الحلقة التاسعة والثمانون.
منذ أن افترقت عن ناديا في حفلة الشاي التي أقامتها كونتيسة فيسين، كانت فيلوميل تستعيدها بين الحين والآخر في خاطرها.
كانت تساؤلات عابرة تتسلل إليها أحيانًا… هل ستلتقي بها مرة أخرى؟ وإن حدث، فأين؟ وبأي هيئة ستكون ناديا آنذاك؟
راودها عدد لا يحصى من الاحتمالات.
وحتى إنها فكّرت في احتمال ألا تلتقي بها أبدًا لبقية حياتها.
لكن من بين كل تلك التصورات التي رسمتها، لم يكن من بينها أبدًا أن تعود وتراها مجددًا… كـ قديسة.
فالفكرة بحد ذاتها لم تكن منطقية.
لأنها ببساطة لم تكن واردة.
“أود أن أحييكم.”
لكن ذلك الاحتمال المستبعد كان الآن، وبكل واقعية، يتحقق أمام ناظري فيلوميل.
“أنا ناديا، التي اختارها الإله كالقديسة الثالثة.”
قالت ناديا ذلك، وقد طأطأت رأسها بخفة وهي تغضّ بصرها، ثم رفعته بهدوء.
كانت في قمة الجمال، تلف جسدها برداء أبيض، يعلوه وشاح شبه شفاف يغطي رأسها.
ربما كان السبب التناسق المذهل بين لون شعرها النقي وعينيها، لكنها بدت براقة بشكل غير طبيعي، كأنها تشعُّ ضوءًا.
“ما بالكم واقفين؟ ألن تلقوا التحية على القديسة ناديا؟!”
استدارت الأنظار إثر صوت صارم حاد.
كان رجلًا في منتصف العمر، يرتدي ثياب الكهنة، وقد انعكست صرامته من قسمات وجهه النحيل ونظرته الحادة.
رغم أن رفعه المتعجرف لذقنه لم يكن مستحبًا، شعرت فيلوميل بالامتنان لتدخله المفاجئ.
فهي كانت على وشك أن تظل تحدق في ناديا إلى ما لا نهاية، غير مدركة لمرور الوقت.
“تحية؟”
كان أول من نطق هو كايين.
أحسّت فيلوميل بقلبها يقفز من مكانه، لكن كايين، وكأنه شعر بها، شرع في تدليك يدها المتشابكة مع يده بلطف مهدئ.
“ومن يحيّي من؟”
قالها وهو يرمق ناديا بنظرة متعالية، ثم التفت إلى الكاهن.
“أنا؟ أحيّي القديسة؟”
من حيث المكانة، لا جدال في أن كايين يتفوق.
فحتى لو كان لمعبد الإله شأنٌ عظيم قبل مئتي عام، فزمن المقارنة قد ولّى.
تأثير بيت دوقية ويندفيل الآن لا يُقارن بمكانة المعبد.
وقد بدا أن الكاهن أدرك ذلك، إذ ارتجفت عيناه وهو يتجنب نظرات كايين المتسائلة.
“لم أقصد الإساءة… كنت فقط أعني أنه من اللائق أن نبادل بعضنا التحية.”
لكنه بدا مترددًا كمن التُقط متلبسًا، فراح يتراجع في كلماته.
عندها، ارتسمت على شفتي كايين ابتسامة ساخرة تنم عن احتقار خفي.
“آه، فهمت الآن مقصدك.”
ثم نظر نحو ناديا وقال:
“وأنا واثق أن خطيبتي العزيزة تفهمه جيدًا أيضًا.”
ثم جذب فيلوميل إليه برقة، ولف ذراعه حول كتفها.
ورغم أن يدهما المتشابكة انفصلت، إلا أن فيلوميل، وقد هدأت قليلًا، استطاعت أن تبادل ناديا النظرات بابتسامة خفيفة.
“أنا ثيودور إيفلين.”
كان ثيودور قد تخلّى عن لقب الدوق لصالح كايين، واختار من بين ألقابه المتعددة لقب الماركيز إيفلين.
وبالرغم من أن اسمه معروف لدى كل النبلاء، إلا أنه كان يفضل تقديم نفسه بلقبه الحالي عند اللقاءات الرسمية.
