وسط أنفاس متقطّعة، كان أركل يحدّق في وجه ليزِي أليهايم دون أن يرمش.
خرج من بين شفتيه أنينٌ خافت، كأن الألم قد انتزع منه صوته رغمًا عنه.
أمّا ليزِي، فاكتفت بالتفرّس فيه بصمت.
“…آنستي القديسة.”
“……”
“ألَن تُسعفيني؟”
لكنها لم تتحرك، بل ظلّت ساكنة كأنها لم تسمع شيئًا.
‘هل طلبتُ ما لا يُحتمل؟’
ابتسم أركل بمرارة في داخله وهو يتأمّلها.
أسرة القديسين الرحماء… بيت أليهايم.
منذ أن سمع بهذا الاسم أول مرة، لم يرَ فيه سوى سخرية.
فالعطاء في نظره ليس إلا وجهًا آخر للأنانية، فالمرء يفعل الخير ليُرضي نفسه قبل غيره.
لذلك حين رأى ليزِي قبل قليل وهي تعفو عن الخدم في المزرعة… لم يستوعب الأمر.
‘لا أفهم….’
ولعلّ ذلك ما جعله يزداد دهشة منها.
غير أنّه كان متأكداً أن حتى ليزِي، برغم كل ما تفعله، لن تترفّع إلى حدّ مدّ يد العون لخاطفها وعدوّها.
‘إن لم تسخر من هذا المشهد، فذلك يكفيني.’
كان يعلم أن القوة المقدّسة لا يمكن استدعاؤها قسرًا.
لا سبيل سوى أن تُطلقها صاحبتها بملء إرادتها.
‘هل عليّ أن أضغط عليها أكثر؟’
لم يكن يرغب في اللجوء إلى الأسلوب الخشن، لكن جسده كان يتفكك تحت وطأة الألم الذي ازداد احتراقًا مع كل نفس.
انعقد حاجباه وهو يبتلع ريقه بصعوبة، فيما رأسه يوشك أن ينفجر.
ورغم يقينه من استحالة إجبارها، مدّ يده نحوها، كمن يبحث عن آخر خيط يربطه بالحياة.
لم يكن يدري ما الذي سيفعل بعد أن يمسك بها، لكنّه شعر أنّها وحدها ملاذه الأخير.
‘قليلًا فقط… لتكون أقرب…’
وما كاد يُوشك أن يلمس معصمها الناصع، حتى شعر بدفءٍ يغمر وجنته.
إنها يدها… لقد وضعت كفّها على خده.
تجمّد أركل، يحدّق فيها بصمت؛ هذه هي الرحمة التي انتظرها من القديسة.
“……”
“هل خفّ الألم؟”
سألته وهي تنظر إليه بوجه يفيض بالقلق.
قيل إن لمسة يدها وحدها قادرة على محو الألم…
“…لست متيقناً.”
تمتم بعد تردد، وحاجباه يقطّبان.
“لا أشعر بشيء… لعلّ قوّتك لا تجدي معي. أو ربما….”
بدت نظراته ضبابية وهو يحدّق في عينيها، ثم تحرّكت شفتاه بصوت منخفضٍ متكسّر:
“قد تكون اللمسة وحدها… غير كافية.”
❖ ❖ ❖
كنتُ أتابع أركل في صمت.
‘كيف أدرك ذلك؟ صحيح… اللمسة وحدها لا تكفي.’
اشتهرت ليزِي أليهايم بقدرة عجيبة، وهي الشفاء بمجرّد اللمس.
لكن الحقيقة أن لهذه القوة شرطًا خفيًّا…
إنها لا تعمل إلا إن انبثق من قلب المريض شعورٌ صادق بالاحترام لمن يلمسه.
لقد نالت ليزِي ذلك بسهولة، إذ كانت حياتها سلسلة من أعمال الخير والعطاء، ومن ثمّ أحاطها الجميع بتقدير حقيقي، فكان الشفاء يتحقق تلقائيًا.
