هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 26 ]
إذن، فالغد سيكون اليوم الحاسم الذي يقرّر إن كنت سأبقى متشبثة بهذا المكان، أم سيتعيّن عليّ الرحيل….
سأجعلهم يلاحظونني مهما كلّف الأمر.
كنت واثقة من قدرتي على التملّق؛ فقد نجحتُ غير مرّة في لفت الأنظار بكلماتي حتى صرتُ من أصحاب التعليقات الأكثر رواجًا.
ومع هذه العزيمة التي عقدتها في داخلي، أحسست بثقل نظرة مسلّطة عليّ.
كان أركل يحدّق بي بصمت.
ما باله ينظر إليّ هكذا…؟
لم يكن من السهل أبدًا قراءة ما يدور في داخله.
وجهه ظلّ كما عهدته يوم التقينا أول مرة، هادئًا خاليًا من التعبير، لا يكاد يظهر مشاعره.
لكن…
غياب التعبير لا يعني غياب الإحساس.
‘أرجوكِ… أنقذي ناران يا ليزي…’
لا يمكن لإنسان بلا مشاعر أن يتوسّل بمثل ذلك الوجه.
رفعت بصري إليه وأنا أتأمل ملامحه المشرئبّة فوقي.
هذا الرجل لم يكن دمية من صفيح بلا قلب، بل إنسان حيّ بنبضٍ يسمع.
ابتسمت له ابتسامة رقيقة وقلت:
“يبدو أن عندك ما تودّ قوله… أليس كذلك؟”
وإن كان مثلنا، فمن الممكن أن نفهم بعضنا يومًا.
ظلّ يحدّق بي لحظة، ثم قال ببطء:
“ذلك أنّ…”
اقترب مني متردّدًا، وحين أدركت كم كان جسده ضخمًا، أحاط مؤخرة رأسي بكفه العريضة في لمسة ناعمة.
“أركل؟”
“حين كنت في الحرب…”
كانت هذه المرة الأولى التي يفتح فيها باب ماضيه بنفسه.
“قائدٌ كان معنا أخبرني أنّ هذا الأسلوب هو الأجدى.”
“أي أسلوب؟”
“للتخفيف من الخوف. كان يقول إنه يريد أن يواسي خطيبته في موطنه بهذه الطريقة… لكنه لم يعد إليها قط.”
سكت لحظة، ثم تابع بخفوت وهو يحنو برأسي نحو صدره العريض:
“أما أنا، فبما أنني ما زلت هنا… فدعيني أبدّد بعضًا من خوفك يا سيدتي.”
كانت يده حذرة، ملامستها لينة كأنها تخشى أن تؤذيني. ومن بين جنباته تردّد خفقان قلبه واضحًا وقويًا.
“لستَ إذن الرجل الحديدي الذي بلا قلب.”
“……؟”
التفتُّ فإذا بيده الأخرى ترتجف متردّدة قرب كتفي.
عندها فهمت مراده.
أيعقل أنه يريد أن يعانقني…؟
ولم أكد أستوعب حتى همس مطمئنًا:
“لا تحملي همًا. سأشرح الأمر لأختي وستتفهم. إنها عقلانية بما يكفي.”
آه… لعله ظنّ أنّي متوترة من لقائي بمارثا غدًا؟
لم أشعر أنني متوترة لتلك الدرجة، لكن…
الغريب أنّ حضنه جعلني أشعر براحة عجيبة.
“أظنني أظهرت لكِ كثيرًا من الصور البائسة.”
“لا، أركل…”
بل أنا من يعشق تلك الصورة البائسة.
“والآن وقد صرتِ فردًا من أسرة كايين، ولو اسمًا فقط… فأنتِ شخص تقع حمايته على عاتقي. أيًا كان الخصم، فأمنك مسؤوليتي.”
كلماته الهادئة حملت صدقًا لا شكّ فيه. كانت مثالية… إلى أن مدّ يده المرتجفة وألقاها بتردّد على كتفي.
لم تكن قبضته واثقة ولا منسحبة، بل مبعثرة بين الاثنين.
“أعتذر… هذه أول مرة أجربها. لا أعلم إن كانت تنجح.”
“لقد نجحت.”
ارتجف جسده قليلًا عند ردي.
“تقصد أنك صرت إلى جانبي… وأن لا داعي للقلق، صحيح؟”
“……نعم.”
“وهذه اليد… كنتَ تريد أن تفعلها هكذا، أليس كذلك؟”
أمسكت يده المرتبكة، وسحبتها إلى خصري. فاهتزّ بدنه مرة أخرى.
