“أيّتها المجنونة… اتركي يدي!”
صرخت سيلفيا بوحشية.
كانت تكشر جبينها محاوِلة أن تنتزع يدها، غير أني كلما حاولت التفلّت أمسكتُها بإحكام أشد.
قلتُ ببساطة متصنَّعة:
“ما بالكِ يا سيلفيا؟”
فازداد وجهها تصلبًا.
“أنتِ…”
ابتسمتُ ببراءة وأنا أحدق في عينيها مباشرة:
“ألستِ تقولين إني عديمة النفع؟ إذن، بما أني خرجتُ من القفص بنفسي، فهذا يُعدّ دفاعًا مشروعًا عن النفس. هيا، اقتليني!”
تمتمت سيلفيا بذهول وقد خيَّم عليها القرف:
“لقد جُننتِ…”
أما الخدم الذين كانوا يتهامسون قبل قليل، فقد حبسوا أنفاسهم وهم يراقبونني وسيلفيا بارتباك ظاهر، لا يدرون ما يفعلون.
‘إذن هم يخشون أن تؤذيني حقًّا…’
فكرتُ بهدوء وأنا ألقي عليهم نظرة سريعة.
وبذلك تأكد لي مرة أخرى أنهم لا يجرؤون على إيذائي مباشرة.
تمتمتُ بنبرة باردة وقد مسحت ابتسامتي:
“كم أنتم مثيرون للشفقة.”
ارتجف بصر سيلفيا واضطربت:
“م-ماذا قلتِ؟”
قلتُ وأنا أنقل نظري من وجهها إلى وجوه الخدم واحدًا واحدًا:
“أعلم لمَ تفعلون هذا، لكنكم حقًّا مثيرون للشفقة.”
كان معظم خدم قصر كايين أناسًا لا مأوى لهم، وُلِدوا في أحياء الفقر وعانوا الطرد والإقصاء.
وبعضهم لم يجد في النهاية بدًّا من الانغماس في الجريمة، وإن كان ذلك مجرد عذرٍ بائسٍ لزمنٍ لم يمنحهم خيارًا آخر.
وليس غريبًا أن يضمر هؤلاء الضغينة لليزِي أليهايم.
فهي، وإن كانت مثلهم بشرًا، إلا أنها عاشت في عالم مغاير كليًّا.
المعضلات التي سحقَتْهم لم تخطر لها يومًا ببال، والاختيارات المستحيلة التي فُرضت عليهم لم تعرفها هي قط.
‘الغضب مفهوم… لأن في الأمر ظلمًا.’
لكن…
قلتُ بهدوء:
“أهذا خطئي أنا؟”
ثم تابعت وأنا أنظر إليهم بثبات:
“أنتم لم تحتاجوا سوى هدفٍ تُفرغون فيه غضبكم، أليس كذلك؟”
“…….”
“السيّد الكبير لا تجرؤون على معارضته لأنكم تخافونه، أما أنا فصغيرة وضعيفة فكنتم ترون أن لا بأس في صبّ سخطكم عليّ.”
“………”
“بائسون أنتم حقًّا… بؤسكم مثير للشفقة أكثر من غضبي.”
ارتعشت يد سيلفيا التي كانت بين قبضتي.
صرخت فجأة بصوتٍ مبحوحٍ غاضب:
“وما الذي تعرفينه أنتِ عنّا!”
ثم قفزت فجأة بكلتي يديها لتقبض على عنقي.
ارتجّ المكان بصيحات الخدم:
“سيلفيا، لا تفعلي!”
“أوقفوها! أحدٌ ليمنعها!”
وبينما ساد الاضطراب والفوضى…
دوّى صوتٌ عظيم مع ارتطام باب المزرعة وهو يُفتح بقوة كاد يخلعه:
“ما الذي يحدث هنا بحق خالق السماء-!”
دخل رجلٌ يرتدي نظّارة وهو يصرخ بدهشة لا تُصدق.
شحبَت وجوه الخدم دفعة واحدة.
“ا-السيّد هوان!”
وبدأوا يتساقطون عند قدميه واحدًا تلو الآخر، متوسلين:
“لقد أخطأنا، سامحنا من فضلك!”
“مرّة واحدة فقط، نرجوك اعفُ عنّا هذه المرّة!”
لكن هوان قبض على جبينه بيده وكأن رأسه أثقله الألم، وقال بحدة:
“أتطلبون الصفح بعد هذه الفعلة؟!”
