هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 71 ]
‘ظاهريًّا لا يبدو أنّ شيئًا قد تغيّر…’
لكن أجواء القرية بدت مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه في زيارتي السابقة.
أكثر ما لفت انتباهي أنّ الشوارع كانت مضاءة.
‘آخر مرة جئت فيها لم يكن هناك بيت واحد مضاء!’
أما الآن فقد كان النور حاضرًا.
“آه…!”
إذ بامرأة كانت تسير من بعيد تراني فتتوقف مذهولة، وتشير إليّ صارخة:
“السيّدة… ليزي…!”
لماذا بدا وجهها مألوفًا…؟
‘ثم، شكرًا لكِ… لأنكِ لم تخافي منا، ولم تشعري بالاشمئزاز منّا. لقد مرّ زمن طويل منذ آخر مرة بذلتُ فيها جهدي في شيء ما… لقد كان حقًّا ممتعًا.’
“آه!”
إنها الشابة التي كانت قد ألقت عليّ التحية بخجل في ذلك الحين.
ابتسمتُ لها بفرح وتقدّمتُ ممسكة يدها:
“كيف حالك؟! لقد مرّ وقت طويل!”
“نعم… مرّ وقت طويل. لقد عدتِ أخيرًا.”
ابتسمت هي الأخرى وكأنها سعيدة بلقائي.
“السيّدة ليزي… الجميع كانوا يفتقدونك… حين يعرفون أنك عدت، سيفرحون كثيرًا. لم نكن نظن أنكِ ستعودين بهذه السرعة… أنا سعيدة.”
“لقد قلتُ إننا سنلتقي قريبًا. أين الجميع؟ عندي أخبار أودّ إبلاغهم بها!”
“الآخرون… في قاعة الاجتماعات. اليوم… يوم الإعلان.”
“يوم الإعلان؟”
سألتها بدهشة، فأجابت بابتسامة مفعمة بالفخر:
“تعالي معي. سيعجبك الأمر يا سيّدة ليزي.”
قادَتنا إلى أمام قصر خشبي ضخم.
“هذا لم يكن موجودًا في المرة الماضية!”
تمتمتُ مبهورة وأنا أحدّق بالبناء.
“لقد شُيّد بعد مغادرتكِ…”
قالت ذلك وهي تضحك بخفّة من ردّة فعلي، ثم فتحت الباب بلطف.
“نحن نتدرّب هنا على التمثيل معًا. نؤدّي أدوارًا لبعضنا البعض… ونعطي النصائح… أما الآن…”
وفجأة—
“حريق!!”
ارتفع صراخ يائس من داخل المبنى.
‘هذه الرائحة… الأمر حقيقي.’
تسرّب من فتحة الباب المفتوح دخان خانق ورائحة احتراق.
وبما أنّ المبنى من الخشب، فسوف تلتهمه النيران بسرعة.
“أركل!”
تلاقت أعيننا، فما كان منه إلا أن وضع يده على فمه واقتحم المبنى عابرًا بسرعة مذهلة، بدافع غريزي.
“مارڤين، لاكو! أسرعا!”
أشرت إلى الساحرَين وركضت خلف أركل دون تردّد.
“سيّدة ليزي…!”
نادَتني المرأة من خلفي.
“لا تقلقي، انتظرينا في الخارج!”
صحتُ دون أن ألتفت، وأنا أجري في الممر الطويل حتى وجدتُ غرفة يتصاعد منها الدخان الكثيف.
كان الباب قد حُطِّم بالفعل، لا بد أنّ أركل سبقني إلى الداخل.
غطّيت فمي بطرف ثوبي وهتفت:
“مارڤين، لاكو— اسكبا الماء بسرعة، كُح، كُح!”
“حسناً!”
مدّ مارڤين يده نحو ألسنة اللهب وهو يتلو تعويذة.
“باسم أوامر السيّدة الحاكمة!”
وفي الوقت نفسه شكّل لاكو ختمًا بيديه وبدأ يتمتم بتعويذة بلغة غريبة:
“ɵŋß, ɵŋß, ɵŋߨ….”
ركز الاثنان كامل طاقتهما، وبعد لحظات—
شششهااااااه!
انهمرت من السقف كميات هائلة من الماء.
“….”
“…آه… أ….”
السكّان الذين كانوا محاصرين في الغرفة ابتلّوا دفعة واحدة وهم يرمشون بأعينهم المبلّلة.
“الجميع… الحمد لله أنكم بخير!”
ابتسمتُ براحة ودخلت الغرفة.
كان أركل مبلّلًا تمامًا أيضًا، ويحمل أحد الرجال على ظهره عند النافذة المحطّمة، محاولًا إخراجه.
