كانت ناديا تلهث بأنفاس متقطّعة، خشنة وثقيلة. كأنها غارقة في أعماق الماء، تتشبث بأنفاسها بصعوبة لا تحتمل.
ترنحت وهي تتنفس باضطراب، تكاد تختنق، فأسرعت تستند إلى الجدار تجرّ نفسها خطوة بخطوة.
فجأة اجتاحها شعور خانق كأن يدًا غليظة انقبضت على قلبها، فرفعت قبضتها تضرب صدرها بقوة محاولة طرد ذلك الاختناق.
منذ أن استخدمت قوتها المقدسة لأول مرة للقضاء على الوحش، وناديا تعيش على هذا الحال.
في البداية ظنت أنها مجرد نوبة فرط تنفس بسبب التوتر المفرط، لكنها لم تهدأ، بل استمرت تتفاقم.
وكأنها مدفوعة بغريزة خفية، أخذت خطواتها تحملها داخل القصر، لا وجهة لها إلا غرفتها الخاصة.
دفعت الباب بيد مرتجفة وسقطت أرضًا شبه مغمى عليها.
جرّت جسدها المثقل على الأرض زحفًا نحو السرير.
“آه… آهـــ…”
شهقاتها امتزجت بأنين يقطر ألمًا وهي تمتد بيدها مسرعة، تسحب صندوقًا من تحت السرير وتفتحه بارتجاف.
التقطت زجاجة صغيرة وفتحت غطاءها في عجلة، تصب محتواها دفعة واحدة في فمها.
سال السائل معدني الرائحة في حلقها. ذلك الطعم المالح الممزوج بمرارة الحديد صار مألوفًا لها؛ دم مسحور اعتادت جسدها عليه.
وما إن جرى الدم في حنجرتها حتى هدأ اضطرابها تدريجيًا. أنفاسها المنتفضة استقرت، وارتعاش يديها انطفأ شيئًا فشيئًا.
لم تهتم بإعادة الصندوق أو الزجاجة إلى مكانهما، بل رفعت يدها أمام وجهها. هذه المرة استطاعت استدعاء قوتها بسهولة أكبر؛ تركزت الطاقة في راحتها، وانبثق في الهواء أمامها وميض رماديّ بارد.
زفرت ناديا نفسًا عميقًا متخلله راحة عارمة.
“نعم… أنا القديسة، أنا القديسة بالفعل.”
فقط حين أبصرت النور يتفجر من يدها، تلاشى القلق الذي خنقها قبل قليل. كانت تحدق في ذلك الضوء الشاحب، عيناها متسعتان وشفتيها تتمتمان بكلمات جنونية.
“هذه القوة… قوتي أنا، كانت لي منذ البداية، لن يأخذها أحد مني… مطلقًا…”
هي تعلم أنها استمدّت تلك القوة من دم الساحر، لكنها كانت تؤمن بكل يقين أن هذه القوة ملكها بالأصل، وأنها تستحقها أكثر من أي شخص.
كيف لا؟ هي جميلة لا تقل عن القديسة الحقيقية، بل تراها أكثر أهلية منها. كيف تكون هذه القوة لغيرها؟ هذا محال.
لكن خاطرًا جارفًا قطع تيار جنونها:
“ماذا لو… تكرر ما حدث قبل قليل؟”
لو تأخرت قليلًا فحسب، لكانت بين أنياب الوحش الآن.
ارتجفت عيناها بقلق وهي تحدق في الصندوق بين يديها.
التحذير كان واضحًا: ألا تشرب سوى قارورة واحدة كل أسبوع، وإلا أصابها أثر جانبي خطير.
لكن ذلك لم يكن يعني شيئًا لناديا. بلا تردد سحبت قارورة أخرى، فتحتها بحدة، وأفرغتها حتى آخر قطرة في فمها.
ثم جمعت قوتها مجددًا… هذه المرة انبثق الضوء أكثر نقاءً وسطوعًا. ارتسمت على وجهها ابتسامة باهرة مليئة بالهوس.
