الحلقة الرابعة والتسعون.
في تلك اللحظة، شعر كايين أنه أحسن صنعًا حين أمر بإعادة الفرسان المنتشرين في السهول الجليدية إلى القلعة مسبقًا.
فلو ظلوا هناك لفترة أطول، لربما وقعوا تحت تأثير الطقوس.
تقدم كايين إلى قلب السهول البيضاء، متجهًا نحو المكان الذي تعرّض فيه هارنين للهجوم قبل أيام.
وما إن بدأ بتفقد المنطقة حتى اندلع صخب مفاجئ.
“وحشان! إنها وحوش!” جاء صوت ديل يصرخ.
فانطلق كايين فورًا نحو مصدر الصوت.
“اثنان! وهما في الجهة التي يوجد فيها السير كاي!” كان ذلك من جهة ناديا ومجموعة ويستون.
لم يكن قد مضى وقت طويل منذ وصول كايين إلى السهول، ورغم ذلك اندلعت مشكلة، فتمتم بشتيمة خفيفة وأحاط قدميه بالأورا ليندفع بسرعة أكبر.
“ديل، اجمع بقية الفرسان واستعدوا للعودة!”
“أمرٌ مطاع، يا دوق!”
كان ديل يعرف تمامًا مدى براعة كايين، ولهذا لم يتردد في تنفيذ الأمر بدلًا من ملاحقته.
“آآاااااه!”
وصل كايين بسرعة إلى موقع الصرخات الحادة، كانت ناديا قد انكمشت على نفسها، بينما كان ويستون ممسكًا بذراعه المصابة.
كان هناك ثلاثة فرسان، من ضمنهم كاي، إلا أن كايين لم يتردد لحظة، أطلق الأورا في سيفه واندفع نحو الوحش الذي كان يلوّح بذراعه الهائلة.
“انحنِ!”
انخفض ويستون بسرعة، وفي تلك اللحظة، هوى كايين بسيفه ليقطع ذراع الوحش.
“غاااااه!!”
زمجر الوحش حين فشل في تسديد ضربته، وأخذ يضرب الأرض برجليه غضبًا، مطلقًا اهتزازات عنيفة في كل مرة.
كانت هذه الكائنات ذات ذكاء منخفض للغاية، فحتى لو كانت تطارد فريسة معينة، فإنها تنقض دومًا على من يهاجمها.
ولهذا، بدأ كايين يترقب اللحظة المناسبة لقطع عنق الوحش.
لكن على نحو غريب، لم يتوجه الوحش نحوه، بل عاد وانقض نحو ويستون… أو هكذا بدا في البداية.
‘ليس ويستون.’
“اقتله بسرعة! بسرعة! إنه يقترب مني!!”
“تبا! ناديا! أأنتِ غافلة عن كونكِ قديسة؟! لقد تخلصتِ من أحدهم المرة الماضية!”
‘إنها ناديا.’
الوحش كان يستهدف ناديا.
لكن الأمر الغريب هو أنه لم يبدو وكأنه يهاجمها فعليًا.
عادة، تهاجم الوحوش ضحاياها بفمها الواسع المليء بالأنياب، لكنها الآن لم تفتح فمها على الإطلاق، بل كانت تركض نحو ناديا وكأنها عائدة إلى موطنها مذعورة.
صرخ ويستون مرة أخرى، متوسلًا:
“ناديا! استخدمي قواكِ المقدسة!”
لكن ناديا كانت في حالة صدمة.
في الأمس، لم تر الوحش بهذا القرب، بالكاد كانت تميز هيئته من بعيد، لم تكن تتصور أنه بهذا الحجم وهذا البشاعة.
ولهذا، ما إن ظهر الوحش أمامها حتى تجمدت في مكانها، عاجزة عن الهرب.
“ناديا!”
بصرخة ويستون، أغمضت ناديا عينيها بإحكام، ومدت يدها نحو الوحش.
شعرت بالطاقة تنسحب من جسدها، وفي اللحظة التالية، التفّ ضوء رمادي حوله.
“غااااااااه!”
صرخ الوحش كأنه يتعذب، وهو يمد يده نحو ناديا في اللحظة الأخيرة… ثم اختفى تمامًا، وكأن شيئًا لم يكن.
تابع كايين مشهد تحول الوحش إلى رماد تحت تأثير القوة المقدسة دون أن يطرف له جفن.
لكن لم يكن هناك وقت للذهول، فقد كان هناك وحش آخر لا يزال يصارع الفرسان.
استدار كايين بسرعة، وهجم على رقبته، قاطعًا إياها بضربة حاسمة.
كان ذلك الوحش أيضًا يحاول الإفلات من الفرسان والتوجه نحو ناديا، لكنه سقط أرضًا قبل أن يبلغها.
“اجمعوا جثثهم.”
“نعم، سيدي الدوق.”
وبينما انشغل الفرسان بجمع جثث الوحوش، اقترب كايين من كاي وسأله:
“ما الذي جرى بالضبط؟”
“كنا نستكشف السهول… فجأة استيقظ الوحشان، بلا سابق إنذار.”
“فجأة؟ دون أي إشارة؟ حتى لو لم يكن الأمر واضحًا، أريدك أن تشرح بالتفصيل.”
فكر كاي للحظة، لكنه هز رأسه في النهاية.
ما قاله كان واضحًا: الوحوش استيقظت بلا سبب.
عقد كايين حاجبيه بتفكير، إذ لم يستطع فهم الأمر.
“سيدي الدوق، نحن مستعدون للعودة فورًا.”
اقترب ديل وهو يقود الخيول.
“لنعد إلى القلعة.”
بأمر من كايين، صعد ويستون الذي خضع لعلاج إسعافي بسيط، إلى ظهر جواده، وكذلك ناديا، التي لم تكن قد استعادت توازنها بعد.
