هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 100 ]
في صباح اليوم التالي، جلستُ قبالة هاينري لتناول الإفطار.
فقال مبتسمًا بمكر وهو يمازحني:
“الظاهر أنك لم تعودي تشعرين بالغثيان لمجرد رؤية وجهي ما دمتِ تأكلين بهذا الطيب نفس. لقد أحسنتُ صنعًا إذ لم أطلب لي قناعًا.”
كنت أمضغ طعامي ببرود، فحدّثني بمزاحه ذاك، فنظرتُ إليه نظرة جانبية حادة قبل أن أحول بصري عنه.
“…ليس الأمر أنني اعتدتُ على ذلك. فقط… أنا جائعة لا أكثر.”
كنت أتصرف بدور الفتاة التسونديري التي تنكر مشاعرها وهي تمر بمرحلة إنكار الإعجاب.
أما في داخلي، فكنتُ أكاد أموت شوقًا لأن أهوي بقبضتي على رأسه حتى لا يتوهم أنني بدأت أكنّ له شيئًا، لكني كبحت رغبة قلبي ومضيتُ أؤدي الدور بإتقان.
‘والآن… البطاقة السرية.’
تظاهرتُ بالتردّد، ثم دفعت نحوه طبقًا فيه لحم.
“هذا… شبعتُ، وسيكون من المؤسف أن يرمى. …خذه أنت.”
بدت على هاينري علامات الدهشة وهو يحدّق بي.
عددتُ ببطء في داخلي حتى الثلاثة، ثم قطبتُ حاجبيّ بتصنّع وأطلقت بصوت مرتفع:
“إن كنت لا تريده فلا بأس! ليس الأمر أنني أفكّر بك! سأسترده الآن—”
لكن قبل أن أمدّ يدي، مدّ هو يده مبتسمًا وأخذ الطبق.
“أشكركِ. هذا أحد محاسن الأكل بصحبة الآخرين.”
وجرّ الطبق أمامه بهدوء.
انتهزتُ الفرصة وسألته بحذر:
“ألا تأكل عادة مع أحد؟”
“ليس نادرًا فحسب، بل لم أفعل مطلقًا منذ كنت صغيرًا.”
قالها ببرود وهو يقطع قطعة لحم بهدوء ثم يضعها في فمه.
“والحق أني أجد الأمر غير سيّئ.”
“…لابد أنك شعرت بالوحدة.”
توقّف يده التي تمسح بفوطة على فمه عند كلمتي تلك، وحدّق بي بصمت.
كانت ابتسامته المعتادة مختفية خلف الفوطة، وعيناه لا تضحكان البتة.
“أن تأكل وحدك… أليس في ذلك وحشة؟”
“……”
“أنا أعرف هذا الشعور. فقد قضيت زمنًا طويلًا وحدي حتى كدت أنسى كم مرّ.”
تمتمتُ بصوت شجي، فازدادت عيناه ضيقًا.
“أتكون بعض ذكرياتك كإلهة قد عادت إليك؟”
“ربما… منذ أن عدتُ من المعبد بدأت تتداعى لي صور غامضة.”
بالطبع كان ذلك كذبًا.
لكن حيث إنه لا يزال يظنني تجسيدًا للإلهة، وجب عليّ أن أبذل قصارى جهدي لأبدو وكأنني أستحضر آلامها ووحدتها.
“كنتُ أراقب العالم، وذات لحظة تساءلت… أولئك الناس يعيشون في جماعات متآلفة، فلماذا لا أجد لي بينهم مكانًا؟ لماذا لا يريدني أحد؟”
تمتمتُ كأني أعبّر عن خواء عمرٍ مديد عشته أنا، بينما هي في الحقيقة مشاعر الإلهة.
ظلّ هاينري يحدّق بي بصمت، لا أدري أكان يوافقني أم ينكر.
لكنه أنزل الفوطة أخيرًا، وعلى شفتيه لم تكن ابتسامة البتة.
حينها أطلقت عبارتي القاصمة:
“…قد يبدو كلامًا ساذجًا، لكنني أشعر أننا متشابهون.”
جملة استهلكها الخيال كثيرًا لتفكيك حصون القلوب، ولكني ختمتها بابتسامة باهتة حيية.
“……”
لم هاينري يقل شيئًا، لكنه بعد حين ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة حقيقية هذه المرة.
“ربما يكون كذلك.”
لم تكن تلك ابتسامته المصطنعة المعتادة، بل ابتسامة صادقة.
