اختفت صورة الثلاثة الذين كانوا يبتسمون وهم يتناولون الطعام وكأنها انمحت، وفي اللحظة التالية فُتح باب الكوخ، واقتحمته الريح العاصفة. ومعها دخل شابّان من أهل القرية يسندان لينا ذات الوجه الشاحب، بخطوات متعثّرة ووجلة.
“لينا!!”
ألقى “كان” ما بيده من مكونات كان يعدّ بها الطعام، وانطلق نحوها بوجه متجمّد.
أما جيرونيمو الذي كان ينظّف المكان، فتوقف في الحال.
ألقى أحد الشبان اللذين أحضرا لينا نظرة مضطربة، ووضع يده على كتف كان الذي بدا قلقًا إلى حدّ الارتباك.
“يبدو أنها تعرّضت لهجوم مخلوقٍ شيطاني. طوال الطريق لم تستعد وعيها أبداً.”
“…….”
كان مؤخرة رأس “كان” وهو يحدّق بلينا المستلقية على السرير توحي وكأنها ستنهار في أي لحظة.
وبعد أن طمأن الشابان كتفه، غادرا الكوخ بحذر.
“…….”
“… كان.”
اقترب منه جيرونيمو في الماضي، مرتجف الجسد.
“… ستكون بخير.”
التفت كان أخيراً عن جسد لينا الممدّد.
“لينا بطبيعتها لا تنقاد لأحد. ستقوم حين تملّ من الاستلقاء، بطريقتها المعتادة.”
قال ذلك ببرود، لكن عينيه كانتا محمرتين.
حاول جيرونيمو قول شيء ثم أمسك لسانه، واكتفى بعد لحظة بالتحديق فيه، قبل أن يضمه بشدة.
“ما الذي تفعله؟ مقزز.”
“… لينا ستستيقظ حتماً.”
“هذا مؤكد. إنها معتادة على السفر كثيراً. وإن عادت لتجد البيت فوضى فستوبخنا. لذا، اتركني الآن.”
ابتسم كان ابتسامة عريضة وبدأ يجمع المكونات المبعثرة عن الأرض.
جلس جيرونيمو بجانبه يعاونه.
“لا تقلق. حتى لو غابت عن البيت طويلًا، كانت دائمًا تعود إليه.”
“لو كان لدي بيت كهذا، لوددت العودة أيضاً.”
“… ومن الذي كان يصرخ مطالبًا بالرحيل قبل أن تلتئم جراحه حتى؟”
ابتسما وهما يتبادلان النظر.
لكن فجأة صُخب صوت جامد متخشب فوق صور الماضي:
“لكن في تلك الرحلة، لينا لم تعد أبداً.”
“… إذن، هل ماتت؟”
أجاب جيرونيمو بوجه مفعم بالألم وهو يهز رأسه:
“… لو أنها ماتت لكان الأمر أهون. لكنها لم تَفقد أنفاسها تماماً، ولم تستعد وعيها أيضاً… وظلت على تلك الحال ثلاث سنوات كاملة.”
“…….”
“ومنذ ذلك الوقت، لم يعد كان يحافظ على البيت كما كان.”
اهتز المشهد، وإذا بالكوخ النظيف قد غطّاه الغبار واتّسخ.
الموقد الذي كان يضيء المكان قد انطفأ منذ زمن، والأثاث متّسخ بالتراب.
وحدها لينا الممدة بلا حراك في السرير، بدت نقية كما هي.
جلس أمامها جيرونيمو وقد غلبه النعاس على كرسي، ثم ظهر “كان” يقترب من خلفه.
“جيروم.”
“-أوه، عدتَ؟ عدتَ مبكراً اليوم.”
“… لدي ما أود قوله.”
كان وجه “كان” متغيرًا، هزيلاً ومشوهاً بفعل التعب، وكأنه شاخ أكثر من ثلاث سنوات.
‘… لقد أصبح أشبه بالكان الذي أعرفه الآن.’
أما جيرونيمو في الماضي فشعره طال قليلاً لكنه ظل مربوطاً بإحكام، متماسكًا أكثر من كان.
“ما الأمر؟ ما الذي تود قوله؟”
ابتسم جيرونيمو وهو يسأله، بينما ظل كان مطبق الشفتين يحدّق في الفراغ، ثم ببطء حوّل نظره نحو لينا.
ارتجفت عيناه وقد ارتسمت فيهما ابتسامة خافتة، كأنها مشوبة بالذكريات.
“تلك اللعينة… كم كانت تحب التجوال. لا بد أنها تشعر الآن بالاختناق في هذا الوضع.”