لكن العالم لم يعرف هذه الحقيقة، فانتشرت شائعة أنّها تشفي بلمسة يد فحسب.
بل إن هذه الحقيقة لا تُكشف للعلن إلا بعد موتها، حين صاح جين أليهايم في وجه خصومه:
“هيهات أن تُجدي قوة القديسة معكم! فأنتم لا تعرفون الرحمة ولا تحملون في قلوبكم شيئًا من التقدير!”
ولكن… هل يمكن أن ينبع من أركل مثل هذا الشعور؟
ذلك الرجل الذي لا يؤمن بشيء، ولا يثق بأحد، ولا يرغب في أي شيء…!
على خلاف مارثا الطموحة أو ناران المتعطش للاعتراف، أركل لم يطلب شيئًا من الحياة.
حتى هذه القوة الجبارة التي تلتهمه الآن لم تكن بإرادته.
كيف لفراغ كهذا أن يلد إخلاصًا؟
‘لهذا لم أستطع أن أعده بالشفاء حالًا…’
مددت يدي إلى خده علّ اللمسة تثير القوة، لكن يبدو أن الشرط لم يتحقق، فلم ينبثق شيء.
‘إن اكتشف أني بلا جدوى عنده… سأُمحى.’
ارتجف قلبي، ثم سمعت أنينه يتردّد من جديد.
“آه….”
كان يعضّ على أسنانه بقسوة، وجهه يغرق في عرقٍ بارد.
‘…مهلاً.’
خاطرة خاطفة أضاءت ذهني.
‘إن كان الشفاء يتطلب صدق الشعور، فلماذا يجب أن يكون الاحترام وحده؟ أليس الصدق قد ينبع من مشاعر أخرى أيضًا؟’
الإخلاص لا يقتصر على النُبل والجمال.
هناك صدق أشد وقعًا… وهو الصادر من الألم.
والآن، أركل غارق في أشدّ المشاعر صدقًا، الرجاء الممزوج بالعذاب.
لقد جُرّحتُ من قبل وعشتُ الألم طويلًا، وأعرف…
أعرف أن الرجاء المتفجر من جوف المعاناة، صدقه يفوق كل تقديس.
‘ربما… هذه الحقيقة أعمق من أي احترام.’
فتحت فمي ببطء، وخاطبته بصوت هادئ:
“أركل.”
رفع عينيه إليّ، تتلألأ على جبينه حبات العرق، وحرارة الحُمّى تصبغ وجهه بحمرة قاتمة.
“أريد منك شيئًا.”
“طلب…؟”
“إنك تتألم بشدّة الآن، أليس كذلك؟”
“……؟”
أطرق نحوي بنظرة حائرة، كأنه يتساءل، وما جدوى سؤالي الواضح؟
أنا أيضًا أدركت أنّه سؤال لا لزوم له.
كان وجهه يصرخ برغبة واحدة، أن يتخلّص من هذا العذاب بأي ثمن.
“ألا تشعر أحيانًا أنك تفضّل الموت على هذا الألم؟”
“……”
“ألن تفعل أي شيء لتنسى هذا العذاب؟”
“…صحيح.”
أومأ أخيرًا، وكأن الكلمة خرجت من أعماق قلبه.
ابتسمتُ في مرارة، ثم قلت:
“إذن اجعل هذا الرجاء قوتك… واطلب.
اطلب منّي أن ألمسك.”
حين سمِع أركل كلامي بدت على وجهه علامات الحيرة، وكأنه لم يفهم مقصدي.
قال بنبرة متسائلة:
“ولماذا تطلبين مني مثل هذا الطلب الغريب؟”
أجبته بهدوء:
“لأن إطلاق قوة القداسة مشروط بأمرٍ ما.”