“……!”
“شكرًا لك يا أركل. أشعر بالقوة حين تقول إنك سندي.”
ثم أحطت خصره بذراعيّ.
كان قويّ البنية إلى درجة أنّ أصابعي اضطرت للتشابك كي تلتفّ حوله.
ها قد صار عناقًا كاملًا.
“لا تقلق. أنا واثقة أنني سأعرف كيف أتعامل مع الأخت الكبرى.”
“……..”
“على الأقل، لن أكون مكروهة.”
كنت أردد ذلك لأقنع نفسي أكثر من غيري. فإن طُردت من هنا، فلن يكون لي مأوى.
صحيح أنني أفسدت خطّ الرواية الأصلي قليلًا، لكن…
ومن يهتم الآن؟
شدّني عناقه وأيقظت في داخلي عزيمة جديدة.
بفضله استعدت إرادتي.
سأظل هنا مهما كلف الأمر.
كنت على وشك أن أقول له ألا يقلق هو أيضًا، لكن صوته سبقني:
“…دائمًا ما يحدث الأمر على هذا النحو.”
كان صوته مزيجًا من ابتسامة وحسرة، وكأنه يحدّث نفسه. ثم أفلتني وأطلق ابتسامة باهتة.
“كنت أريد أن أبدو أقوى هذه المرة… لكنني وجدت نفسي أتكئ عليك ثانية.”
“أركل…”
كان في صوته ظلّ حزن يثير رعشة في القلب.
‘لا بأس إن لم تُظهر قوتك! اتّكئ عليّ، دلّل نفسك كما تشاء… فهذا بالضبط ما يفتنني فيك!’
كنت أصرخ بذلك في داخلي بحماسة، بينما وجهي يزداد هدوءًا بابتسامة رقيقة، ولا سبيل له لمعرفة ما يجول بخاطري.
“قل لي، كيف هي الاخت الكبرى؟”
كنت أعرف عنها الكثير لكونها البطلة، لكنني رغبت أن أسمعها من فم شقيقها الأصغر.
بدت على أركل علامات التفكير العميق قبل أن يفتح فاه قائلاً:
“في الحقيقة… لم تتح لي فرصة الحديث المطوّل مع شقيقتي. فهي ذهبت إلى الأكاديمية في صغرها، بينما كنتُ أنا في ساحة الحرب.”
كنت أعلم من أحداث الرواية الأصلية أن العلاقة بين أركل ومارثا كانت فاترة.
إذن كان ذلك صحيحًا حقًا.
يبدو أنّ أركل يعرف عن مارثا أقل مما أعرف أنا.
كنتُ أتوقع أن أكتشف شيئًا جديدًا عنها من خلاله… لكن لا جدوى.
عضضت شفتي بخيبة، فإذا بأركل يقول بصوت راسخ:
“قد لا أستطيع أن أخبركِ بالكثير عن شقيقتي، لكن هناك أمر واحد أنا واثق منه.”
“أمر واحد؟ وما هو؟” سألته بعينين مملوءتين ترقبًا.
“لا داعي لأن تقلقي من أن تثيري كراهيتها. ببساطة… لا وجود في هذا العالم لمن يمكن أن يكرهكِ.”
“ماذا؟”
رمقته رامشة بعيني، لكنه بدا جادًّا للغاية.
“من يجرؤ على كراهيتكِ… فلا بد أنه شيطان في هيئة إنسان، مخلوق بلا أدنى تعاطف خطر على المجتمع ويجب عزله.”
قال ذلك بالضبط، الرجل الذي ورث قوّة شيطانية، بلا تعاطف، وأخطر شخص في هذا العالم.
“ما الذي تقوله فجأة يا أركل؟”
ضحكت بخفة كما لو أنه أطلق نكتة.
لكن الأمر مقلق، فقد بدا جادًا بالفعل.
لا شك أن نظرته نحوي باتت مشوَّهة بفعل نوع من “الفلتر” الغريب.
هممت بفتح فمي لأنكر ما قاله.
‘لا، لا تقل إنني ملاك كما يقول الخدم، أو إنني ضعيفة وناعمة وهشة… هذه الصفات وحدها تكفي لتقتلني حرجًا.’
كنت أتضرع في سري أن يختار تعبيرًا ألطف مما تخيلته، فإذا بكلماته تخالف كل توقعاتي:
“أنتِ إنسانة قوية… قادرة على مواجهة أي شعور وجهاً لوجه.”