“أنزلني… أنزلني…!”
وحين نظرت جيدًا، أدركت أنّ الرجل الذي يتخبّط بين ذراعي أركل لم يكن سوى كان.
“كان! هل أصابك مكروه؟ ما الذي حدث؟”
“…سيّدة ليزي، المخرجة…!”
صاح بي حين رآني وكأنّ اللقاء أسعده.
“مرّ وقت طويل، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ وأنا أقترب منه. لكن أركل ظلّ ممسكًا به ولم يتركه.
“أركل، يمكنك أن تُنزله الآن. لماذا ما زلت تحاول رميه من النافذة؟”
“…اكتشفتِ أمري إذن.”
غمغم أركل وكأنه كُشف، ثم أنزله على الأرض.
“الجميع، المخرجة ليزي… قد عادت!”
صرخ كان وهو ينظر إلى بقية السكّان. فما كان منهم إلا أن هتفوا باسمي بفرح ملتفّين حولي.
“س-سيّدة… ليزي… أوه… المخرجة…”
“انتظرناك… انتظرناك طويلاً…”
التفتُّ إليهم واحدًا واحدًا، ملاقية أعينهم بتحية صادقة.
“وأنا أيضًا افتقدتكم.”
قال كان بصوت دافئ:
“كما أوصيتينا يا مخرجة ليزي… كنا نتدرّب، نتدرّب على التمثيل… اجتمعنا هنا معًا من أجل ذلك….”
وأضاف:
“لقد شيّدنا هذا المكان بعد رحيلك، خصيصًا لذلك الغرض.”
“سمعت بذلك. لا بدّ أنكم أصبحتم ممثلين بارعين الآن! وهذا يطمئنني أنّ بإمكاني خوض العمل الجديد معكم مطمئنًّا!”
صفقتُ بيدي فرحًا، فإذا بعيني كان تتسعان بدهشة.
“العمل الجديد… تقصدين، نصنع فيلمًا آخر؟”
“صحيح. سنصوّر الفيلم القادم أيضًا هنا في كيلستون، معكم جميعًا!”
ساد صمت قصير، ثم انفجر المكان بالهتاف.
“ا-الفيلم القادم!”
“أردنا هذا… انتظرنا طويلاً!”
حتى كان نفسه نظر إليّ بفرح غامر:
“…شكرًا لك، لقد وفيتِ بالوعد.”
“هذا أمر طبيعي.”
وبينما كنا نتبادل النظرات الدافئة، ظهر أركل فجأة ليقطع اللحظة.
“ألا نخرج الآن؟ لم يُعرف سبب الحريق بعد، والوجود هنا خطر.”
“آه… أما بخصوص ذلك…”
جاء صوت كان من خلف اركل، محجوبًا عن عيني:
“لا تقلقوا… أنا من أشعل النار.”
“ماذا؟!”
اتسعت عيناي من الدهشة.
حاولت أن ألتفت إليه لكن أركل ظل يتحرّك معي بعناد ليحجبني عنه، فاضطررت للكلام معه من خلفه.
“أشعلت النار عمدًا؟ لماذا؟!”
“اليوم هو… يوم الإعلان.”
حينها تذكرت أن المرأة التي التقيتها عند مدخل القرية قالت شيئًا مشابهًا، لكنني لم أستمع للتفاصيل.
“إنه اليوم الذي نختبر فيه ما بلغناه من تقدّم… كل واحد يقدّم مشهدًا تمثيليًا أمام الجميع.”
لكن رغم تفسيره، ظل الأمر غير مفهوم لي.
“فكرة جميلة… لكن ما علاقة ذلك بإشعال النار؟”
“النار كانت… مجرد أداة تمثيل، مجرّد إكسسوار.”
رمشتُ بذهول.
النار… إكسسوار؟ هل أخطأتُ في معنى كلمة إكسسوار؟
لم أعد أحتمل، فتجاوزت أركل بخفة وأمسكت بكتف كان.
“كان… ما الذي كنتم تفعلونه طوال هذا الوقت؟”
“كنا نتدرّب على التمثيل.”
“باستخدام النار كإكسسوار؟”
“نعم، بالضبط.”
أجاب كان ببرود وكأن الأمر طبيعي.
“لكن أثناء التمثيل… اكتشفت مشكلة واحدة. مشكلة يشترك فيها كل سكان القرية…”
“وما هي؟”
“أننا… فقدنا إحساسنا. لم نعد نشعر بفرح، ولا بحزن، ولا بألم…”
“…….”
“لم نستطع حتى تخيّل تلك المشاعر… أو بالأحرى، لم نعد نتذكرها. فالحلّ الوحيد كان أن نعيش تلك التجارب حقًّا. فمهما حصل… نحن لا نموت.”