“حين تستيقظ سنخرج معها في نزهة. إلى التلة التي تحبها لينا…”
“لا.”
“ماذا؟”
هز كان رأسه مبتسمًا بخفة.
“لينا لن تعود أبداً.”
“… كان؟”
“كل ليلة أسمع صوتها. تقول إنها تختنق. تقول إنها تتألم كثيراً… وتطلب أن تنال حريتها أخيراً.”
تجمّد وجه جيرونيمو في لحظة.
“أنت مرهق جداً.”
“أنا بخير. أنت من يسهر ليلًا في رعايتها.”
“وأنت تعمل بلا توقف. لذلك أرهقك الأمر. نم جيداً، وغداً سنستيقظ و…”
“أنا أيضاً كذلك…!!”
صرخة “كان” قطعت كلامه كأنها طلقة.
“أنا أيضاً أموت من الألم… أن أراها في هذه الحال… أن أتخيل كم تشعر بالاختناق…”
“…….”
“منذ ذلك اليوم، حياتي لم تعد موجودة أصلاً… وهذا ما يعذبني.”
“…….”
“جمعتُ المال وجلبتُ كل الأطباء المشهورين. لكن… كلهم قالوا نفس الشيء: استسلم. هذا مستحيل…”
حدّق به جيرونيمو صامتاً. لعل الصمت كان كل ما يستطيع فعله.
“لذلك… أريد أن أترك لينا تذهب. من أجلها… ومن أجلي.”
“كان، ماذا تعني بتركها…؟”
أخرج كان من جيبه قارورة دواء صغيرة.
“هذا… خاص بلينا.”
“…….”
“هي نفسها رغم أنها صيّادة، أرادت أن تُنهي معاناة فريستها من دون ألم، فدفعت مالاً باهظاً لتشتريه من تاجر ساحر. بلا طعم، بلا وجع، ولا يترك أي أثر.”
“لا، لا تفعل.”
“لقد قضيت أشهراً في التردّد. وحتى بعدما حسمت أمري، واصلت تأجيله أشهراً أخرى. لكن لم أعد أستطيع التأجيل أكثر… اليوم هو يوم الوداع…”
“لاا!!”
اندفع جيرونيمو الذي كان يصغي بجمود، نحو “كان”.
“أعطني إياه الآن!”
“لا تفعل، جيروم.”
“قلت أعطني إياه!!”
ارتجّ الكوخ بصوت سقوطٍ مدوٍّ، إذ دُفع “كان” بلا قوة إلى الخلف ووقع أرضاً. لكنه لم يقل شيئاً، واكتفى بخفض رأسه بصمت.
عندها فقط بدا على جيرونيمو”
في الماضي وكأن عقله قد أفاق فجأة.
“آه… آسف… أنا…”
“…لا داعي للاعتذار.”
“لا، لا تقل ذلك يا كان. أنا… أنا…”
بينما يتمتم، ومضة غريبة أشرقت في عينيه.
“سأُنقذ لينا.”
“…كفى يا جيروم.”
“لستُ أمزح. أنا، أنا من سينقذ لينا. فلا تقل تلك الكلمات المروّعة بعد الآن، ولا تحمل همّاً…”
راح يهذي وكأنه مسحورٌ بفكرة علقت في رأسه:
“سأنقذها… لو كان لديّ ذلك الكأس…”
“جيروم، أظن أنك أنت من يحتاج إلى راحة الآن…”
كان ينظر إليه بعينين يملؤهما الخوف والقلق، لكن “
جيرونيمو في الماضي كان قد عقد عزمه بالفعل.
“لا، أنا بخير!! كان، فقط انتظر هنا قليلاً. سأذهب لأُنقذ لينا. وحتى ذلك الحين، لا تلمسها مطلقاً—”
“جيرونيمو…”
“انتظرني! أرجوك لا تفعل شيئاً، فقط انتظر!!”
“جيرونيمو…! إلى أين تذهب؟!”
لم يُصغِ لنداء كان، بل اندفع يفتح الباب ويخرج من الكوخ.
تبدّل الطيف، وإذا بي أراه في ليلةٍ مظلمة، في الباحة الخلفية، يحفر بجنون تحت شجرة.
“لا بد أنه هنا… أين هو…!”
كان قد حفر طويلاً، فامتلأت الأرض من حوله بالحفر.
“يجب أن أخرجه بسرعة… ها هو!”
استخرج من التراب كأساً من الذهب.
كان كأس ڤاليرا.
لم يُزل عنه الأوساخ العالقة، بل ملأه بالماء مباشرة.
