الحلقة تسعون.
“هناك شيء لم أخبركِ به.”
قال كايين ذلك ما إن دخل إلى مكتبه.
“ما هو؟”
“تتذكرين عندما افترقنا بعد حفلة الشاي التي أقامتها كونتيسة فيسين؟”
“نعم، أذكر.”
“في طريقي للعودة في ذلك اليوم، التقيت بويستون لقد أخذ ناديا معه إلى القصر.”
توقفت فيلوميل فجأة.
هل وقع ويستون وناديا في الحب؟
لكن لو أنهما تطوّرا إلى علاقة عاطفية، لما بقيت ناديا صامتة طوال هذا الوقت، من المؤكد أنها كانت ستجوب المجتمع الأرستقراطي بوقاحة، ظنًّا منها أن سلطة ويستون تفوق سلطة كايين.
“لم تتطور الأمور بينهما إلى علاقة.”
أضاف كايين، وكأنه قرأ ما يدور في ذهن فيلوميل.
“لست متأكدًا من السبب الدقيق، لكن ويستون أخذ ناديا أليس إلى القصر وجعلها وصيفته الخاصة، لم يلتقِ بها فعليًا إلا نادرًا خلال الأسابيع الماضية، حتى أنني نسيت أمرها ولم أرد أن أزعجكِ بهذا.”
“حتى لو كنتَ أخبرتني وقتها، ما كنتُ لأهتم كثيرًا.”
“صحيح، المشكلة هي…”
كايين عقد حاجبيه بقلق.
“…أنني لم أتوقّع قط أن تظهر ناديا أليس بوصفها القديسة.”
“…لم أكن لأتوقع ذلك أيضًا.”
للأسف، هذا الأمر حدث في الوقت الذي كان فيه كايين غائبًا عن العاصمة، فلم يتمكن من معرفته مسبقًا، صحيح أنه عَلِمَ بظهور القديسة من خلال سيباستيان، لكن لم يكن بمقدوره التحقق من هويتها بدقة.
“لكن، دوق…”
أخرجت فيلوميل سؤالًا كان يدور في ذهنها منذ لحظة.
“هل ناديا حقًا هي القديسة؟”
“أوه… لم أشرح لكِ ما حدث قبل قليل.”
استرجع كايين الأحداث التي وقعت منذ دقائق قليلة فقط.
بعد مغادرة فيلوميل، كان كايين يكتب رسالة إلى ولي العهد قبل أن يأخذ قسطًا من النوم.
وبينما كان يوشك على إنهائها، شعر فجأة بطاقة الوحش، فصعد إلى السور فورًا، وهناك سمع صوت البوق.
عندما لاحظ اقتراب أحد الوحوش من محيط القلعة، أعدّ نفسه للقفز من على السور بسيف مغمور بالهالة.
لكن في تلك اللحظة، لمح مجموعة من الناس في مكان غير بعيد، لم يكونوا من سكان القرية القريبة.
وفجأة، غيّر الوحش مساره وانقضّ نحوهم، وكأنه استشعر وجودهم.
همّ كايين بالتدخل لقتل الوحش، لكن يد امرأة بثوب أبيض امتدت قبله بلحظة.
انبعث نور رمادي من يدها وأحاط بالوحش.
الوحش، الذي لم يكن يُقتل إلا بسيف مغمور بالهالة، راح يصرخ قبل أن يتحول إلى رماد.
لقد سبق وأن قرأ كايين عن قوة النور في سجل الوحوش ، قوة يمكنها إخماد الوحوش بالكامل.
“كانت تلك قوة القديسة، الهالة الإلهية.”
“…إذن، ناديا بالفعل هي القديسة؟”
“بشكل لا يُصدَّق، نعم، ناديا أليس قديسة حقيقية.”
كان من الصعب على فيلوميل تقبّل فكرة أن ناديا هي القديسة، جزء منها ظل يأمل أن تكون مجرد ادّعاء أو خدعة.
لكن بما أن كايين رأى ذلك بعينيه ناديا تستخدم الهالة الإلهية لتقضي على الوحش فلا مجال للشك، الاحتمال الأكثر ترجيحًا قد سقط.
