كان الجسد مستديرًا، وعلى جانبيه امتدت ذراعان طويلتان تشبهان الأذرع. أما أعلى الشكل فقد كان يتدلى منه ما يشبه خصلات من شعر على هيئة مروحة متشعبة.
قال الرجل:
“إنها نظرة السارق الذي استولى على الكأس المقدسة بدافع من إلهام عابر. وبسبب ارتداد الروح إلى مئة عام مضت… أو بالأحرى بفعل بعض العوائق، لم نستطع التحقق من ملامحها بدقة، غير أن هذا هو المشهد الذي رآه عند إخفائه للكأس.”
“هكذا إذن؟ همم… أليس هناك معلومات أخرى؟”
“للأسف، لا. الجميع تهلّلوا من شدة الفرح بنجاح الاستحضار… لا، بل الإلهام العابر تلاشى سريعًا.”
“… أحقًا كان محض صدفة؟”
“بالطبع.”
كانت حجته مواربة، لكن ما دام الأهم هو معرفة حقيقة الشكل في الرسم، فقد آثرت أن أتغاضى عن الأمر.
“حسنًا، فهمت. أيمكنني أخذ هذه الورقة؟”
“كما تشائين. لدينا عدة نسخ. والآن نحن نبحث في ماهية هذا الشكل من جهات عدة.”
“جيد. سأحاول أن أتحرى بنفسي أيضًا. أما عن الاستحضار مجددًا… أعني، ألا يمكن الحصول على إلهامٍ آخر مصادفة؟”
“آه… للأسف، تكرار الاستدعاء فيه بعض الإشكالات.”
قال مارڤين وهو يقطب جبينه كأنما الأمر يثقله:
“ثم حتى إن نجحنا في استدعائه ثانية، فالأرجح أن تكون المعلومات في حدود ما حصلنا عليه من قبل. ومع ذلك فنحن نجرب.”
“أرى… حسنًا، إن توصلتم إلى أي جديد فأخبروني.”
“أمرٌك مطاع سيدتي. وبما أن تقاريرنا انتهت، فسنعود الآن.”
“من قال إنكم ستعودون؟!”
لم يستطع لاكو الذي بدا وكأنه يكتم رغبة في الكلام منذ حين أن يتمالك نفسه فانفجر صارخًا:
“لم أخدم الحاكمة بعد! كيف تنهي حديثك مع سيدتي وحدك…!”
“لاكو. اصمت، وعُد حالًا إلى برج السحر، واكشف عن حقيقة هذا الرسم. تلك هي خدمتك لي.”
ابتسمت قائلة ذلك، فأطبق لاكو فمه في الحال، وحدّق بي مشدوهًا كأنه صُعق.
“يا… يا سيدتي… أنا….”
فربت مارڤين على كتفه مواسيًا:
“راكو، سيدتي لم تقل هذا لأنها تضيق بك.”
لكن لاكو رفع رأسه فجأة وصاح بحرارة:
“شكرًا لكِ يا سيدتي! أشكرك على أن منحتني أمرًا! سأطيعكِ، فأنا عبدكِ وعليّ الطاعة! شكرًا….”
كانت عيناه تلمعان بصدقٍ غارق في النشوة.
“…….”
– “هاه. توقعت أن يقول هذا.”
تأفف مارڤين وهو ينظر إلى لاكو الذي فقد اتزانه، بينما أنا اكتفيت بالابتسام مطمئنة، إذ كان الأمر في الحسبان.
وبعد أن غادرا القصر، أخذت الورقة وعدت إلى غرفتي.
ذلك الشيء الذي يشبه الصليب….
‘ما الذي يعنيه حقًا؟’
في هذا العالم لا يحمل الصليب معنى دينيًا كما في حياتي السابقة، لكن ربما يجدر بي أن أبدأ البحث من هذا الجانب.
تمدّدت على السرير، وأخذت أقلب الورقة وأتفحص الرسم مليًّا.
‘لا جدوى… لا أستطيع فهمه.’
وبينما أنا مستغرقة في التفكير، غلبني النعاس شيئًا فشيئًا حتى رحت في سباتٍ دون أن أشعر.
“هممم…”
فتحت عيني ببطء، لأصطدم بنظرات مألوفة.
“آه.”
كان أركل يحدق بي عن قرب، وما إن تلاقت أعيننا حتى أزاح وجهه بارتباك.
“المعذرة. أنهيتُ البحث الذي طلبتِه، لكنك كنتِ غارقة في نومٍ عميق…”
“فهل أردتَ إيقاظي بقبلة؟”
قلتُها مازحةً بصوتٍ يثقل عليه النعاس، فارتبك أركل.