وحدجته بدهشة، فتمتمت دون وعي:
“لا يُصدّق…”
“…….”
لم ينطق شبح جيرونيمو بشيء، لكن صمته وحده بدا كأنه تأكيد على حدسي السيّئ.
أما جيرونيمو في الماضي، فعضّ أصبعه بعنف حتى سال الدم، وقطراته انسابت في الكأس.
“…تم الأمر.”
ابتسم ابتسامة واهنة، ثم وضع الكأس على الأرض وضم يديه متوسّلاً، بينما جسده كله يرتجف بأنفاس متقطعة.
“أيها الآلهة… أتوسل إليكم. اجعلوا بقوتكم ألا يموت أحد في هذه القرية بسهولة. أنقذوا لينا… أعيدوها إليّ.”
“يا للغباء.”
تنهدت دون شعور، بينما كان شبح جيرونيمو يطبق عينيه متألماً من المشهد.
ومع ذلك، رفع الكأس وشربه دفعة واحدة.
وعلى الفور دوّى صوت كالرعد، وبرق خاطف شقّ الأفق.
ثم غشي المكان ظلام دامس.
وعندما فتحت عيني، وجدت نفسي مجدداً في فراغ أبيض خالٍ، اختفى منه كل أثرٍ للماضي، ولم يبقَ سوى أنا وشبح جيرونيمو.
“ومنذ ذلك الحين، كما تعلمين، تحققت أمنيتي.”
“…….”
“دعوتُ ألا يموت أحد في هذه القرية بسهولة.”
“وماذا عن لينا؟”
طرحت السؤال، وإن كنتُ قد خمّنت الجواب مسبقاً، إذ لم أرَ وجهها بين سكان القرية الأحيا الأموات.
“لينا… لم يطرأ عليها أي تغيير. لم يكن لديها وعي، لكنها أيضاً لم تكن قد ماتت تماماً، لذا لم تشملها الأمنية.”
“تبا…”
تنهدت بشدة، وقد عاد الجواب كما توقعت تماماً.
“لحسن الحظ، لينا لم تصبح ميتة حية مثل باقي سكان القرية، ولذلك تمكن كان من إنهاء الأمر بذلك السم. …كان ذلك أعظم نعمة.”
“…إذن، هل لهذا السبب سلّمت نفسك إلى القصر بعدما علمت أنك جعلت القرويين أحياءً أمواتاً؟”
“صحيح. اعتقدت أني بحاجة إلى المساعدة. لكن سحرة القصر فشلوا جميعاً، والإمبراطور قرر عزل كيلستون.”
“يا للأسف، يا للأسف…”
“لكنه كان أكثر اهتماماً بمصير كأس ڤاليرا. أما أنا، فقلت إنني فقدته أثناء الهرب، بينما في الحقيقة كنت قد أخفيته في صورة تمثال للنافورة.”
“أحسنتَ إذن، فقد كان ذلك خير قرار. فلا ينبغي أن يقع الكأس في يد البلاط الإمبراطوري.”
“حين جرّبت قوته، أيقنت أن هذا ليس شيئاً يجوز للبشر أن يستعملوه. ولهذا السبب أرجوكِ أن تحطميه.”
“…….”
“وفوق ذلك… إن زالت تلك القوة، فإن أرواح القرويين ستنال الخلاص. أعلم أني أثقل عليكِ بخطئي، لكن أرجوكِ… ساعديني.”
“لكن…”
أدرت وجهي عن عينيه.
‘لكن ذلك هو أمل أركل الوحيد.’
بدا أن جيرونيمو قد قرأ ما يجول في خاطري، فقال:
“…إن كنتِ تفكرين باستخدامه، فالأجدر بكِ أن تعيدي التفكير. لا تستهيني بالثمن.”
“الثمن؟”
“أما كنت تعلمين؟ من يستخدم كأس ڤاليرا، يقدّم روحه ثمناً. لم أعلم ذلك إلا بعد أن تمنيت.”
“هذا… يساوي أن تُسلب روحك، أليس كذلك؟”
أومأ جيرونيمو ببطء.
تجمدت، وقد صعقني هذا الكلام.
فهذا يعني أن أركل لو استخدم قوة الكأس وهو لا يعرف، كان سيفقد روحه!
‘أمر بهذه الخطورة… لماذا لم يكن مارڤين يعرفه؟ أو ربما… هل كان يعرف وتجاهل؟’
أخذ عقلي الذي كان يعمل بسرعة يتوقف فجأة وكأنه تجمد.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 79"