“لكن، حتى لو كانت ناديا هي القديسة، فلا شيء يتغيّر، أليس كذلك؟”
“فيلوميل…”
“وجود القديسة في الشمال مفيد، أليس كذلك؟ خصوصًا أن ناديا تصدّت للوحش وحدها، وهذا نادر، أليس كذلك؟”
“…قوتها تشبه تلك التي وردت في السجلات عن قديسة أوقفت الوحوش قبل مئتي عام، صحيح أن هناك بعض الفروقات…”
“إذن هذا أمر جيد، طالما أن ناديا تملك هالة إلهية قوية، فهي ستكون عونًا لنا.”
كان الماضي وما فيه من جراح أمرًا ثانويًا الآن.
الأولوية كانت للتعامل مع الوحوش التي ظهرت فجأة.
“فيلوميل، دعيني أقول لكِ شيئًا مسبقًا.”
أمسك كايين بيدها.
“بالنسبة لي، أنتِ أهم من القديسة، وإن كانت القديسة هي ناديا أليس، فذلك يؤكد كلامي أكثر.”
لو وُضِعت فيلوميل وناديا في موقف خطر، فإن كايين لن يتردد لحظة في إنقاذ فيلوميل.
سواء كانت ناديا قديسة أو لا، فإن من تهمّه فعلًا هي فيلوميل.
“حتى إن كان اختياري لكِ يعني تعريض الشمال للخطر، فهذه مسؤوليتي أنا، لا تهتمي لذلك، أعظم ما أملكه في حياتي… هو أنتِ، فيلوميل.”
أنهى كلماته وسحبها نحوه.
وعندما اقترب وجهه منها، أغلقت فيلوميل عينيها.
ومع ملامسة شفتيه لشفتيها، أحاط كايين خصرها بذراعه وسحبها نحوه بقوة.
وتسللت فخذاه الصلبتان بين ساقيها، لتلتف أجسادهما كأنها ألسنة نار تتعانق.
لم تعد فيلوميل تشعر بالحرج من تمركز فخذه القوي بين ساقيها.
حتى عندما سقط بجسده فوقها على الأريكة، لم تشعر بالضيق، بل كان ثقل جسده الذي لا يمنحها أي مساحة فراغ يبعث الطمأنينة في نفسها.
ومع كل ملامسة لفخذه القوي للفخذ الداخلي لها، كان نفسها يتقطع، وعندما أدرك كايين أنها تلهث، رفع شفتيه عنها.
لكن رغم تنفسها المتقطع، ظل يطبع قبلات خفيفة كمن ينقر بمنقاره على شفتيها.
رفعت فيلوميل يدها بصعوبة لتغطي بها شفتيه.
قطّب كايين جبينه عند توقف القبلات.
“لمَ؟”
“الوقت لا يسمح بهذا الآن، لم تنم بعد، وكنت تعمل عندما أتيت، لذا يجب أن تقوم.”
“لا أصدق أنكِ تذكرين هذا، إنها أول مرة أندم فيها على قوة ذاكرتك الممتازة.”
قال ذلك بتذمّر، ثم مرّر أسنانه برفق على راحة يدها.
صرخت فيلوميل فزعة وهي تنهض.
“دوق!”
“حسنًا، حسنًا.”
ضحك كايين بصوت خافت وهو يراقب وجهها المتورد، ثم أمطر راحة يدها بقبلات صغيرة قبل أن ينهض أخيرًا.
بعدها، أمسك بيدها وساعدها على الجلوس، ثم رتّب فستانها وعباءتها المجعّدة بعناية.
وبينما كانت تراقبه بهدوء، سألته فيلوميل بتردد:
“بالمناسبة، دوق… هل نُخبر السيد ثيودور والسيدة ناتاشا بالأمر؟”
“عن ناديا أليس؟”
“نعم.”
“لا تقلقي بشأن ذلك.”
قالها بينما يعيد ربط شريط عباءتها بإتقان، ثم تابع بابتسامة راضية:
“لوالديّ؟ لا بد أنهما يعلمان كل شيء مسبقًا.”
