نظري أتأمل أركل مليًّا.
هل أساعده في هذا؟
أم أدع الأمور تسير كما هي؟
وبينما كنت في حيرة، لمعت في ذهني فجأة فكرة جريئة.
ابتسمت لأركل ابتسامة عريضة.
“أركل، ماذا لو أقمنا صفقة؟”
نظر إليّ بدهشة.
“صفقة؟”
“نعم. بينّي وبينك فقط.”
“وما الذي سنراهن عليه في هذه الصفقة؟”
ابتسمت بهدوء دون أن أجيب مباشرة.
“يكفي أن تلبّي طلبًا بسيطًا واحدًا. بالمقابل، سأضمن نجاح صفقتك مع بيت موريل.”
رفع أركل حاجبًا واحدًا ببطء.
“وكيف ستفعلين ذلك…؟”
“من لا يعرف أن بيت كاييِن يطمعون في مناجم موريل؟ إذا نجحت في الصفقة، فلتعدني بالوفاء بطلبِي.”
صمت لوهلة، ثم أجاب بهدوء منخفض:
“لا أستطيع تلبية طلب صعب.”
“حسنًا. إنه بسيط جدًا.”
لا يمكنني الإفصاح عنه الآن. لو عرف، لما وافق على تنفيذه أبدًا.
‘متحمسة جدًا…’
كادت ابتسامتي تتسع بلا توقف، لكنني ضبطت نفسي بصعوبة.
مددت إصبع خنصري تجاهه.
“ماذا تفعلين؟”
“وعد. نربط أصابعنا.”
تردد أركل قليلًا، ثم مد خنصره نحو خنصري.
وهكذا أُبرمت الصفقة.
بينما كنا ننظر إلى بعضنا للحظة، سُمعت طرقات على الباب.
“إنه هوان.”
يبدو أن معاون أركل قد حضر لأخذي.
فتح أركل الباب، وإذا بالرجل ذي النظارة الذي رأيته في المزرعة يقف هناك.
“هل أنهيت الترتيبات؟”
“نعم، لقد عاقبت جميع الخدم، وتم اختيار رئيسة جديدة للخادمات.”
“حسنًا.”
التفت أركل نحوي قائلاً:
“حان وقت العودة يا آنستي.”
وأثناء خروجنا من الباب، شعرت بنظراته تلاحق ظهري.
“كان يومًا ممتعًا.”
قالها وعيناه بلا تعابير واضحة، إلا أن مفاجأتي كانت أنه قال ذلك على الرغم من قلة تعبيره عن المشاعر، فابتسمت له بالمقابل.
“لا تنسَ صفقتنا، أليس كذلك؟”
“لن أنساها.”
رد بهدوء منخفض.
مشي هوان، فمشيت خلفه في الرواق.
وبدا أن أركل ظل يراقب ظهري حتى قبل أن نصل إلى الدرج.
❖ ❖ ❖
“هل جسدكِ بخير؟”
سألني هوان بعد أن سرنا قليلًا معًا.
كان يقصد فيما يبدو ما جرى في المزرعة.
“أعتذر نيابةً عن خدم التوظيف على ما بدر منهم من تصرّف مشين. لقد أنزلت بهم عقوبات صارمة، فلن يجرؤ أحد منهم بعد الآن على الإساءة إلى آنستي.”
“أنا بخير.”
يا للعجب… يخطفونني ثم يعاملونني بكل هذا اللطف؟ أكتشف بنفسي أنّ في كايين زوايا طريفة لم أكن أعلم عنها شيئًا.
“…آه، لقد أوصت السيدة سيلفيا ليل أن أنقل إليك كلماتها. قالت إنك أنقذتِ حياتها.”
سيلفيا؟ آه… تلك الوصيفة ذات الشعر الأحمر.
“وماذا حلّ بسيلفيا؟”
“بفضل إنقاذك يا آنستي لم تتعرض لأي مكروه. كانوا ينوون طردها من القصر، لكنها توسّلت أن تبقى. قالت إنها ترجو أن تردّ لك الجميل، مستعدةً لأي عمل تكلفينها به.”
“جميل؟”
“نعم. يبدو أنها عاقدة العزم على مكافأتك. وهذا أمر أرجوك أن يبقى سرًّا عن السيد…”
ثم التفت هوان ليتأكد من خلو المكان من الآذان، قبل أن يهمس بخفوت:
“قالت إنها تريد أن تحمي الآنسة أليهايم في هذا المكان القاسي… ووصفتك بأنك ملاك رقيق.”
“…….”
هل يتحدث عني حقًّا؟
لقد اعتدت سماع أنني شيطانة فاسدة، لا ملاكًا رقيقًا!
منذ جئت إلى هنا، لا أدري لماذا تتعلق بي ألقاب لا تمت إليّ بصلة.
“آنستي…”
تردد هوان قليلًا ثم رفع نظارته بإصبعه وتابع:
“أعلم أن الوقت ليس مناسبًا لمثل هذا القول، لكن… ليسوا جميعًا أشرارًا كما توحي الشائعات.”
“ماذا تقصد؟”
“أقصد السيد، والآنسة، والسيد الشاب ناران.”
آه، إذن كان يقصد الإخوة الثلاثة من بيت كايين.
أومأت برأسي على مهل.
“ناران لطيف، وأركل لا يبدو باردًا إلى ذلك الحد أيضًا…’
أما مارثا فلم ألتقها بعد.
“لقد أمرني السيد بأن أتأكد من أن آنستي لا تعاني من ضيق في إقامتها هنا. فما تحتاجينه، قولي لي فحسب.”
ثم رفع نظارته مرة أخرى وأضاف:
“سأبذل غايتي في تلبية أي أمر تطلبينه.”
كان يبدو صادقًا ومحلّ ثقة بالفعل.
‘وأنا أصلًا بحاجة إلى شخص يكون في صفي…’
“إذن يا هوان…”
“– بعد أن أنهي ما تبقّى لي من عمل أولًا.”
قاطعني قبل أن أكمل.
“ما زال عليّ إعداد تقريرٍ عن الحادثة الأخيرة، والانتهاء من التحضير لعشاء الليلة، ومراجعة أوراق استصلاح الأراضي، ثم إنجاز ما تبقّى قليلًا من مهام أخرى كلّفني بها الماركيز.”
بدأت ملامحه تغيم ويعلوها الإرهاق.
‘هذا ليس “ما تبقّى قليلًا” كما يقول…’
لم يكن ظل التعب تحت عينيه بلا سبب.
شعرت نحوه بالشفقة شيئًا فشيئًا.
ومنذ ذلك الحين خفت صوته وسكن لسانه، إذ غلب عليه الإرهاق، ولم أشأ أن أكلّفه بالكلام.
واصلنا السير صامتين حتى بلغنا غرفتي أخيرًا، فقال لي إن عليّ أن أطلبه متى احتجت إلى شيء، ثم همّ بالانصراف.
ولم ينس أن يكرر عبارته بأنه سيساعدني “فور أن يُنهي ما تبقّى له من أعمال”.
‘إن كان هذا عنده “القليل المتبقي”، فكيف يكون مقدار عمله المعتاد إذن؟’
ارتعد جسدي من مجرّد تخيّل ذلك، فأسرعت إلى طرد الفكرة من ذهني.
‘قبل أن أتهيأ جديًّا لإنجاح الصفقة… عليّ أن أستريح أولًا.’
فتحت فمي بتثاؤب بطيء وأنا أدير مقبض الباب.
لكن ما إن وقع بصري على ما في الداخل، حتى تجمّدت في مكاني كتمثال.
~
ترجمة ليين 🌷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 8"