بكى أحد الخدم برجاء:
“نتوسل إليك يا سيّد هوان، لا تخبر السيّد الكبير!”
في تلك اللحظة دوّى صوتٌ عميق وهادئ:
“للأسف…”
وتقدّم رجل آخر ببطء.
“السيّد الكبير قد عَلِم بالفعل.”
‘أركل كايين.’
الاسم الذي دوّى في خاطري مع أوّل صوت سمعته عند قدومي إلى هذا العالم.
ما إن خطا أركل إلى الداخل حتى خيّم الصمت المطبق.
الخدم الذين كانوا يبكون ويرتجفون سكتوا في الحال، بل حتى أنفاسهم تضاءلت خشية أن تُسمع.
قال هوان محاولًا أن يتكلم:
“سيّدي، إن هذا المكان أنا…”
لكنه التزم الصمت ما إن رأى ملامح أركل الجامدة.
تجاوز أركل الخدم حتى وقف أمامي وأمام سيلفيا.
كانت سيلفيا ما تزال متشبثة بعنقي بتردّدٍ وارتباك، وكأنها جُمّدت في مكانها، بينما كنت أنا مذهولة من شيء آخر.
‘يا إلهي…’
هل يمكن لإنسان أن يبدو بهذا الشكل؟
للمرة الأولى رأيت ملامحه عن قرب.
كان له شعر أسود كالليل مثل ناران، لكن عينيه تلمعان بلون أحمر متقد كالجمر.
أعاد إليّ ذلك الانطباع الأول الذي شعرت به حين رأيت ناران، وكأن عائلة كايين بأسرها لا تنتمي لهذا العالم.
إن كان ناران وسيمًا ببراءة مراهق، فأركل كان وسيما على نحو مظلم فاسد، كلاهما بجمالٍ يعلو على البشرية.
وفيه أيضًا ذلك الغموض المشترك الذي يغلّف كل فرد من هذه الأسرة.
كنت أحدق فيه مسلوبة العقل، وهو يبادلني النظرة بعينيه الخاليتين من أي شعور.
ثم حوّل بصره إلى سيلفيا.
ما إن التقت عيناها بعينيه حتى ارتجفَت وأرخَت قبضتها عن عنقي.
“س-سيّدي…”
تمتمت بخوف.
لم يُبدِ أركل أي تعبير، بل نظر إليها ببرود وقال:
“ما وظيفتكِ هنا؟”
قالت متلعثمة:
“ا-اسمي سيلفيا ليل، وأنا…”
قاطَعها بفتور:
“لم أسألك عن اسمك.”
أطبقت فمها في الحال.
قال ثانية بنبرة واهنة، وكأنه ضجر من تكرار السؤال:
“وظيفتكِ.”
همست في ذهول:
“أنا… رئيسة الخادمات…”
قال بهدوء جليدي:
“جيّد.”
ثم التفت ببطء نحو هوان:
“إذن علينا اختيار رئيسة خادمات جديدة يا هوان.”
وفي اللحظة نفسها، مدّ يده ليقبض على وجه سيلفيا فجأة.
صرخت مذعورة:
“ا-ارحمني!!”
تجاهل أركل الصرخة المدوية التي مزقت المكان، ولمع بريق مرعب في عينيه الحمراوين، بريق يحمل نذير قتل بارد.
صرختُ وقد أمسكت بكلتا يديَّ ساعده:
“انتظروا لحظة!”
التفت إليّ بنظرة صامتة.
“أحقاً… لا بد من قتلها؟”
“…….”
“ففي النهاية، لم يُصبني مكروه.”
ابتسمت ابتسامة باهتة، لكنه ظل يحدّق فيّ بصمت، حتى فتح شفتيه ببطء:
“وماذا تقترحين إذن؟”
“ألا يمكن أن تنال عقاباً آخر…؟”
“وأي عقاب؟ لم تعد هذه المرأة رئيسةً للخادمات ولا شيئاً يذكر.”
التفتُ إلى سيلفيا، التي كان أركل يقبض على وجهها بقسوة.
كان جسدها يرتجف ارتجافاً محموماً.
في الحقيقة، الأمر لا يعنيني مباشرةً…
لكنها لم تحاول قتلي بصدق.
حين اندفعت نحوي، رأيت في عينيها بوضوح، لم يكن ذلك وجه قاتلة، بل وجه إنسانة منهارة تماماً.
