هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 68 ]
ظلّ أركل غارقًا في صمته يفكّر مليًّا لبعض الوقت، ثم فتح فمه أخيرًا وقال:
“المعذرة… لا أستحضر شيئًا. أشعر بقدرٍ من الألفة الغامضة فحسب، لكن لا أذكر شيئًا واضحًا…”
“وذلك وحده يكفي. ليس سيئًا أن نتتبع خُطاك الماضية ونبحث على أساسها.”
“إذن سأرتّب مسار حياتي في السنوات الماضية، وأقدمه إلى أختي الكُبرى.”
“آه، أيمكنك أن تسلّمني إياه أنا أولًا؟ سأراجعه ثم أوصله إلى الآنسة.”
“مفهوم.”
أجاب أركل في طواعية، وكأنه لم يشكّ للحظةً أنّ ما أقوم به ليس إلا مساعدة لمارثا كعادتي.
وفي اللحظة التي شعرت فيها بالاطمئنان، سأل فجأة:
“لكن… أيّ أثر مقدّس تبحثون عنه بالضبط؟ لعلّ معرفته تمنحني خيطًا أوضح.”
“أه…”
‘لا بأس إن ذكرتُ اسمه، ما دام السبب وراء البحث عنه يظلّ مجهولًا.’
“يُقال إنّه ‘كأس ڤاليرا’… إناء مقدّس تنزلت فيه بركة الآلهة.”
“الكأس المقدّسة… الآن تذكرت. أليس فيلم السيدة بعنوان البحث عن الكأس…؟”
كان يواصل حديثه على نحوٍ عابر، لكن فجأة انقطع صوته. ثم سرح ببصره في الفراغ برهة، قبل أن يعود ويلتفت إليّ بعينين مثقلتين بالتفكير.
“سيّدتي… أيمكنني أن أراه الآن؟”
“تعني البحث عن الكأس المقدس؟ الآن؟”
أومأ أركل برأسه.
“نعم. أودّ أن أشاهده.”
‘ما الأمر؟’
لم أدرِ ما السبب، لكن إحساسي أخبرني أنّه عثر على خيط مهم. فأخرجت حجر العرض دون تردد.
كنت على وشك أن أمدّ الملاءة لتصير شاشة عرض، فإذا بأركل يمسك بمعصمي.
“لا حاجة لذلك. اعرضيه في الهواء مباشرة.”
“حسنًا، كما تشاء.”
‘إذن ليس غرضه المشاهدة فحسب…’
شغّلت حجر العرض كما أراد، فظهرت في الهواء حروف العنوان [البحث عن الكأس المقدس]. ثم تتابعت مشاهد المقدّمة، لكن…
“هل يمكنك تعرضي لي المقطع الذي أقصده تحديدًا؟”
“وأي واحد؟”
“في أوّل مطاردة.”
كان يقصد المشهد الذي يبدأ فيه الأبطال بمطاردةٍ حقيقية على يد سكان القرية، وقد صُوّر في الساحة المركزيّة.
‘ذلك عند ثلث الفيلم تقريبًا… أجل، هنا.’
قدّرت الوقت وتجاوزت حتى وصلت إلى مشهد المطاردة الأولى.
كان الأبطال يختبئون في نافورة الساحة، مترقّبين مرور القرويين.
تفحّص القرويون المكان في كل اتجاه، ثم مضوا من دون أن يلحظوا شيئًا.
عندها تنفّس الأبطال الصعداء، وكادت قلوبهم تسقط من الخوف…
“آآااه!!”
غير أنّ أحد القرويين الذي عاد فجأة رآهم، فانطلقوا هاربين في هلع.
ركضت الكاميرا خلفهم بسرعة، ملتقطة وجوههم الشاحبة المذعورة…
“توقفي.”
رفع أركل يده.
“أعيديه قليلًا للوراء، من فضلك.”
فعلت ما قال، فأشار مرة أخرى:
“الآن… أوقفيه.”
أوقفت العرض في اللقطة التي يُكشف فيها أمر الأبطال، وهم يصرخون في فزع، بينما يبتسم القروي بملامحٍ غريبة.
‘كنت أقول دائمًا إن تمثيلهم مذهل حقًا…’
أخذت أتأمل في روعة المشهد، لكن أركل ظلّ يتفحّصه بهدوء قبل أن يهزّ رأسه.
“نعم… هذا هو.”
“ماذا تقصد؟”
“انظري جيّدًا إلى هذه النقطة.”
لم يكن يشير إلى الأبطال المذعورين، ولا إلى القروي صاحب الابتسامة المرعبة، بل إلى ما وراءهم:
النافورة. أو بالأحرى، التمثال القائم فوقها… تمثال غراب.
