في الساحة المركزية أمام النافورة، كنتُ أنا ومارڤين ولاكو نرفع أبصارنا طويلاً نحو التمثال القابع فوقها.
وعلى خلاف النافورة المحطَّمة والمتصدعة في كل موضع، كان التمثال المعلّق أعلاها، على الرغم من أنه قد صدئ حتى صار أقرب إلى البني، لا يزال يحافظ بعناد على شكله الأصلي دون أن يتفتت.
قال مارڤين وهو يحدّق بين الورقة التي رُسمت عليها الهيئة التي استخلصها بواسطة التحكّم بالأرواح، وبين تمثال الغراب:
“حقاً… هكذا أراه متطابقاً!”
تمتم ثم تابع بدهشة:
“مذهل… كنتُ أتساءل لِمَ لم نجد أي خيطٍ أو أثر، فإذا به مخبَّأ في أرض الموتى الاحياء…”
أضاف لاكو وهو يحدق بتمعن في التمثال ويهز رأسه:
“لا شك في الأمر، الشكل هو ذاته الذي رأيتُه يا سيدتي.”
ثم أردف كاشفاً بلا اكتراث:
“أو بالأحرى، إنه الشكل الذي رآه الروح الذي أودعته جسدي… أوي، لمَ تضربني أيها الوغد؟!”
ضحك مارڤين وهو يربت على ظهره قائلاً:
“روح؟! يا لاكو، لقد عثرنا على هذا الدليل صدفةً فحسب.”
زمجر لاكو وقد احمرّ وجهه:
“تخشى أن تنالني سيدتي بالثناء قبلك، أليس كذلك؟! هاه! على كل حال، سأعثر على الكأس قبل أن تفعل، وأخدمها على أكمل وجه!”
ابتسم مارڤين هادئاً وسلمه المجرف الذي جلبه من كايين قائلاً:
“حسناً، فابدأ إذن بالحفر بهذا.”
لكن لاكو لم يرق له ذلك، فاكتفى بالتحديق بين المجرف ووجه مارڤين بغيظ.
“ابعده! أتجرؤ أن تأمرني؟!”
ابتسم مارڤين:
“لكنك أنت من قلت إنك ترغب في ثناء سيدتك.”
صاح باكو بغضب:
“اصمت! كيف لوغد مثلك أن يتحدث هكذا إلى من يحظى بمحبّة سيدته…!”
ناديتُه ببرود:
“لاكو.”
فصمت فجأة مدركاً من نبرة صوتي أنني في مزاجٍ لا يسمح بالمزيد.
كما اعتاد على تصرفاتي، أدرك أن هذا مؤشر على أنني لست راضية.
قلت ببرود:
“متى أخبرتك أنني أحبك؟”
تلعثم:
“يـ… يا سيدتي… هل غضبتِ؟”
أجبت بهدوء، فيما هو يتصبب خوفاً:
“لقد أخطأتُ… كانت كلمات متغطرسة…!! أرجوكِ، لا تتخلي عني! لن أكررها…!”
لقد كنت قد خوّفته من قبل مرةً، ويبدو أن ذلك الدرس ترسّخ في أعماقه.
“أرجوكِ… لا تترُكيني…”
نظرتُ إليه ببرود بينما كان يلوّح بيديه متوسلاً، ثم ابتسمتُ بخفة:
“أتخلى عنك؟ نحن في أمسّ الحاجة لكل يدٍ عاملة.”
ومسحتُ رأسه مطمئنةً له، كما لو كنت أربّت على كلب.
تنفس بارتياح:
“إذن… إذن لم تغضبي من غطرستي؟”
ثم سألته بابتسامة جانبية:
“أليس كل ما تريده هو أن تحظى بحبّي يا لاكو؟”
احمرّ وجهه أكثر وقال وهو يكاد يلهث:
“إن كان ذلك ممكناً… سأفعل أي شيء!”
فقلت بلهجة حاسمة:
“إذن، ابحث عن كأس ڤاليرا.”
واصلت النظر في عينيه وأنا أتابع مداعبة شعره ببطء:
“حتى لو لم تنل الحب، فاعترافٌ منّي يكفيك. لكن ذلك الاعتراف باهظ الثمن… وأقل ما يستحقه هو العثور على الكأس المقدسة.”
همس مبهوراً:
“الاعتراف… لو حظيتُ باعتراف سيدتي…”
اشتعلت عيناه بجنون مرة أخرى، وقال بلهفة:
“أتأذنين لي إذن؟”
“بالطبع.”