“أنا ناتاشا إيفلين.”
“تشرفت بلقائكم.”
ابتسمت ناديا برقة.
“ثم…”
لم تكد تنتهي كلمات التعارف، حتى قاطعهم كايين بصوته العميق.
“وهذا الشخص؟ من يكون؟”
كانت نظراته تتجه إلى الكاهن المتعجرف.
سعل الكاهن خفيفًا، ثم شبك يديه خلف ظهره.
“سررت بلقائكم، أنا يوهانس، نلت شرف مرافقة القديسة.”
“قدم التحية،”
أمره ويستون من جانبه، فما كان من يوهانس إلا أن رفع ذقنه متفاخرًا.
“نعم، بالطبع، لقد منحني البابا شخصيًا مهمة مرافقة القديسة.”
“إذن أنت المسؤول عن هذا الأمر؟” سأل ثيودور.
“يمكنك قول ذلك، نعم.”
فردّ عليه ثيودور على الفور، كأنه كان ينتظر تلك الإجابة.
“في هذه الحالة، لا بدّ أنك وأنا نحتاج إلى حديث جاد.”
“عفواً؟”
“عندما أرسلنا مندوبًا للمعبد منذ عشرة أيام، لماذا لم نتلقَّ أي رد؟”
رمش يوهانس، متفاجئًا.
“… ما الذي تقصده؟”
“عندما ظهرت الوحوش، أرسلنا رسولًا فورًا إلى المعبد، لكنهم أعادوه دون كلمة واحدة، ماذا لو كانت هناك إصابات إضافية في تلك الأثناء؟ من يتحمّل مسؤوليتها؟”
“ذاك… لم يكن من اختصاصي، لذا لا أعلم…”
تلعثم يوهانس ببلاهة، وحاول تحريك شفتيه ليقول شيئًا، لكنه لم يجرؤ، فتفادى نظرات ثيودور الحادة كمن طُعن في كبريائه.
وفي أثناء ذلك الجدل، لم تستطع فيلوميل كبح فضولها فاستدارت نحو ناديا، لتجد أن عينيها متشابكتان مباشرة بنظرات ناديا.
كانت ناديا تنظر إليها دون أن تغمض عينيها، ثم ما لبثت أن ابتسمت.
لكن تلك الابتسامة لم تكن كما اعتادت منها من قبل.
كانت جميلة، نعم، ولكنها أشعلت في جسد فيلوميل قشعريرة.
ابتسامة مشوّهة لا تبعث الراحة، بل تثير شعورًا غريبًا بعدم الارتياح.
شعرت شفتيها تجفّان.
“لماذا… كيف أصبحت ناديا قديسة؟!”
لم تكن هناك قديسة في الرواية الأصلية، وتقبّل أن تكون ناديا هي تلك القديسة كان فوق طاقتها.
ثم، بدأت شفتا ناديا تتحركان.
“فيلوميل.”
استطاعت فيلوميل أن تقرأ الكلمات دون أن يُنطق بها.
“سعيدة برؤيتك مجددًا.”
فور أن استوعبت الكلمات، ابتسمت ناديا مجددًا، ابتسامة أبرد من الثلج.
فارتعدت فيلوميل في مكانها.
لكن قبل أن تتمادى في توترها، جاء صوت جديد، اخترق الأجواء:
“هذا يكفي، يا سيد ثيودور.”
كان الصوت من ويستون.
“بما أن ظهور القديسة جاء مفاجئًا، فمن الطبيعي أن يكون المعبد في حالة ارتباك، ربما لم يكن لديهم الوقت للردّ عليكم.”
ما إن دافع ويستون عن المعبد، حتى قطّب كايين جبينه.
“ومن أنت لتقاطع كلام الماركيز؟ أأنت فارس بسيط أم ماذا، يا سير ويستون؟”
حينها أدرك ويستون متأخرًا أنه لم يعد أميرًا بعد الآن.
رغم أنه كان من فرسان القصر، إلا أن تدخله في حديث ماركيز يُعد خروجًا عن حدود اللياقة.
والأسوأ أنه بنفسه كرر في أكثر من مناسبة أنه لم يعد أميرًا، فلا مجال للتراجع الآن.