“زيدوا السرعة، لا نعلم إن كانت هناك وحوش أخرى قد تستيقظ فجأة، احموا المؤخرة جيدًا!”
وما إن وصلوا إلى القلعة، أرسل كايين فورًا وحدة استطلاع إلى السهول لمراقبة الوضع.
“يا إلهي! صاحب السمو! القديسة!”
هرع يوهانس إليهم فزعًا حين سمع صوت البوق، مذعورًا من حالتهما.
“هل هناك طبيب؟ أين الطبيب المسؤول؟! هل من أحد؟!”
“لا تصرخ بهذا الشكل، الإصابة ليست خطيرة.”
قطّب كايين جبينه وهو ينظر إلى يوهانس الذي كان يصيح كالمجنون.
“أعطوهم صندوق الإسعافات، جيو، أحضره لهم.”
“أمرك، سيدي الدوق.”
“هـه؟ أهذا كل ما ستقوله، سيدي الدوق؟”
ترك كايين يوهانس خلفه، وتوجه مباشرة إلى مكتب ثيودور ليشرح له ما حدث.
“بلا سبب واضح؟”
“نعم، لم يكن هناك أي سبب.”
بدت الدهشة على وجه ثيودور أيضًا، إذ اعتبر الأمر مريبًا للغاية.
“حتى لو حققنا، لن نخرج بشيء جديد.”
“كايين، ما حال الأمير الثالث؟”
تذكرت ناتاشا صوت يوهانس المرتفع حين كان يصرخ في ساحة القلعة، بدا وكأنه تعرض لإصابة خطيرة، بينما كان كايين في قمة هدوئه.
“آه…” تذكر كايين إصابة ويستون، فقال دون مبالاة:
“جرح بسيط، يحتاج يومين من الراحة فقط، الكاهن هو من أحدث كل تلك الضوضاء.”
“وماذا عن القديسة؟ هل أصيبت؟”
توقف كايين قليلًا، ثم أجاب:
“لا أظن، لو كانت مصابة، لما كانت صامتة حتى الآن.”
“صحيح، على الأرجح كان الكاهن سيحدث ضجة مضاعفة.”
“بالمناسبة، أين فيلوميل؟”
“في الدفيئة، على الأرجح.”
خرج كايين فورًا متجهًا نحو الدفيئة، لكنه في الطريق لاحظ انه ملطخ بدماء الوحوش، فخلع معطفه ورماه إلى جيو.
وما إن فتح باب الدفيئة حتى غمره دفء مختلف تمامًا عن الجو الخارجي.
رأى من يبحث عنها فورًا، لكن بدلاً من مناداتها، اقترب منها بصمت حين رآها منحنية تجهد في عملٍ ما.
“قلت لكِ، ليس هكذا!”
“لكن كل البطاطس اللي حفرتها أنت مليئة بالخدوش! بهذه الطريقة أستطيع إخراجها سليمة.”
“لكن طريقتك بطيئة، أنا حفرت خمس بطاطس وأنتِ واحدة! وايضًا، الخدوش ليست مهمة، مجرد خدش بسيط، ليس جرح.”
“هع، لِنسأل ليازيل! صغيرتي، مين الأفضل؟ أنا ولا هذا البخيل؟”
كانوا جالسين معًا في حقل البطاطا، يتحاورون بمرح.
مدّ هارنين حبتين من البطاطا نحو ليازيل، التي رفعت عينيها نحو كايين الواقف خلفهما.
“عمي!”
“هل تقولين إن الدوق هو أفضل من يقطف البطاطا؟”
التفت هارنين مستغربًا.
وقفت فيلوميل هي الأخرى عند سماعها صوت ليازيل، ثم التقت عيناها بعيني كايين.
“سيدي الدوق! متى عدت؟”
“وصلت لِتوي ، ماذا كنتِ تفعلين؟”
مدّ يده نحوها، لكنها ابتعدت وهي تبتسم بخجل.
“كنا نحفر البطاطا، لا تقترب، قد تتلطخ ثيابك بالطين.”
“لا يهمني ذلك.”
ضحك كايين، ثم جذبها إلى حضنه، وطبع قبلة خفيفة على خدها الذي احمرّ من حرارة الدفيئة.
“هل نجحتِ في الحفر؟”
“نعم، حفرت كثير، لكن ليازيل كانت الأشد حماسًا، تصدق؟”
وأضافت، مشيرة إلى أن نصف السلة تقريبًا امتلأت بفضل ليازيل.
وكان كلامها صادقًا، فقد بدت ليازيل في حالة فوضى كاملة، شعرها المتدلّي من الضفيرتين كان متناثرًا، ووجهها وثيابها مغطاة بالطين.
“أحسنتِ يا شقية.”
ربّت كايين على رأسها، ثم التفت إلى هارنين الذي لم يره منذ أيام:
“هل قرأت كل السجلات؟ كنت أظن أنك لن تخرج حتى تجد ما تبحث عنه.”
ابتسم هارنين بخجل وهو يحك رأسه.
“لم أتممها كلها.”
“أنا من أخرجته بالقوة، كدت أظن أن جسمه سيعفن داخل المكتبة.”
تفحّصت فيلوميل مظهر هارنين، الذي بدا أنه فقد الكثير من وزنه خلال الأيام الماضية، ثم هزّت رأسها بأسف.
“أوه، سيدي الدوق… هل عدتم سالمين؟”
تذكر كايين إصابة ويستون، لكنه أومأ برأسه؛ فبما أنه لم يُصب، اعتبر نفسه سالمًا.
على أي حال، كان واثقًا أن فيلوميل لن تُبدي أدنى اهتمام بإصابة ويستون.
التعليقات لهذا الفصل " 94"