“ماذا؟ … أأ….”
“كنتُ أمزح.”
ابتسمت بخبث وأنا أقطّب حاجبيّ، فبادر أركل بعد أن حدّق بي لحظة:
“إن كنتِ ترغبين، فسأفعلها في المرة القادمة.”
“أوي! لم تعد تترك لي شيئًا. حتى مشاكستك لم يعد لها طعم.”
“حقًا؟ إذن سأتوقف.”
قالها خافتًا، ثم فجأة اقترب مني أكثر.
“… أهكذا توقعتِ أن أقول، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
ارتسمت على محياه ابتسامة رقيقة، لكنها تنطوي على خطر ما. وكانت عيناه الحمراوان تتوهجان بلهيبٍ غريب مشبع بالرغبة.
“المعذرة، لكني قررت ألا أكبح نفسي بعد الآن.”
حدّقت فيه مذهولة لا أقوى على النطق.
لم أرَ من قبل هذا الوجه المفعم بالعاطفة الجامحة.
كان دومًا بعينين ميتتين باردتين.
“أنتِ من قلتِ، أردتِ أن تري كل شيء.”
“… قلت ذلك.”
“وأن أُريكِ كل ما عندي.”
“قلت ذلك أيضًا.”
“إن سمحتِ لي… فأود أن أريكِ هنا والآن.”
أطبق يده الكبيرة على يدي، ورفعها ببطء حتى وضعها على صدره.
كان خفقان قلبه يدوي كالطبل في راحتي.
“أريد أن أريكِ كل شيء. لا أستطيع أن أعبر بالكلمات… سأجن إن لم أعبّر.”
كان وجهه يوحي بلا مبالاة، لكن العاطفة المستميتة في عينيه لم تدع مجالًا للشك.
لم تعد عيناه مجرّد شرارات، بل نارًا لا يمكن إخمادها.
بدت عيناه، التي كانت كاللهيب، وقد ابتلعتْها نيران لا يمكن السيطرة عليها.
قال بصوت خافت:
“كما قلتِ إنكِ ترغبين في أن تري….”
“………”
“أنا أيضًا أموت رغبةً في أن أريكِ. إن أذنتِ لي.”
تطلّع أركل في عينيّ مباشرة.
‘غريب…’
كان وجهه يبدو عاديًا كما في كل حين، لكن عيناه كانتا تنقلان إليّ كل شيء: التوسل، والحنين، والشوق، والحذر….
‘كنت أتساءل دائمًا أي وجه سيبدي في مثل هذا الموقف، لكنه ينقل كل شيء بعينيه؟ هذا ليس عدلًا.’
كانت نظراته مكبوحة، بل أدق أن أقول: مترقِّبة. مترقبةً إشارة مني، كلمة إذن.
مددت يدي ولمست وجنته.
لم تكن لمسةً للشفاء من جرحٍ سحري، ومع ذلك ابتسم ابتسامة هادئة وكأن آلامه كلها زالت مع لمستي تلك.
“أحبكِ يا ليزي.”
لماذا بدا لي وكأن هذه الكلمات دوت في أذني؟
لأن عينيه هما من قالتها.
ولوهلة خطر ببالي أن الحب قد يكون لغةً يُحسن المرء فيها التخاطب بمجرد العيون.
وربما لم يكن هناك “وجهٌ آخر” من البداية أصلًا.
‘إن كان الأمر هكذا….’
فكيف بي أنا؟
هل أستطيع أن أظهر لأركل ما يُظهره لي بعينيه؟
لم أجرب الحب قط في حياتين كاملتين، ومع ذلك أدركت بحدسي أن السماح له الآن، في هذه اللحظة، ليس إذنًا باللحظة نفسها فحسب، بل بأكثر من ذلك بكثير.
لطالما رغبتُ في رؤية وجوهه المختلفة، لكن… هل أنا مستعدة لأن أُريه كل وجوهي أنا؟
‘أليس هذا ما يكون عليه الحب؟’
على الأقل، الحب الذي أعرفه هو كذلك.
ليس من طرفٍ واحد، بل من كلا الجانبين.
في الآخر، نكشف وجوهًا آثرنا إخفاءها، ونُكشَف بما لم نرد إظهاره.
فهل أستطيع أنا أن أكشف له وجهي كلّه كما يفعل هو؟
لم يحدث أن فكرتُ بهذا طوال حياتي السابقة ولا الحالية.
في حياتي الماضية، لم تتح لي فرصة أن أكشف نفسي لأحد.