قد لا يعنيني الأمر، لكن من يتجاهل مشهداً كهذا سرعان ما تطارده الكوابيس.
رفعت بصري إلى أركل وسألته:
“سيدي… أو حضرة النبيل؟ كيف أناديك؟”
“أركل.”
“أركل…”
سألني وهو يحدق مباشرة في عيني:
“وما السبب؟ هذه المرأة تحمل لك العداء، ومع ذلك تعفين عنها… لعل ما يُقال عن كونك قديسة ألّيهايم ليس كذباً.”
هززت رأسي نافياً.
“لستُ قديسة. ولا أملك قلباً يتسع للجميع.”
“إذن لماذا؟”
“لأن الغفران ليس حكراً على القديسين. كل إنسان قادر على العفو… أنا وأنت أيضاً.”
صمتُّ برهة ثم أضفت:
“وعلى أي حال، لم أُصب بأذى. فلا بأس إن تغاضينا هذه المرة.”
بل في الحقيقة… كان الأمر مسلياً بعض الشيء، وكأنني أعيش أحد مشاهدي المفضلة من «القمر الأحمر».
ظل أركل يحدق بي في صمت، وكذلك فعل الخدم الذين كانوا يتابعون المشهد بقلوب واجفة.
وأخيراً، أرخى قبضته عن سيلفيا، فانهارت ساقاها وجثت على الأرض تلهث باهتزازٍ شديد.
رفعت رأسها نحوي بعينين غارقتين في دموع وأنفاس متقطعة.
قال أركل بصوت خالٍ من الانفعال:
“يا هوان.”
“نعم.”
“تولَّ أمر البقية.”
“مفهوم سيدي.”
ثم عاد ببصره إليّ:
“ليزي ألّيهايم.”
توترت قليلاً وأنا أحدق فيه، فإذا به يمد يده ويمسك بيدي قائلاً:
“تعالي معي.”
استدار، وأخذ يخطو إلى جهة ما، يجرني خلفه.
ماذا…؟
لم أملك إلا أن أحدّق بظهره العريض وأنا أُساق بلا فهم.
“إلى أين نحن ذاهبون؟”
“……”
لم يجب.
لكنني لوهلة خُيّل إليّ أنني أسمع أنفاسه المتسارعة.
‘ما الأمر؟ يبدو متعباً…’
خرج من المزرعة ودخل إلى أروقة القصر حتى توقف أمام باب عظيم، ثم قال وهو ما زال يدير لي ظهره:
“ادخلي.”
ولم أستطع حتى أن أسأله إلى أين؟ فقد سبقني بفتح الباب والدخول.
تبعته على مضض، وكان أول ما وقع بصري عليه… سرير ضخم يتوسط الغرفة.
“أوه…؟”
خرج صوتي غبياً بلا وعي.
أفلت أركل يدي وقال ببساطة:
“إنها غرفة نومي.”
هذا واضح… لكن لماذا أحضرني إلى هنا؟
خرج من صدره أنين خافت، وجلس على حافة السرير، يتنفس باضطراب.
ومع تدقيق النظر، رأيت وجنتيه محمرتين ووجهه متوهجاً.
رفع رأسه ونظر إليّ، وكان مظهره مختلفاً تماماً عن ذاك الذي رأيته في المزرعة قبل لحظات، بدا مضطرباً ومنهكاً.
قال مبتسماً بسخرية مرة:
“أتعلمين لماذا جاءت بك شقيقتي إلى بيت كايين؟”
أومأت برأسي.
“كنت أظنها حماقة… لكن ها أنا أول من يستجديك.”
سكت لحظة، ثم أردف بنبرة ثقيلة:
“أحتاج إلى قوتك. الآن فوراً.”
وأدركت عندها، إنه خزان السحر… جسده يئن تحت وطأة فائض القوة.
وكأنما يثبت ذلك، مسح العرق البارد عن جبينه وتمتم متشنجاً:
“إن أردتِ الحقيقة… فأنا بالكاد أتماسك.”
تقلصت ملامحه بابتسامة متكسّرة وهو يعاود التحديق بي.
“ليزي ألّيهايم.”
“…….”
“اقتربي.”
غرقت عيناه الحمراوان في عينيَّ، صوته يتهدج برجاء مضغوط:
“امنحيني رحمتك… أيتها القديسة.”
كان صوته ملتهباً، كأنما يكبح شيئاً هائجاً في داخله.
~
ترجمة ليين💕
التعليقات لهذا الفصل " 6"