لمحتُ التغيّر المفاجئ في نظرات مارثا فابتسمتُ في داخلي.
‘كنت واثقة أنها ستبدي اهتمامًا.’
ولأنني كنت أعرف السبب الذي دفعها للذهاب إلى العاصمة، فقد ألقيتُ الطُّعم، ومارثا كما توقعت لم تفلته.
قالت وهي تحاول أن تبدو متماكسة، وقد ضيّقت عينيها بعد أن تنحنحت:
“همم… صاحب الجلالة الإمبراطور مريض، تقولين؟ هذا غير معقول… لقد اجتمع قبل أيام قليلة مع النبلاء في مجلسٍ رسمي. ولو كان مريضًا لعلم أغلب أبناء الإمبراطورية، فالإشاعة أسرع ما تنتشر.”
بدت وكأنها تتحدث بلا مبالاة، لكنني أدركتُ أنها تحاول إخفاء انفعالها.
‘إنها تختبرني.’
لذلك تظاهرتُ بعدم الفهم. وهنا حمدتُ في سري لهيئة ليزي البريئة؛ إذ ساعدتني على إخفاء مقصدي.
تابعتُ بوجهٍ قلق ونبرةٍ هادئة:
“الحقيقة أن القليل جدًا من الناس يعرفون. لقد سمعت أن جلالته شدّد على كتمان الأمر حتى لا يتسرب الخبر.”
لم تردّ مارثا، فواصلتُ:
“ويبدو أنه قلق من أن يُثار موضوع الخلافة قبل أن تستقرّ نفوذ ولي العهد.”
تمتمت مارثا: “أهكذا إذن…”
وهي معلومات لم تكن غريبة عنها، بل أرادت فقط أن تتحقق من صدقي. والآن بعدما أيقنت أنني أعلم شيئًا، فقد حان دورها لتستدرجني إلى مزيد من الاعترافات.
وكما توقعت، أخذت تحكّ ذقنها وسألت ببرودٍ مصطنع:
“إذن، في أي موضع من جسده يعاني الإمبراطور من المرض؟”
كانت تحاول الادعاء بعدم الاهتمام، غير أن اضطرابها الداخلي كان واضحًا لي. فذلك بالضبط هو السبب الذي دفعها للذهاب إلى العاصمة:
‘معرفة طبيعة مرض الإمبراطور.’
لقد جندت إحدى وصيفات القصر، ومن خلالها حصلت على خبرٍ مفاده أن الإمبراطور يعاني آلامًا غامضة تؤرقه كل ليلة.
لا الأطباء ولا السحرة استطاعوا تشخيص العلّة، حتى أن الإمبراطور أوكل إليهم سرًا أن يجدوا علاجًا مهما كان الثمن.
رأت مارثا في ذلك فرصة ذهبية لكسب رضا الإمبراطور، فبمجرد انضمام محبة العرش إلى صفوف كايين، يصبح السيطرة على زمام الإمبراطورية مسألة وقت لا أكثر.
ولهذا السبب لم تفوّت الفرصة وسافرت بنفسها إلى مصدر الأخبار أي العاصمة.
لكنها مهما بحثت سرًا، لم تستطع التوصل إلى اسم المرض ولا حتى إلى طبيعة الأعراض بدقة، لأن وصيفتها لم يتجاوز نفوذها ذلك الحد.
وبينما كانت تضرب صدرها من الغيظ، فُتحت أمامها فجأة ثغرة لم تكن تخطر في بالها:
‘وهي أنا.’
“في الحقيقة، جاءني ذات مرة طبيب من أطباء القصر لاعتقاده أن قدرتي قد تساعد جلالته.”
كان ذلك كذبة أعددتها لتبرير معرفتي. وبما أن مارثا كانت قد خطفتني أصلًا طمعًا في قوى الشفاء التي أتمتع بها، فقد صدّقت روايتي.
سألتني بنبرةٍ يكسوها رجاء خفي:
“وهل نفعته قدرتك؟”
أطرقتُ رأسي بحزنٍ وأجبت:
“للأسف لا… فمرض جلالته لا يُشفى بقواي.”
قالت متفاجئة:
“ماذا؟ هناك مرض حتى القوة المقدسة تعجز عن علاجه؟”
“نعم. إن مرض جلالته ليس جسدي، بل ناجم عن لعنة.”
ارتجفت مارثا قليلًا:
“لعنة؟!”