وفي هذه الحياة… إن صدقتُ مع نفسي، فقد كنت أتعامل مع ذاتي كأنني مجرد مراقِبة متفرجة.
ولذلك ربما بدا لي كلام أركل في القصر حين قال إنه يحبني، كلامًا غير واقعي.
صحيح أنني اندمجتُ في هذا العالم منذ زمن، واعتبرت العيش فيه نعمة، وأحببتُ الناس من حولي، لكنني لم أضع نفسي بينهم قط.
‘لكن… هذا ليس مكاني أصلًا، أليس كذلك؟ لحظة…’
إذن، أين هو “مكاني الحقيقي”؟
إن لم يكن هذا الذي أنا فيه، فأين يكون؟
‘هل حياتي السابقة كانت هي مكاني؟ حيث لم يقل لي أحد قط إنه يحبني؟ ذلك المكان… لا. أكرهه.’
كرهت ذلك حقًا، وبصدق.
“ليزي؟”
رفع أركل بصره نحوي في حيرة، وكان في عينيه قلق.
“وجهك لا يبدو بخير. هل ضايقك شيء؟”
“……”
“إن كان بسببي…”
“لا.”
نظرتُ في عينيه وأجبت بصلابة:
“ليس بسببك يا أركل. المشكلة ليست فيك…”
‘بل فيّ أنا.’
أردت أن أقولها، لكن لساني لم ينطق.
ماذا لو اكتشف أن المشكلة بي أنا، فخيب أمله، وتغيّرت نظرته إليّ؟
لم أُرد أن أتعمق أكثر في هذا التفكير.
“على كل حال، السبب ليس أركل أبدًا…! فقط… همم، كنت أفكر بشأن الفيلم.”
“آه، صحيح.”
نهض أركل وأخرج بعض الأوراق التي كان قد وضعها على طرف السرير.
“جئت أساسًا لأعطيكِ هذا. …هُم.”
تذكر فجأة سبب مجيئه، فسعل بخفة.
عندها اجتاحتني ندامة متأخرة: كان عليّ أن أجيبه بما أراد، كان عليّ أن أذعن.
‘آااه! كان يجب أن أوافق!’
هل علي الآن أن أضع يدي على صدره مجددًا وأقول له أن يفعل ما يشاء؟
لكن، رغم أن قلبي يحترق شوقًا، لم أملك الشجاعة لأن أريه حقيقتي العارية.
وفي الوقت نفسه، لم أرد أن أواجهه بوجهٍ مقنّع.
كنت قد لبست الأقنعة طوال حياتي في هذا العالم، مثل عادة يومية، لكن معه… لم أشأ أن أفعل.
‘هاه… علي أن أركز الآن على ما بيدي. سيحين وقت ترتيبي لأفكاري لاحقًا.’
نعم، أمامي الآن أكوام من الأمور العاجلة.
أخذتُ الأوراق التي رتّبها أركل، وبدأت أقرأها بدقة.
“الجمهور يتوافد باستمرار! ومع زيادة عدد القاعات والعروض، انخفضت السوق السوداء أيضًا. هذا ممتاز. يبدو أنه لا قلق بعد الآن. شكرًا يا أركل.”
ابتسمتُ وأنا أشكره، ثم ترددت قليلًا قبل أن أطرح السؤال الذي يلحّ علي منذ قليل.
سحبتُ من تحت وسادتي قصاصة الورق المخفية، وقدمتها له.
“هذا… أتعرف ما قد يكون؟”
تناول أركل الورقة وأمعن النظر في الرسم المرسوم عليها.
“هذا…؟”
“إنه خيط يرتبط بأحد المقدسات التي تبحث عنها الآنسة مارثا… لكن لا يخطر ببالي منها أي شيء على الإطلاق.”
“هكذا إذن.”
كنت قد قلتها بصيغة عامة حتى لا يثير الأمر اهتمامًا كبيرًا، ظنًّا مني أنه ما دام يتعلق بمارثا فلن يبالي به كثيرًا، وبالفعل لم يُبدِ أركل أي فضول يُذكر، كما توقعت.
‘أحيانًا يكون من حسن الحظ ألا يهتم الأشقاء بشؤون بعضهم.’
وبينما كان غارقًا في التفكير، ضيّق أركل حاجبيه كأن فكرةً خطرت بباله.
“غريب. لم أرَ هذه العلامة من قبل، ومع ذلك… ليست غريبة عليّ. كأني صادفت شيئًا مشابهًا في مكان ما…”
اتسعت عيناي دهشة.
“لقد رأيتَ مثلها؟! أين؟!”
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول. وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 67"