“وما هو ذلك الشرط؟”
ترددت لحظة، ثم قررت أن أكون صريحة:
“عليك أن تُظهر لي التوقير. شعوراً صادقاً يخرج من أعماق قلبك…”
ضحك أركل بخفة، ضحكة أشبه بالسخرية.
“غريب… أليست هذه القوة في الأصل قوةً تهدف إلى مساعدة الناس من غير شروط؟”
قلت وأنا أحدّق فيه بثبات:
“وأنت لا تؤمن بمثل هذه الأشياء أصلاً.”
ساد الصمت برهة، ثم أضفت:
“ألستَ أنت أكثر من يعرف أن ما من قوة في هذا العالم تعمل بلا مقابل؟”
ثبت بصره عليّ، ثم انفرجت شفتاه بابتسامة قصيرة.
“يا لكِ من قديسة عجيبة حقاً.”
اعترضت فوراً:
“قلت لك لستُ قديسة. امرأة دنيئة مثلي أنا لو سُمّيت قديسة فسيغضب الرب نفسه.”
سألته مباشرة:
“فما الذي ستفعله الآن؟”
لم يُجب.
“لن تستطيع أن تجبرني على الشفاء قسراً.”
قال بعد صمت قصير:
“صحيح.”
اتسعت عيناي دهشة:
“حقاً؟!”
“إذن يكفي أن أتوسل، أليس كذلك؟”
“نعم…!”
“مفهوم.”
أشاح بنظره عني وكأنّه يخفي شيئاً.
قلت بتوتر:
“أسرع إذن.”
“تمهّلي…”
“هل يجب أن يكون بلغة الاحترام أيضاً؟”
“نعم.”
وبصوت خافت، ووجهه يزداد احمراراً، تمتم:
“…المَسيني… أرجوكِ.”
تظاهرتُ بالجدية وأنا أحدّق فيه، بينما في داخلي كنت أتمسك بخيط واهٍ من رباطة الجأش.
‘يا للجنون… هذا جنون تام… لقد فقدت صوابي حقاً.’
لمجرد أني سمعت أركل، ذلك الرجل المتكبر يطلب مني أن ألمسه، شعرتُ أن عقلي سينفجر.
كنت أقاوم بكل قوتي لأُبقي ملامحي ثابتة ولا ينكشف ارتباكي.
فالواقع أني… من ذوي الأذواق الفاسدة، لا أقوى على مقاومة مشهد رجل وسيم وهو في لحظة ضعف.
فوجه الرجل الجميل حين يتألم أو ينهار… يثير في نفسي رعشة لا تقاوَم.
ولعل هذا ما جعل رواية القمر الأحمر هي قصتي المفضلة، إذ كان بطلها يتعثر ويسقط مراراً بلا انقطاع.
وما رأيته الآن من أركل… كان مثالاً كاملاً لتلك الصورة.
جبينه المتجعد قليلاً، وجهه المحمّر من الحُمّى، صوته المتهدّج المليء بالشجن…
‘من يصدّق أن رجلاً بهذا الحجم يمكن أن يبدو بتلك الرهافة؟’
بل إنه وهو يتوسل بلسان الاحترام، جعلني أشعر بالامتنان لتلك القيود التي فُرضت علينا.
‘ظننته شرطاً تعجيزياً، فإذا به أجمل ما في الأمر.
نعم… لا بد أن يقدّم التوقير.’
سألني بصوت متحشرج:
“هل يكفي هذا، أيتها القديسة؟”
وضعت يدي على صدري، وأومأت بهدوء.
حان دوري لأفي بالوعد.
‘هل سينجح الأمر…؟’
تلاقت نظراتنا في الفراغ بيننا، ووجهه ما زال يتقد بحُمرة غير معتادة.
‘ما أجمله…’
مددت يدي بحذر ولمست خده الأيمن من جديد.