“أنا… هذا…”
“سأعد هذا آخر تحذير.”
قالها كايين وهو يحدق في ويستون بنظرات باردة كالسيف.
“تصرف بما يليق بمكانتك، ففي الشمال، حتى أبسط الأخطاء لا تُغتفر.”
“… نعم، سيدي الدوق.”
خفض نظره، فصرفه كايين أخيرًا.
“سير ديل.”
“نعم، سيدي.”
“قُم بتفتيشهم، وجهّز لهم الغرف.”
“تفتـ… تفتيش؟!”
اعترض يوهانس فورًا.
“لم يُبلغنا أحد بشيء كهذا!”
“بالطبع لم يُبلغك أحد، من يهتم بالشمال أصلاً؟”
“لا… أعني…”
“من يدخل الشمال، يلتزم بقوانينه، هنا، الوحوش تظهر فجأة، ولا يمكننا السماح بدخول الغرباء دون تفتيش مناسب.”
تردّد يوهانس في الرد، وبينما خيم التوتر، انكسر الصمت بصوت رقيق:
“الدوق محقّ.”
“حضرة القديسة؟!”
“نعم، الأمر لا يتعدى كونه إجراءً روتينيًا، ويجب علينا احترام قوانين هذه الأرض.”
ثم استدارت وقالت:
“لا مانع لدي من تفتيش جميع أمتعتي.”
شهق يوهانس بخفوت وكأن شيئًا داخله تحطّم، ثم اضطر إلى الإيماء بالموافقة.
“… أوافق.”
رغم أن كايين كان سيأمر بالتفتيش سواء وافق أم لا، فقد نظر إليهم بدهشة، ثم أومأ إلى ديل بصمت.
فأصدر ديل أوامره للفرسان ببدء التفتيش.
وفيما كانت ناتاشا ترافقهم إلى الداخل لترتيب الأمور، سارت فيلوميل برفقة كايين، لكنها لم تستطع مقاومة الالتفات إلى الوراء.
فرأت ناديا تمشي على مهل، يغطيها الحجاب مجددًا، تسير بخطى محسوبة، وكأنها تخشى أن تترك أثرًا على الأرض.
“سعيدة بلقائي؟!”
“ما الذي تفكر به ناديا بحق السماء؟!”
آخر مرة التقيا فيها، لم يكن بينهما سوى القطيعة.
فيلوميل تخلّصت منها عمدًا، وناديا كانت في قمة الغضب.
فكيف لها أن تبتسم الآن بهذا الشكل؟!
شعرت كأن دمها يتبخر، وأن أنفاسها تتسارع، وقلبها يكاد يثب من صدرها.
“ما السبب الحقيقي… ما الذي تريده؟!”
“فيلوميل.”
جاء صوت كايين العميق، فقطعها من أفكارها، فاستدارت بفزع.
كان لا يزال ينظر للأمام حين قال:
“لا تلتفتي، هذا ما يريدونه، لا تُظهري ترددك ولا اضطرابك.”
ثم تشابكت أصابعه بأصابعها.
شعرت بحرارة يده، وكيف كانت متعرقة بعض الشيء.
عندها فقط أدركت أن كايين نفسه كان مضطربًا حين رأى ويستون.
“لم ألحظ ذلك قط…”
تصرّف كأنه كان يعلم بقدومه منذ البداية.
أخذت نفسًا عميقًا، وفعلت كما طلب منها كايين.
أخفت اضطرابها، وابتلعت ارتباكها.
وعندها فقط، أدركت أن هذا… هو ما كان كايين يفعله على مدى عشر سنوات.
وحين هدأت، التفت إليها كايين أخيرًا.
“لا تمنحيهم ما يريدون، لا نقطة ضعف، ولا لحظة تردد، لا شيء.”
“فهمت… لن أفعل.”
“لأنك حين تصمدين، وتواصلين السير…”
كانا قد دخلا القصر، وأحاطتهما حرارة الحجرات المدفّأة، تذيب الجليد الذي جمّد أطرافها.
“… ستنالين كل ما تريدين.”
فقط عندها، استطاعت أن تتحرر أخيرًا من الأفكار المتشبثة كأغصان حول اسم ناديا.
التعليقات لهذا الفصل " 89"