“ها قد انتهى الأمر، لن يتكرر ذلك مجددًا، لن تُسلب مني هذه القوة بعد اليوم…”
وظلت تكرر عباراتها في غيبوبة أشبه بالهذيان، تحدق في الضوء بنظرات غائمة.
***
“كان الصندوق يحتوي على خمس زجاجات صغيرة مملوءة بالدم.”
قالت فيلوميل وهي تشرح لثيودور وناتاشا.
“الصندوق كان قديمًا وباليًا للغاية، لولا أن رائحته تفوح منها عطر ناديا، لما خطر ببال أحد أنه يخصها.”
فكرة أن تملك فتاة مثل ناديا زجاجات دم أمر لا يصدّق، لم يكن عقل أحد ليقبله، لكن الرائحة التي انبعثت فور فتحه لم تدع مجالاً للشك.
كانت رائحة عطرها المميزة، بلا جدال.
لذلك أيقنت فيلوميل أن الصندوق يخص ناديا، وأخذت تفحصه بدقة أكبر.
“كان في الداخل أيضًا رمز غريب، لم أرَ مثله من قبل، احتفظت به على هذا المنديل… تفضلوا، انظروا.”
وأخرجت من صدرها منديلًا، مرسومًا عليه بخط باهت شكل غامض.
ناتاشا حدّقت فيه برهة ثم هزت رأسها. “لم أره من قبل.”
وتيوودور كذلك أومأ موافقًا. “وأنا أيضًا، لا أعرفه.”
تساءلت فيلوميل بقلق: “إذن ربما لا يحمل أي معنى؟”
لكن ثيودور قطب فجأة، عيناه تضيئان وكأنه تذكّر أمرًا. مد يده سريعًا وأخرج قصاصة قماش قديمة من جيبه، عليها حروف غامضة.
“هذا نقش تعويذة… انظرا، إنه يشبهه كثيرًا، على الأرجح أن الرمز في الصندوق أيضًا تعويذة.”
تمتمت فيلوميل بذهول: “إذن ناديا لها علاقة بالسحر كذلك؟”
سألها ثيودور بجدية: “فيلوميل، هل سبق أن سمعت ناديا أليس تتحدث عن السحرة؟”
استرجعت ذاكرتها بسرعة ثم هزت رأسها حازمة.
“لا، قطّ، لو كانت ساحرة لأدركت ذلك منذ زمن، ناديا… ليست بارعة في إخفاء الأمور.”
كايين الذي يعرف طبيعتها أومأ موافقًا.
“صحيح، إن كان الأمر كذلك، فالراجح أنها احتكت بالسحرة بعد أن ساءت علاقتها بك، المشكلة… أنها ربما لم تدرك أنها تُخدع، وهذا وارد جدًا.”
أضافت فيلوميل بهدوء قاتم: “ناديا، لو كانت هي، فالاحتمال قائم بالفعل.”
كان هذا ما يعقد الوضع أكثر. لو كانت متواطئة عمدًا مع السحرة لكان التعامل معها أسهل، لكن وجود احتمال أنها مجرد ضحية يجعل التصرف حذرًا مقيدًا.
قال ثيودور: “سأوصي ريتا أن تراقب القديسة عن كثب.”
ورد كايين: “ذلك أفضل، إلى أن نحصل على دليل آخر.”
ثم أخذ المنديل من فيلوميل وحفظه في صدره.
في تلك اللحظة، سُمع طرق سريع على الباب وصوت مألوف ينادي: “إنه أنا، هارنين!”
“تفضل بالدخول.” أجابه ثيودور.
اندفع هارنين إلى الداخل، يلهث وكأنه ركض بلا توقف. سأله كايين بحدة.. “ما الأمر؟”
رفع هارنين كتابًا بيديه المرتجفتين وصاح: “وجدتها يا سيدي! وجدتها!”
كان ذلك الكتاب بعنوان سجلات الوحوش.