“هل يمكنكِ رؤية الشبه؟”
“…لا أظن.”
“دقّقي النظر.”
أخرج قصاصة الورق التي تحمل الرسم، وقرّبها من التمثال.
“آه…!”
لم أتمالك نفسي من إخفاء دهشتي.
فقد كان شكل الغراب بأجنحته الممدودة يتطابق تمامًا مع الرسم ذي الهيئة الصليبية.
وأشار أركل إلى الخطوط المروحية المتفرعة من رأس الشكل المرسوم.
“وهذا الجزء…”
“لا بد إنه ماء. فالنافورة تجري منها المياه.”
“بالضبط. لا ريب أنّها كانت تتدفق منذ زمن بعيد.”
‘لحظة، إن كان كذلك—’
لمعت في خاطري فكرة، فأمسكت بكم أركل في عجلة.
“ألم يقلوا إن لعنة كيلستون سببها أحد السحرة؟ متى كان ذلك؟”
“قبل مئة عام من الآن.”
‘إنها الفترة ذاتها التي سُرق فيها كأس ڤاليرا…!’
ارتعش جسدي وتسللت قشعريرة إلى ذراعي.
كل الألغاز بدأت تكتمل في عقلي.
‘إن كان سارق كأس ڤاليرا هو نفسه الساحر الذي لعن سكان كيلستون… وإن كانت آخر صورة رآها هي تمثال الغراب ذاك…’
إذن فالكأس المقدسة مخبوءة في كيلستون.
‘أجل، الآن كل شيء يتّسق. فكيلستون أُغلقت أبوابها بإحكام منذ ذلك الحين، ولهذا لم يكن ممكنًا لأيٍّ كان أن يكتشف مصير الكأس طوال هذه الفترة.’
“شكرًا لك يا أركل! أنت عبقري حقًا! كيف خطرت لك فكرة الربط بين هذه الأمور~؟ آه، أكاد أقبّلك من شدّة الامتنان-“
“……؟!”
ارتجف جسد أركل الذي كان يصغي بانصياع عند سماعه الجملة الأخيرة.
“آه، المعذرة—كنت أمزح فحسب.”
“هكذا إذن.”
اعتذرتُ خشية أن أكون قد عاملته كطفل، لكن ملامحه أوحت بخيبة أمل طفيفة.
‘أيمكن أن يكون… يتمنى ذلك فعلًا؟’
لم يخطر ببالي أن رجلاً مثله قد يستسيغ مثل هذا النوع الطفولي من المودة…
“على أية حال، شكرًا لك يا أركل. هذا بمثابة مكافأة.”
ارتفعتُ قليلًا على أطراف أصابعي، وأخذت أمسح شعره.
ابتسم أركل وهو ينظر إليّ من علٍ بملامح الرضا.
“يسعدني أني كنت عونًا…”
ولمّا طبعتُ قبلة خفيفة على وجنته، انقطع صوته على الفور.
“هل تكفيك هذه مكافأة؟”
كنت أتساءل في داخلي إن كان مثل هذا الفعل يصلح فعلًا أن يُعدّ جزاءً.
“…بل بكثير.”
امتدت يده في نعومة ولكن بثبات، فأزاح خصلات شعري عن جبيني، ثم طبع قبلة رقيقة على جبهتي.
داعب أنفاسي بأنفاسه الدافئة، ثم ما لبثت أن تحوّلت أنفاسه المتهدجة إلى صوت متسارع، قبل أن يبتعد ببطء.
“…هاه.”
“…….”
كان وجه أركل، وهو يطالعني من علٍ، محمرًّا حتى الأذنين، ملامحه تنطق بكبح جماح عاطفة جارفة.
لم أرَه يومًا بهذا الاحمرار.
‘…جميل.’
جميل إلى حدٍ أبكاني.
جمال لن يمحى من ذاكرتي أبدًا.
❖ ❖ ❖
في غرفة الاستجواب.
“إذن… كيلستون، تقولين.”
تلقت مارثا من أحد معاونيها ما نقلته ليزي.
كأس ڤاليرا مخبوء في كيلستون.
كانت قد توقّعت أن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتحديد موضعه، فإذا بها تحظى بالإجابة بهذه السرعة. فتملّكها شعور بالرضا.
“…وفوق ذلك، دار بيننا حوار مثمر. أليس كذلك؟”
رفعت مارثا طرف شفتيها بابتسامة مُرضية، وحدّقت في بارون.
كان نصف جسدها غارقًا في الظل، وعيناها البنفسجيتان تلمعان في حدّة مخيفة، فبدت ابتسامتها أشبه بالتهديد.