***
“تفضلي، هذه الغرفة ستكون لكِ.”
استدارت ناتاشا نحو ناديا بعد دخول الغرفة.
“هل جلبتِ خادمة لمرافقتك؟”
أخذت ناديا تتفقد الغرفة بعينيها، ثم ابتسمت ونفت برأسها.
“لقد اقترح قداسة البابا أن يرافقني كاهن، لكنني رفضت، لا يمكنني إهدار الموارد البشرية الثمينة على أمر بسيط كخدمة شخصية.”
“هكذا إذًا.”
نظرت ناديا إلى ناتاشا باستغراب، إذ لم تكن ردة الفعل كما توقعت، فقالت ناتاشا بنبرة حائرة:
“في الشمال، لا يوجد من يقوم بخدمة القديسة.”
“عفوًا؟ ماذا تقصدين…؟”
“لكلٍّ عمله المحدد هنا، ولا يوجد منصب مخصص للخدمة.”
“إذًا… من يخدمكما أنتِ والسيد ثيودور؟”
“أقرب الناس إلينا، بالطبع، ألا تملكين من تثقين به هكذا؟”
ناديا أطبقت شفتيها، بالطبع لا.
المرافقون الذين جاءت بهم كانوا من الفرسان المقدّسين أو الكهنة أصحاب الهالة القوية، لا خدمًا.
كانت تتوقع أن تحصل على خدم من سكان الشمال، لذا شعرت بالارتباك.
“كنت شخصًا عاديًّا جدًا قبل أن أُعلَن كقديسة، وبعد أن تغيّر كل شيء من حولي واضطررت إلى الالتزام بتقاليد المعبد… لم أتمكن من جلب أي فتاة للخدمة معي.”
وامتلأت عيناها بالدموع.
“رغم أن الشمال أرض قاسية وباردة، سمعت دومًا أن أهله طيبون، كنت أظن أنني، كقديسة، سأُمنَح من يخدمني… هل كنت مخطئة؟”
حدّقت ناتاشا في عينيها الحمراوين للحظة، ثم ابتسمت.
“لا تقلقي، سأرسل لك فتاة لتخدمك حتى تصل المساعدة من المعبد، لكن أرجو أن تراسلي المعبد في أقرب وقت، كما تعلمين، الجميع هنا لديهم واجباتهم الخاصة.”
كانت كلماتها ناعمة ولطيفة، لكنها لم تترك أي مجال للاختيار، ومع ذلك، حصلت ناديا على ما أرادت مؤقتًا، فهزّت رأسها بالموافقة.
ثم اقتربت ناتاشا منها وأمسكت بيدها.
يدا الفارسة الخشنتان غلفتا يد ناديا بلطف.
“شكرًا لقدومك، قدّيسة.”
“سعيدة لأنكِ مدركة لما عانيته في طريقي إلى هنا.”
ابتسمت ناتاشا، وقالت:
“إن شعرتِ بأي ضيق، لا تترددي في إخباري، والآن، استريحي.”
وغادرت الغرفة بعدها.
طَق.
ما إن أُغلِق الباب خلفها حتى اختفت ابتسامتها.
وسارت مباشرة نحو مكتب ثيودور، الذي كان يقف أمام النافذة، يراقب الجنود وهم يتفقدون الأمتعة التي جُلبت من المعبد.
“ثيو.”
“عزيزتي، كيف كانت القديسة؟”
“أسوأ مما كنا نتوقع، ما كُتب في التقارير لا يمثّل شيئًا أمام الواقع.”
“لم لا؟ ألم تكن هي من هربت مع خطيب آنسة فيلوميل يوم خطبتهما؟”
ما إن علما بخطبة كايين وفيلوميل، حتى بادرا إلى جمع المعلومات عنها.
وفي أحد التقارير، وُرِدت بضعة أسطر فقط عن امرأة تُدعى ناديا، تبين لاحقًا أنها هي من هربت مع خطيب فيلوميل السابق.
ولا يمكن أن تُنسى من السجلات لِما ارتكبته.
التعليقات لهذا الفصل " 90"