فتحه على صفحة معينة وأشار بعجلة.. “هذا مدوَّن بعد مرور عشر سنوات على ظهور الوحوش، لقد وُلدّت من الطبيعة قوة مضادة للوحوش، الوحوش كائنات غير طبيعية، لذلك فهي ضعيفة أمام قوة الطبيعة.”
ثيودور اتسعت عيناه: “أتقصد أن تلك القوة هي قوة مستدعين الأرواح؟”
“نعم!” أجاب هارنين بحماس.
شرح وهو يلهث: “المستدعي كالساحر، كلاهما يولدان بقوة خاصة، لكن الفارق أن السحر مصدره مجهول، أما استدعاء الأرواح فمصدره محدد وواضح، النار والماء والتراب والهواء، أي قوى الطبيعة نفسها.”
أضاف متحمسًا: “وبحسب هذه السجلات، فإن قوة الأرواح قادرة على إلحاق أذى بالوحوش بمستوى يماثل قوة المتجاوزين.”
ساد صمت ثقيل في الغرفة، حتى قطعه كايين بحزم: “سأذهب إلى السهول الجليدية بنفسي، بحوزتي لفافة استدعاء أرواح، وسأجربها.”
حتى لو كانت فرضية هارنين خاطئة، فإن كايين، بصفته متجاوزًا، قادر على مواجهة الوحوش وحده.
بعد ساعات قليلة كان قد غادر القصر مجددًا، متجهًا إلى السهول البيضاء. لكن لم تمضِ سوى ساعة حتى عاد.
اللفافة ممزقة بين يديه، وسيفه نظيف بلا دم. ومع ذلك… كانت النتيجة جلية: فرضية هارنين صحيحة.
***
في تلك الليلة، لم تستطع فيلوميل أن تغفو.
“إذن حقًا… يمكن لقوة الأرواح مجابهة الوحوش.”
كان القلق يثقل صدرها. الوحوش كثيرة، والذين يستطيعون مواجهتها قلائل، وفي هذه الظروف لا بد أن يُستنزف كايين مرارًا في المعارك.
ومن يدري كم ستدوم تلك الحروب؟ أعوامًا؟ عقودًا؟ مهما كان متجاوزًا، يظل إنسانًا، الجراح والإنهاك لا يرحمان.
كانت تخشى أن يسيطر عليه هوسه القتالي، وكانت تخشى أكثر أن تفقده فجأة.
لكن فرضية هارنين، ونجاحها، بدّدت ذلك الكابوس. إن وُجدت لفائف الأرواح، فالأمر أبسط بكثير.
حينها فقط شعرت فيلوميل بالارتياح، ليس لأنها رأت كايين سالمًا، بل لأنها علمت أن احتمالية فقدانه قد تضاءلت.
تقلبت في فراشها تستعيد أحداث النهار، حتى انتفضت فجأة لشعورها بوجودٍ قربها. لكنها لم ترتعب، كان الإحساس مألوفًا.
فتحت عينيها، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها وهي تنهض. “هل جئت الليلة أيضًا لتُريني الأضواء الشمالية؟”
جاءه صوت كايين من الظلمة: “من يدري.”
ثم لم تمض لحظة حتى كانت بين ذراعيه، يسحبها إلى صدره بقوة. “ربما… لو منحتني قبلة.”
ضحكت فيلوميل ورفعت إصبعها، تداعب وجنته بنقرة خفيفة. لكن كايين قبض على إصبعها وقبّله قبلة خاطفة.
قالت بلهجة مازحة: “تستغل الفرص جيدًا كعادتك.”
أجابها بابتسامة عابثة: “لكن الليلة ليست الأضواء.”
“إذن ماذا؟” سألت بعينين متلهفتين.
ضحك بخفة وهو يميل نحوها: “أغمضي عينيك أولًا.”
ثم ألقى برداءه حول كتفيها، وفتح النافذة. فأراحت فيلوميل رأسها على صدره وأغمضت عينيها مطمئنة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 96"