“…يبدو أنّكم في كايين تسمّون التهديد والألاعيب الكلامية ‘حوارًا’.”
تمتم بارون وهو يرمقها بنظرة حادّة.
“بما أنك تعلم ذلك جيدًا، فلا شك أنك أصبحت واحدًا من أبناء كايين حقًا.”
قهقهت مارثا ضاحكة بخفّة، واقتربت منه بخطوات ثابتة.
هي التي لم تكن تميل إلى المزاح أصلًا، غير أنّ رؤية خصمها في مأزق أضفى على نفسها نشوة غير معهودة.
وفكرت في لحظةٍ أنّ هذا الميل السادي يشبه ما لدى أخيها الأصغر ناران.
‘حقًا… الدم لا ينفك يجمع بين الأشقاء.’
ابتسمت مارثا ابتسامة خفيفة، ثم أمسكت بخصلات شعره الذهبيّ بعنف، وجذبت رأسه نحوها.
“…..!”
قطّب البارون جبينه في غضب.
“أشكرك على طاعتك، فلقد سمعتُ ما يكفيني… كلّ ما أحتاجه لمعاقبتك.”
“…….”
“عرفتُ مشاعرك تجاه ليزي… وعرفتُ مقدار حقدك على كايين. وهذا بحد ذاته دليل كافٍ.”
“…أنا…”
“لكن ما يدعو للأسف… أنّ ليزي التي تحبّها ما هي إلا ليزي كايين.”
اتسعت عينا بارون في ذهول، وحدّق فيها بنظرات حادّة، لكن مارثا قابلته ببرود لا يقلّ عن صلابته.
“سواء كنتَ تحمل ضغينة ضد كايين أم لا… فهذا لا يعنيني.”
“…….”
“لكن إن عجزت عن كبح مشاعرك الشخصية وجرؤت على المساس بعائلتي، فسأجعل منك هدفي الأول. لن يشغلني شيء سوى التفكير بكيفية مضاعفة القصاص منك.”
كان في عينيها صدق قاطع.
لم يستطع بارون احتمال النظر إليها طويلًا، فحوّل بصره جانبًا، ثم ابتسم بسخرية هامسة:
“أن تعتبرني رأس عائلة كايين خصمًا جديرًا… أيّ شرف هذا. فكيف تنوين الانتقام يا تُرى؟ هل ستقتليني؟”
“اطمئن. لم أولع بك إلى هذا الحد بعد.”
أزاحت مارثا خصلات شعرها عن جبينها في هدوء.
“لقد فكرت… ورأيت أن بإمكاني استغلالك أكثر. لذا لن أتخلّص منك الآن.”
“مؤسف… فلن أنفع كايين قَطّ، لا حيًّا ولا ميتًا.”
“بل ستنفع.”
اعتدلت مارثا في جلستها وابتسمت ابتسامة عريضة.
“سمعتُ أن للفرسان المقدّسين حق الاطلاع على سجلات الإمبراطورية، أليس كذلك؟”
“وما شأنك بهذا؟”
“وجدتُ في جيب معطفك شيئًا.”
أخرجت مارثا كيسًا صغيرًا من القماش، ثم أخرجت منه ختمًا فضّيًا صغيرًا.
“……!”
“إنه ختمك، أليس كذلك؟ ولقد صادف أنّ ثمة معلومات أحتاج إليها… وسأطّلع عليها باسمك. إلى أن يحين ذلك، لن أفشي ما يخصك للعلن. ستبقى هنا.”
صرّ بارون على أسنانه بقهر. فتابعت مارثا ببطء، وكأنها تذكرت شيئًا:
“آه، وهذا رأي ليزي كايين نفسها. إنها عضو لا يُستغنى عنه في العائلة.”
“…دعيني ألقاها. أريد رؤية ليزي…”
رفعت مارثا حاجبها باستهزاء:
“أصبحت تنادي سيدتي باسمها مجردًا هكذا؟”
“دعيني أراها… ليزي… كخ!”
ارتد رأسه بعنف إلى الجانب، فقد سدّدَت له مارثا لكمة قوية على وجهه.
“من الأفضل أن تنتبه لألفاظك. فكّر جيدًا… من صاحب الكلمة هنا؟”
حدّقت فيه بنظرات باردة كالسكين، ثم استدارت مغادرة.
“ليــــــــزي!”
دوّى صوته الغاضب، لكن سرعان ما قطعته فرقعة باب الحديد وهو يُغلق بعنف.
“تبااا!”
ظلّ بارون يحدّق في الباب الموصد، وقضم شفته حتى سال منها الدم.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 68"