‘هل بدأت تؤتي ثمارها؟’
لكني لم أستطع أن أقرأ أي تغيير في ملامحه، فمددت اليد الأخرى لأمسك خده الآخر برفق.
وسألته:
“هل تشعر بشيء؟”
كان قلبي يخفق بعنف.
فتح أركل عينيه الحمراوين وأغلقهما ببطء، ثم قال بصوت واهن:
“جيد…”
شهقت في داخلي.
لقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، ابتسامة صادقة لا تشبه ابتسامات الألم التي كان يفتعلها من قبل.
نظر إليّ وكأنه مسحور، ثم همس:
“أأنتِ… ملاك؟”
“ملاك؟”
“كنت على وشك أن أجن… لكن الألم اختفى.”
هكذا إذن… يبدو أن مفعول القوة قد ظهر أخيراً.
‘ما أعظم هذه القدرة المقدسة حقاً…’
استقرت أنفاسه المضطربة، وعاد وجهه المرهق إلى هدوء وراحة.
وعندما حاولت أن أسحب يدي برفق، قبض على معصمي فجأة.
“لا.”
توقفت في مكاني.
“قليلاً بعد… فقط قليلاً.”
كانت كلماته آمرة، لكن فيها رجاء خفياً.
ابتسمت ابتسامة صغيرة وأعدت كفيّ إلى وجنتيه:
“حسناً، كما تريد.”
وبقينا على حالنا ساكنَين برهة من الزمن.
❖ ❖ ❖
بعد قليل نهض أركل من مكانه قائلاً إنه مضطر إلى إنجاز بعض الأمور.
وبينما كان يرتب ثيابه المبعثرة قال بلهجة باردة:
ــ “استدعيت معاوني. سيأتي ليصحبك إلى غرفتك.”
راقبت ظهره وهو يبتعد.
لقد اختفت تماماً تلك الملامح المتألمة التي رأيتها فيه منذ لحظات، وعاد إلى بروده المعتاد.
حتى خُيّل إليّ أن ما رأيته قبل قليل كان وهماً.
تابعت النظر إليه بخيبة:
‘كم هو محبط…’
والحق أن صورة وجهه، وهو يتوسل إليّ أن ألمسه، ما زالت عالقة في رأسي لا تفارقني.
‘أريد أن أرى ذلك مجدداً…’
في القمر الأحمر كل الشخصيات عانت، لكن أكثر من ذاق مرارة العذاب كان البطل جين أليهايم.
فقد اقتحم قصر الدوق، ولم يمرّ عليه يوم إلا وهو ممزق روحاً وجسداً.
ولئن كان ذلك مؤلماً له، فإن القراء كانوا يعشقون تلك اللحظات.
صرخاته، توسلاته، دموعه… كلها كانت تثير فيهم شغفاً غريباً.
وأنا لم أكن استثناء.
‘نعم، نحن قراء القمر الأحمر لسنا سوى جماعة من الغريبي الأطوار.’
أما أركل كايين، فباستثناء ما يحدث له حين تتفجر طاقة السحر داخله، كان ثابت الملامح لا يتغير.
أقوى رجل في الدنيا، ومع ذلك أكثرهم خواءً ولا مبالاة.
لكنني أدركت اليوم حقيقةً جديدة.
ذلك الرجل… يجب أن ينهار.
‘المَسيني… أرجوكِ.’
إن امتلاك جسدٍ كهذا ووجهٍ كهذا، ثم البقاء متحجراً بلا تعبير… لهو إهدار لا يُغتفر.
‘عليه أن يتعثر أكثر، أن يتألم أكثر… أن ينهار أكثر!’
كنت أرمقه بنظرة متقدة من الخلف حين استدار فجأة.
فارتجف جسدي بلا وعي.
نظر إليّ بعينيه الحمراوين الثابتتين وسأل:
“بِمَ تفكرين الآن؟”
~
ترجمة ليين💕
التعليقات لهذا الفصل " 7"