‘صحيح…’
كنت قد نسيت للحظة أنهم موتى أحياء.
في خضم الموقف العاجل لم أفكر إلا في إنقاذ الأرواح من النيران.
“لكن حتى إن لم تموتوا… فالحروق وآثار النار تبقى نفسها.”
“صحيح… لذلك نستخدم هذا الإكسسوار فقط يوم الإعلان. واليوم كان دوري أن أمثل دور طفل فقد أسرته في حريق.”
“إذن، كان صوت الاستغاثة منذ قليل صوتك أنت؟”
“نعم.”
هز رأسه وأشار خلفي.
لم أنتبه من قبل، لكن عند المدخل كان هناك دلوان كبيران من الماء.
“حرصنا على تجهيز الماء لإطفاء النار فورًا حتى لا يلتهم المبنى. لم نحتج إليه في النهاية.”
“هاهاها…”
ابتسمتُ مرتبكة وقد بدا الموقف كله غريبًا عليّ.
“إذن كنتم تتدرّبون طوال الوقت بهذه الطريقة؟ تعيشون كل شيء حقيقة؟”
“نعم… مثلًا، في مشهد شرب السم… شرب أحدهم فعلًا سمًّا خفيفًا وأصابه مغص. وفي مشهد قتال… استخدموا سيوفًا حقيقية وطعنوا بعضهم.”
“…أما أنا فأستأذن بالانسحاب.”
قالها هوان الذي كان قد لحق بنا متأخرًا، شاحب الوجه، وقد بدا أنه لم يحتمل سماع ما جرى.
والمفارقة أنّ الممثل أركل لم يتأثر، بينما مساعد المخرجة هوان كاد يُغمى عليه.
أسرعت وأمسكت ذراعه:
“إلى أين يا هوان؟! أنت لست ممثلًا أصلًا.”
“لكن…!! حتى إن كنت لست ممثلًا، فهذا غير مسموح! لا يمكن للسيد أن يشارك في هذا أيضًا!”
قال أركل ببرود:
“لا بأس عندي.”
“لا يجوز!!”
صرخ هوان مصدومًا، ثم التفت إليّ بسرعة:
“سيّدة ليزي! بما أنني مساعدك، أليس لي حق في الإشراف على موقع التصوير؟”
“طبعًا! في غيابي تكون أنت بمثابة المخرج.”
“سمعتم جميعًا؟!”
قالها هوان بصوت عالٍ وهو يلتفت إلى أركل وكان وبقية السكان، مؤكدًا لهم:
“بصفتي مساعد المخرج، عليكم إطاعة أوامري. من الآن فصاعدًا يُمنع استخدام أي شيء حقيقي كإكسسوار. الإكسسوار يجب أن يكون مجرّد تمثيل، لا حقيقة!”
“لكن…”
“لا نقاش! إشعال النار أو الطعن بالسيوف ممنوع تمامًا. هذا قرار نهائي. أليس كذلك، أيها المخرج؟”
“هممم، إن كان هذا يُسهل عليك ضبط الموقع يا هوان، فلا بأس.”
“أشكرك.”
قالها وهو يرفع نظارته مطمئنًا. بدا أنّ فكرة هروبه قد زالت الآن.
ربّتُّ على ظهره مشجعة:
“إذن، أيها المساعد! وزّع النصوص التي جلبناها في العربة على الجميع، وابدؤوا قراءة النصوص بصوت عالٍ حتى أعود، فلديّ أمر آخر أقوم به.”
“حسناً. أيها الجميع، اتبعوني!”
صفّق هوان بيديه ثم قاد أركل وأهل القرية إلى قاعة أخرى.
وبقيت أنا مع مارڤين وااكو فقط.
“لدينا عمل يجب إنجازه، أليس كذلك؟”
قالها مارڤين بجدية وهو يومئ.
أما لاكو فكان ينظر إليّ بعينين مبهورتين:
“آه، سيدتي الحاكمة… أصدري أوامرك فقط، فأنا عبدك الوفي— أغمم!”
سدّ مارڤين فمه بلا اكتراث، بينما تابعتُ كلامي بهدوء وكأن الأمر مألوف لديّ:
“علينا أن نبحث الآن عن كأس ڤاليرا المقدس.”
“نعم، سيدتي. سأبذل قصارى جهدي لمساعدتك.”
“أغمم!”
“لاكو، هذه أوامر. عليك أن تصمت في الطريق إلى الساحة.”
قلتها مبتسمة بلطف، فما كان منه إلا أن احمرّ وجهه وأومأ بحماس.
“إذن، إلى الساحة المركزية! لا بد أن الكأس مخبأ هناك، قرب تمثال الغراب.”
*****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 71"