“أشكركِ سيدتي!”
ثم أمسك بالمجرق مثل كلبٍ متحمس وراح يلهث فرحاً:
“سأجدها حالاً وأُسعدكِ بها! انتظريني قليلاً فقط يا سيدتي!”
واندفع يحفر أرض الساحة بجنون.
صفقتُ يدي بارتياح:
“يبدو أنه وجد ما يلائمه!”
لكن مارڤين تمتم مذهولاً:
“سيدتي… لقد قلتِ مرة إنني بارع في التعامل مع لاكو، لكنكِ تفوقينني بكثير. إنك تتحكمين في نفسيته بمهارة لدرجة لا تحتاجين معه لأي تعويذة سيطرة عقلية.”
ابتسمت بسخرية:
“تعتبره مديحاً إذن؟”
“بالطبع! أتعلمين كم هو عسير ذلك حتى على السحرة السود؟ وأنت تفعلينه بيسر عجيب!”
لم أدرِ إن كان يمدحني فعلاً أم يسخر، لكنني اكتفيت بقبول كلامه.
“هاها… تعويذة السيطرة العقلية؟ لعلّي أستفيد من ذلك.”
قال بعدها:
“على أي حال، فلنترك الأرض لـ لاكو، وسأتولى أنا النظر داخل النافورة بعين السحر.”
“مارڤين، كيف يبدو كأس ڤاليرا؟”
أجاب متردداً:
“في الحقيقة… لا أحد يعرف.”
فدهشت:
“ماذا؟ إذن ربما لا وجود له أصلاً؟!”
هز رأسه بسرعة:
“لا، لقد قلتُ من قبل: إنه موجود حقاً. سجلات القصر الإمبراطوري تذكر أنه حُفظ لديهم. وتلك السجلات لا تخطئ. أضمن ذلك بخبرتي في البلاط.”
فكرت قليلاً ثم عقّبت:
“لكن إن كنا لا نعرف شكله، فكيف نتأكد أننا وجدناه؟”
ابتسم وقال بثقة:
“لا تقلقي. الأثر المقدس يتفاعل مع السحر والقوة المقدسة. وأنتِ تمتلكين القوة المقدسة، لذا لن تخطئي في تمييزه.”
“ماذا تعني بالتفاعل؟”
أجاب بعد تردد:
“ليس معنى محدداً، بل ظاهرة تحدث… يصعب شرحها. لكنك سترينها بنفسك، ولن يكون ثمة مجال للشك.”
“حسناً، سأثق بك.”
“إذن سأبدأ بالتعويذة.”
ووضع يده على النافورة، وأغمض عينيه متمتماً بتعويذة خافتة.
وما لبث أن فتحهما حتى تلألأت عيناه بحمرة خفيفة.
تمتم دون أن يزيح بصره عن النافورة:
“هذه التعويذة تستهلك الكثير من طاقتي، لذا وقتي محدود… سأبذل قصارى جهدي.”
“اعتمد عليك. أما أنا فسأفتش الساحة.”
حذّرني قبل أن أغادر:
“توخي الحذر… أشعر بوجود هالة شريرة ضعيفة في هذا المكان.”
شهقتُ:
“هالة شريرة؟!”
لكنني لم أشأ أن أقطع تركيزه، فابتعدتُ متوجهةً إلى أشجار الساحة.
وبدأتُ أقول في نفسي:
‘لعلّي أبدأ من تلك الشجرة العتيقة هناك.’
كانت شجرة ضخمة، تبدو من عمر القرون.
اقتربتُ منها وقلتُ:
“لو كان ثمة ما يُخفى، فربما يكون داخلها.”
وأدخلت رأسي في التجويف الكبير بجذعها، لكنني لم أجد شيئاً.
“حسناً، كنتُ أعلم أنه سيكون سهلاً لو كان هنا.”
فتشت بعناية عن أي أثرٍ لنبشٍ أو طمرٍ ثم أعدتُ رأسي للخارج.
“لا فروع كثيرة عليها، فلا يمكن إخفاء شيء فوقها.”
فأعلنت في نفسي:
“هذه بلا فائدة!”
ثم اتجهت نحو سياج الورود الملتف إلى يمين الشجرة، وأنا أعزم على أن أتفقد جميع الزوايا من حول الساحة باتجاه عقارب الساعة.
‘من حسن الحظ أنني أحضرتُ معي كل الأدوات من كايين.’