‘نجحت.’
لو لم أكن أؤدي دورًا الآن لصفّقتُ فرحًا.
لكنني تماسكت وقلت له بهدوء وأنا أحدّق فيه:
“إذن فهمت الآن. لديك همّ يشغلك، أليس كذلك؟”
“باستثناء ما يخصّك أنتِ؟”
رغم إصابتي كبد الحقيقة، لم يبدُ عليه الارتباك، بل ابتسم بدهاء وأطلق مزحة.
‘خصم ليس بالهيّن… لكن ما هو إلا تحت يدي في النهاية.’
“…كنت سأعطيك بعض النصائح، لكن إن كنت ستتصرف هكذا فسأتراجع.”
أجبتُ بجرأة، فضحك هو خافتًا كأنه معجب بصراحتي.
“ها قد ركلتُ الحظ بقدمي. لكن لفتني أمر: ما دمتِ لا تعرفين ما يقلقني، فبأي صورة كنتِ تنوين أن تنصحيني؟”
“الماركيز هوفن.”
بمجرد أن ذكرتُ الاسم، تجمّدت ابتسامته الواثقة.
واصلتُ تناول طعامي ببرود وأنا أقطع اللقمة بالسكين.
“أليس غريبًا أن وثائق من القصر بدأت تختفي؟ السارق هو الماركيز هوفن.”
“……”
“ومن أعانه: الكونت أُوريس، والبارون نيريات، وطاهٍ يُدعى فين.”
“……”
“إذن لستَ في موضع لتسخر مني بسبب خيانة مارڤين، أليس كذلك؟”
طعنتُ بالشوكة قطعة من الطعام وأدخلتها فمي بغيظ متعمّد.
نظر هاينري إليّ مذهولًا، كأنه لا يصدّق.
كان أول مرة أراه متفاجئًا بهذا الشكل.
“كيف… عرفتِ؟”
“ألم تكن أنت أيضًا تشك به؟”
“…صحيح.”
“على فكرة، إن فتشتَ مطبخ الطابق الثاني فستجد الدليل. ذاك الطاهي كان يخبئ الوثائق بين المواد الغذائية ويهرّبها للخارج.”
وبينما أمسح فمي بفوطة بعد الفراغ من الطعام، تمتم بدهشة وقد عاد له وعيه:
“…أهذا من قدراتك؟”
كان في عينيه بريق من الإجلال.
‘ممتاز، كنت أنوي أن أختلق عذرًا كهذا، فإذا به يقتنع من تلقاء نفسه.’
أحسست بالامتنان لأول مرة لذكائه وسرعة بديهته.
فاكتفيتُ بأن أومأت برأسي وأنا أرفع كأس الماء وأرتشف منه، دون أن أنبس بكلمة.
في الحقيقة، ما عرفته لم يكن بفضل ذكائي، بل بسبب “الهدية” التي منحتني إياها الإلهة، أو بالأحرى… بفضل معرفتي بأصل الحكاية.
ذلك أنّ الماركيز هوفن، الذي كان يتلاعب بوثائق القصر السرية، سيعرض قريبًا صفقته على مارثا مقابل ثمن باهظ.
ومارثا الطموحة ستقبل بالعرض في الظاهر، لكنها في الحقيقة ستجمع الأدلة كلها وتشي به للإمبراطور، فتحظى بثقة عظيمة ومكافأة ضخمة.
‘حقًا… إنه تصرّف يليق بمارثا.’
صحيح أنني فقدت فرصة الحصول على تلك المكافأة، لكني على الأقل استطعت أن أجعل هاينري يقع في شباكي.
وبينما يحدّق بي مليًّا، سألني بصوت خفيض:
“لماذا تخبرينني بهذا؟”
“……”
“أليست الإلهة من المفترض أن تعامل جميع البشر على حدّ سواء؟ أنا والـماركيز هوفن لا فرق بيننا لديك.”
ساد صمت قصير، قبل أن يتابع قائلاً:
“فلماذا أنا بالذات؟”
لم يكن هاينري واعيًا لذلك، لكن نبرته حملت توقعًا ورجاءً دفينًا.
وذلك ما كنت أنتظره.
فأجبته بالعبارة التي كان يتعطّش لسماعها:
“لأنك… ربما تشبهني. لذلك أشعر أنك مميّز.”
ارتجف بؤبؤا عينيه قليلًا.
لقد انغرست كلماتي في صدره.