أومأتُ بجدية:
“من خلال ما شرحه لي الطبيب، اتضح أنها آثار سحرٍ أسود. لقد لمستُ في أوصافه طاقةً خبيثة لا يخطئها من يمتلك القوة المقدسة مثلي.”
كانت كلماتي مرتجلة، لكنني ألقيتها بصدقٍ مصطنع لم يترك لها مجالًا للشك. فقالت متمتمة:
“عجبًا… إن القوة المقدسة لَقدرة مهيبة حقًا. إذن أي لعنةٍ أصابت جلالته؟”
“حين خرج الإمبراطور مؤخرًا لحملة تطهير جبل كروم…”
كان جبل كروم في شمال الإمبراطورية موطنًا للوحوش، وتجمّع فيه قوم يعبدون الشياطين.
ورغم أن مثل تلك الأمور تُترك عادةً للولاة أو لفرسان الإمبراطورية، إلا أن حجم التجمع هناك كان بحجم تمرّدٍ، ما دفع الإمبراطور للخروج بنفسه.
بعد معركةٍ طاحنة، عاد منتصرًا.
إلا أن المشكلة كانت في ‘الغنيمة’، فقد وُجد بين ممتلكات هؤلاء القوم أثر قديم، فأمر بأن يُنقل إلى القصر.
غير أنه كان في الحقيقة أثر مقدس يمثّل كحامي لذلك القوم، ومشحون بسحرٍ أسود.
‘ومن الطبيعي أن ينال الإمبراطور لعنةً لأنه استحوذ عليها.’
وبما أنه رجل نزيه، لم يخطر بباله أن تكون ذلك الأثر مصدر البلاء.
بعد أن أصغت مارثا لكل ما قلته، لاذت بالصمت وعيناها تدوران ببطء في شرود. ثم سألت بصوتٍ منخفض:
“وهل تعرفين إذن كيف نكسر تلك اللعنة؟”
“نعم.”
“وكيف السبيل إذن؟”
سألت مارثا بلمعانٍ في عينيها، لكنني اكتفيت بإطلاق تنهيدةٍ طويلة من دون أن أنطق بكلمة.
‘أتظنين أنني سأمنحك هذه المعلومة مجانًا؟’
فهذه هي ورقتي الرابحة، ولا يمكن أن أفرّط بها بلا مقابل.
ومع صمتي المستمر، بدت مارثا قلقةً بعض الشيء، فسألت:
“هل ثمة مشكلة؟”
“في الواقع… لست أدري إن كان يليق بي أن أقول هذا…”
“ألم تزعمي أنكِ ترغبين في أن تتخذي مني قدوة؟ إذن فلتنصتي لنصيحتي. لو كنت في مكانك لأفصحت بكل صدق عما أعلم.”
لقد اختفى ذلك البرود القاسي الذي كانت تواجهني به كلما تحدّثت عن إعجابي بها.
‘هكذا هي مارثا كايين الحقيقية.’
فعلى الرغم من هدوئها الخارجي الشبيه بأركل، إلا أنها في حقيقتها أكثر أهل ايين طموحًا وحدةً في الطباع وسرعةً في التصرف.
وهذه بالذات كانت إحدى الصفات التي أحببتها فيها منذ أن قرأت القصة الأصلية.
كانت بطلةً مختلفة؛ لا رومانسية ولا أحلام وردية، بل امرأة لا ترى في الحياة سوى المال والمجد والعمل.
أما البطل جين أليهايم، فقد أرهقته مشاعره تجاهها، بينما هي لم تدرك حتى أنها كانت سبب معاناته.
بل إن لقاءها به غالبًا ما كان يحدث حين يفيض رأسها بالضغط والرغبات المكبوتة من كثرة الانشغال.
‘حقًا… كانت بطلة فريدة في كل شيء.’
ولذلك، حين قلت لها إني أريد أن أتخذها مثالًا لي، لم أكن أمزح بالكامل. فإصرارها الحديدي على إنجاز ما عقدت العزم عليه أيًا كانت الظروف هو ما منحني الأمل ذات يوم وأنا طريحة الفراش.
ومع ذلك…
“لكن، أليست مارثا نفسها لا تقوم بأي فعلٍ بلا مكسب؟”
“…صحيح.”
أجابت بهدوءٍ وقد بدا أنها استشعرت ما سأقوله.
“إذن، بوصفِي من يعتبرك قدوة، ينبغي أن أقتدي بك في هذا أيضًا.”
“………”
“أخبرك بطريقة العلاج، مقابل أن تلبي لي طلبًا واحدًا فقط.”