ارتديتُ قفازين سميكين استعرتُهما من البستاني، ثم بدأتُ أزيح أغصان شجيرة الورد بحذر.
‘هنا أيضاً… لا شيء. هذه محاولة خاسرة أخرى.’
بعدها اتجهتُ إلى يمين شجيرة الورود، حيث كوخ صغير مهجور متهالك.
‘يبدو أن الصعوبة تزداد تدريجياً… لكن فلنمضِ!’
شمّرتُ عن ساعدي وأمسكت شمعة واحدة، ثم ولجتُ بحزم عبر الباب المهترئ الذي يكاد يسقط من مفاصله.
لم يكن المنزل كبيراً، فعدا الغرفة التي دخلتها أشبه بصالة صغيرة لم يكن فيه سوى غرفتين.
هَبَّت ريح في تلك اللحظة، وكادت تُطفئ شعلتي.
دوّي!
ارتجفتُ من تلقاء نفسي عند صوت الباب وهو ينغلق فجأة.
لعل الريح هي التي أوصدته.
ومع أن الباب قد أغلق، ظل هواء بارد يتسلل في أرجاء المنزل، وصوتُه الغريب بدا وكأنه همهمات بشرية.
“لن تخرج… لن تخرج بعد الآن…”
عندها تبادرت إلى ذهني كلمات مارڤين:
“توخي الحذر، فأنا أشعر بهالةٍ شريرة ضعيفة تنبعث من هذا المكان…”
‘مهلاً لحظة… أهذا هو ما كان يسمّى في حياتي السابقة “الهروب من الغرفة”؟!’
لطالما رغبتُ في تجربته مرة واحدة! بل وفي بيت أشباح حقيقي!!
أن أتمكن من خوض تجربة “الهروب من الغرفة” داخل بيت أشباح فعلي… هذه فرصة لا تُمنح للجميع.
قد يُرعب الأمر سواي، لكن عقلي كان يغلي حماسةً.
“في ألعاب الهروب من الغرفة، ينبغي أن تجد المفتاح وتخرج، أليس كذلك؟ إذن، سأجد الكأس المقدسة وأخرج من هنا!”
رفعتُ إصبعي في الهواء متحديةً الأرواح التي قد تكون في المكان، ثم شرعتُ أفتش القاعة بحثاً عن المفتاح… أو بالأحرى، عن الكأس.
“همم، ليس هنا… حسناً، الغرفة التالية! ما هذا، تبدو سهلة أيضاً. هل يُعقل أن تكون اللعبة بهذه البساطة؟”
وبينما كنت أفتش الغرفة الصغيرة بحماس، خُيّل إليّ أنني أسمع من خلفي همساً يقول:
“ما… ما هذا المخلوق الغريب…؟”
لكن رغم أنني قلبتُ الغرفة رأساً على عقب، لم أجد الكأس فيها.
“كنتُ أترقّب شيئاً مثيراً… لا كأس، ولا فخاخ، لا شيء سوى الأشباح. مخيّب! ألا تعتمدون أكثر مما ينبغي على مجرد وجود أشباح حقيقية؟ يجب أن تكونوا أكثر إبداعاً من هذا!”
“اخرجي…”
“هكذا تخاطبون الضيوف؟ بيت الأشباح هذا يفتقر لروح الإتقان.”
“أرجوكِ… غادري…”
وبذلك أدركتُ أن الكوخ المهجور أيضاً لا جدوى منه. فاتجهتُ إلى التمثال الصدئ الذي يليه.
‘وهذا أيضاً… لا شيء.’
ثم تفقدت أربع شجرات معمّرة أخرى، وعريشتين، وست شجرات غريبة النوع، ومقعداً قديماً، وحتى كومة حجارة… لكن جميعها خابت.
بهذا، أكون قد تفقدتُ كل ما في الساحة من معالم.
غير أنني لم أرَ لا الكأس، ولا حتى شيئاً يُشبهه.
‘مهلاً… ربما لا يكون الكأس على هيئته المعتادة. هل فاتني أثر ما؟’
لكن مارڤين قال بثقة إنه من المستحيل أن أخطئه حين أراه. وحتى الآن لم يكن هناك ما يثير أي ظن.
‘أم تراهم…مارڤين أو لاكو، سبقاني إلى العثور عليه؟’
وما إن راودتني هذه الفكرة، حتى دوّى صوت صراخ حانق في الأجواء.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 72"