ابتسامتي المزيّفة كانت في حقيقتها لعنةً مقنّعة بالود.
“حسنًا، لقد انتهيت من الطعام. سأذهب.”
وقفتُ عن المائدة ببطء، أما هو فبقي ساكنًا لا يرفع بصره إليّ، بل ظلّ يحدّق في الفراغ واجمًا.
قلت له وأنا أتهيّأ للانصراف:
“إن عالجتَ أمر الماركيز هوفن، فالإمبراطور سيفرح بك أكثر، وسيزداد تقديره لك.”
“……”
“ومن نال حظوة الإلهة، يليق به أن يحوز مكانة تليق بذلك.”
“……”
“سأساعدك فيما بعد أيضًا. يكفي أن تصغي لي جيدًا.”
كان صوتي في تلك اللحظة عذبًا، حتى ليخيّل للسامع أنّ ملاكًا يتحدث.
❖ ❖ ❖
كان ما قلته عن الماركيز هوفن صحيحًا.
إذ سرعان ما عاقب الإمبراطور هوفن ومن عاونوه، وكافأ هاينري بالعطايا والثناء.
فتضاعفت مكانة هاينري، ولم يعد أحد من النبلاء يجرؤ على تجاهله.
لكن أكثر ما استحوذ على قلبه لم يكن ثناء الإمبراطور ولا رهبة النبلاء، بل كلمات أخرى ظلّت عالقة في ذهنه:
‘هل تعتبرني فعلًا مميزًا؟’
تلك الجملة لم تفارقه.
حتى وهو يتصفح الوثائق، أو يصغي لتقارير أتباعه، كان يسمع في أذنه صوتها العذب يتمتم:
“لأنك ربما تشبهني… أشعر أنك مميز.”
مميّز…
مشابه لي…
لم يكن قد سمع مثل هذه الكلمات من أحد من قبل.
والأغرب أنه لم يكن شعورًا سيئًا… بل بالعكس، كان شعورًا لذيذًا يثير في داخله رغبة خفية:
‘أكثر…’
رغبة في أن يسمع منها المزيد من المديح.
رغبة في أن يغدو أكثر تفرّدًا في عينيها.
‘فقط… قليلًا بعد.’
ومع مرور الأيام، إذ كان يبدأ صباحه وينهي يومه بمائدة واحدة مع ليزي، راحت رغبته تلك تتعاظم وتزداد وضوحًا.
في البداية، كان يظن أنّه يفعل ذلك فقط ليُحكم عليها تعويذته للسيطرة على العقل.
لكن شيئًا فشيئًا، وجد نفسه يسعى جاهدًا لإرضائها بصدق، لا تظاهرًا.
فامتلاك حبّ شخصٍ كامل كان يمنحه نشوة لم يعرفها أي سلطان من قبل.
“أنت تفهمني… لا عجب فأنت مميز.”
كان يكفيها أن تقولها حتى يشعر أنّه يملك الدنيا.
“ألا ترى أن هذا الفعل غير لائق؟”
فإذا ما قالتها بوجه عابس، كان قلبه يهوي في صدره.
“أنا أقول هذا لأجلك… لأنك مميز.”
وهي تبتسم له بابتسامة ملائكية.
“كل ما عليك هو أن تثق بي. فأنا أفهمك… لا أحد في هذا العالم يعرفك كما أعرفك.”
“……”
“لذا، آمن بي. اتفقنا؟”
“نعم.”
ابتسم هاينري مطيعًا، كطفل يتلقى ثناء معلمته.
“كما توقعت… أنت مميز.”
ابتسمت له راضية، وهو بدوره أحسّ بالرضا لمجرد أنه نجح في إسعادها.
الآن، لم يبقَ سوى أن ينجح في تعويذة السيطرة على العقل، وحينها ستصبح “محبتها” ملكًا خالصًا له.
لكنّ هاينري لم يكتفِ بذلك. فقد بدأ يطمع بأمر آخر:
‘ليكن أنا وحدي… أنا وحدي الشخص المميز لديها.’
أن يكون هو وحده من تفهمه، وتثق به، وتخصّه بتلك الكلمات.
‘حتى أركل كايين لم يسمع منها مثل هذا الكلام.’
ابتسم هاينري، بابتسامة امتزج فيها الغرور بالوله.
لقد أراد أن يحتكر اهتمامها.
وهكذا، جاء اليوم المنتظر… يوم تنفيذ تعويذة السيطرة على العقل.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 100"