صمتت مارثا للحظة ثم فجأة انفجرت ضاحكة:
“…كان ينبغي أن أدرك الأمر منذ لحظة خروجك من قفص الأسر سالمة.”
“هيهي…”
ابتسمت بسخرية صغيرة لكنها لم تبدُ غاضبة.
“حسنًا، ما هو الشرط إذن؟”
“إنه ليس شرطًا… بل رجاء.”
“سميه ما شئتِ، المهم أخبريني.”
لم يغب عن صوتها ذاك الطابع الحاسم.
فابتسمتُ قليلًا وقلت:
“أن تثقي بي.”
“ماذا؟”
“أن تؤمني أنني لا أفعل هذا إلا لأنني أحترمك حقًا. فأنا… أريد أن أصبح مثلك.”
واجهتُ نظراتها مباشرة، لم أهرب من بريق عينيها الأرجوانيتين القريبتين من الحمرة، ذلك اللون الذي يميز أهل كايين ويمنحهم هيبةً تكفي لإرعاب من يقابلهم.
شعرتُ بالتوتر حتى جفّ حلقي وابتلعت ريقي بصعوبة.
‘هل تظن أنني أعبث بها؟ أنني أمزح حين أجعل “الثقة” شرطًا وحيدًا؟ ماذا لو رأت أن هذا شرط تافه لا يستحق؟’
لم يكن مستبعدًا من مارثا كايين أن تردّ بجفاء وتقول “اذكري شيئًا له قيمة حقيقية.”
لكنها ظلّت صامتة تحدّق بي بوجهٍ لا يُقرأ.
عندها ساورتني الفكرة أنني لو طلبت ذهبًا لكان أسهل.
“أنا جادة، لكن إن وجدتِ أن الثقة شرط تافه…”
“أثق بك.”
انطلق صوتها القاطع فجأة.
“أثق بأنك تحترمينني. وهذا ليس بالأمر العسير على التصديق. أثق بك… وأؤمن بك.”
“مارثا…”
“والآن أسرعي وأخبِريني بطريقة العلاج. لقد أوفيتُ لكِ بشرطك.”
‘…نعم، هذه هي مارثا كايين الحقيقية.’
مرةً أخرى وجدت نفسي مأخوذة بسرعة بديهتها وحنكتها. لا أعلم إن كانت جادة حقًا في قولها، لكنني على الأقل وجدتُ خطًا واضحًا أسير عليه أمامها.
“بين القبائل التي أخضعها جلالته مؤخرًا، كان هناك ساحر أسود… قيل إنه فرّ ولم يقع في الأسر. لا سبيل إلى كسر اللعنة إلا بالقبض عليه وإجباره على رفع السحر عن الأثر.”
“……”
“هذا هو الحل الوحيد.”
والحقيقة أن هذه المعلومة لم تُكشف إلا بعد سنوات حين بدأ القصر بجمع الفرسان من أنحاء البلاد لتعقّب الساحر، وعندها وصل عرض المشاركة إلى أركل نفسه.
‘وكان من المفترض أن تدفع به مارثا حتمًا إلى المهمة، لكنها لم تفعل بسبب الانقسامات الحادة بين أتباع جين آنذاك.’
تنهدت مارثا وهي تمسّد فكّها بقلق.
ربما راودها التفكير بتجربة ما قلتُه، لكنها أدركت أن الأمر أوسع بكثير مما توقعت، فضلًا عن أن صدق المعلومة لم يتأكد بعد.
‘حسنًا، بعد هذا لن يبقى لها شكّ في كلامي.’
فأضفت سريعًا:
“صحيح أن اللعنة لن تُرفع كليًا، لكن… أوراق إكليل الجبل ستخفف آلام جلالته.”
@ماذا؟!”
“نعم. إنها تساعد في تهدئة الأوجاع الناتجة عن السحر الأسود. جربي أن توصلي هذه النصيحة لجلالته أولًا.”
والواقع أن الذي اكتشف هذه الحقيقة وحاز فضلها كان بيتًا من النبلاء المعادين لعائلة كايين… لكن، ما دام الظرف مؤاتيًا، فلا بأس أن أستبق الأحداث وأجعل الفضل من نصيبي.
***
فتحنا انا وصديقاتي المترجمات قناة خاصة بتسريب الروايات واعلانات الفصول وفعاليات وأيضا طلبات وحروقات … واذا اختفيت بتلاقوني هنيك
التعليقات لهذا الفصل " 29"