“آه…”
كادت تزلّ من لساني عبارة: ربما لأنني اعتدت قراءة أعمال مليئة بالعنف والرعب…
قال وهو يواصل:
“حين سامحتِ الخدم، وحين رفضتِ الانقياد خلف كالاين، وحين أخبرتِني بأن أكون أكثر صراحة… كان ذلك كله لأنك واجهتِ الأمور بعينين ثابتتين.”
ساد صوته هدوء عميق، ثم خفت:
“بصراحة… أنا نفسي كنتُ أتجاهل أخي.”
“أركل، ما حدث مع ناران ليس ذنبك. المجرم هو كالاين اللعين.”
قلتها بحماس، فابتسم أركل بخفة:
“صحيح، هو وغد يستحق الموت. لكن لم يكن الأمر متعلقًا بناران وحده. أشعر أنني لطالما أدرت ظهري للماضي… وللعالم نفسه وأدركت ذلك من خلالك.”
وأنا أيضًا لم أكن أفضل حالاً.
كادت الكلمات تفلت مني، لكنني ابتلعتها.
‘لطالما تهرّبتُ من الواقع ألجأ إلى الروايات والأفلام… لا أستحق أن أسمع منك شيئًا كهذا.’
قال فجأة:
“أنتِ قوية.”
لم يقل لي أحد هذا من قبل.
كانوا يصفونني فقط بأنني “أتحمّل القرف.”
وحتى حين تجاوزتُ جراحًا خطيرة ونجوت من الموت مرارًا، تمنيت أن يمدحني أحد لأني صمدت ولم أستسلم.
والآن وقد سمعت أخيرًا تلك الكلمة…
“شكراً لك.”
رغم أن ردي كان باهتًا وبسيطًا، إلا أنني أحسست أنه وصل إلى قلبه.
قال وهو يتهيأ للرحيل:
“لقد تأخر الوقت… سأذهب الآن.”
“شكرًا لأنك أوليتني هذا الاهتمام.”
ابتسمتُ وحيّيته بيدي.
شعرت بالارتياح لأنه لم ينعتني بملاك أو ما شابه.
الحمد لله… ما زال عاقلًا بما يكفي.
❖ ❖ ❖
في تلك اللحظة، داخل مكتب أركل.
“عدت يا سيدي.”
قالها هوان، وقد رفع رأسه عن الأوراق التي كان يكتبها.
أومأ أركل وجلس بوجه جاد:
“عوان، الدواء الذي اشتريناه مؤخرًا من برج السحر… هل ما زال محفوظًا جيدًا؟”
“نعم، كله في المخزن. لكن، لماذا تسأل؟”
“من بينها دواء ذو مفعول مُهدئ، أليس كذلك؟ يساعد على الاسترخاء وتهدئة الأعصاب.”
أومأ هوان وقد اتضح له المقصد:
“آه… تنوي استخدامه غدًا عند عودة الآنسة.”
“صحيح.”
رفع هوان نظارته بابتسامة رقيقة.
يبدو أنه يريد إعطاءه للسيدة ليزي.
لم يسبق له أن رأى سيده يهتم بإنسانة أخرى بهذا الشكل. كان الأمر غريبًا لكنه باعث على الدفء.
“لكن يا سيدي، ربما من الأفضل أن تواجه السيدة ليزي الأمر بشخصيتها الطبيعية من دون الاعتماد على الأدوية. لا تقلق كثيرًا، فهي قادرة على التصرّف.”
أجابه أركل ببرود:
“ماذا تقول؟”
“نعم؟”
قال بلهجة واثقة:
“الدواء طبعًا سيُعطى لشقيقتي، لا لليزي.”
“……؟”
“شقيقتي فظة اللسان. أما ليزي فهي قوية، لكنها في الوقت نفسه نقية.”
نقية؟ بأي معنى؟
تجمّد هوان مكانه عاجزًا عن الرد.
وبدا بريق قاتم في عيني أركل الحمراء:
“لذلك… يجب أن أزيل أي شيء قد يجرحها.”
هل يقصد… أنه سيتخلص من شقيقته؟!
اضطر هوان لقضاء الليل بأكمله في محاولة إقناعه بألا يُقدِم على شلّ للآنسة الكبرى بالدواء.
****
ترجمة : سنو
انشر الفصول في جروب التيليجرام كملفات، وممكن لو انحظر حسابي بعيد الشر بتلاقوني هناك
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 26"