الحلقة الخامسة والثمانون.
“كن حذرًا، لا تقم بأي تصرف غريب، ولا تعبث بشيء، ولا تتجول وحدك.”
“رئيسة، لست طفلًا صغيرًا، كما تعلمين؟”
“لكنك خسرت أمام ليازيل.”
توقف هارنين عن التهام الحساء وأغلق فمه بإحكام.
حينها، تحدثت ليازيل التي كانت منشغلة بتأمل إحدى رقاقات الأرواح بجانبه.
“فيلوميل، لا تسخري من هارنين، خسارته أمامي أمر طبيعي، أليس كذلك؟”
ثم ربتت على كتفه بخفة.
“لا تحبط كثيرًا يا هارنين! لم تكن الوحيد الذي خسر أمامي! صحيح أنك أول روحاني يخسر ضدي، لكن هذا لا يعني الكثير!”
“شكرًا على المواساة، أيتها الصغيرة…”
لم تستطع فيلوميل كتم ابتسامتها وهي تتابع هذا المشهد.
منذ أيام قليلة، قال هارنين إنه يريد تحريك جسده قليلًا وسأل إن كان بإمكانه استخدام ساحة التدريب، فأشار عليه كايين أن يخوض نزالًا مع بيازيل.
في البداية، رفض هارنين قائلاً: “كيف أبارز طفلة؟”
لكنه غير رأيه عندما سمع أن مستواها يعادل مستوى فارس متمرس، وفي النهاية، هُزم هزيمة ساحقة.
“نعم، التغلب على ليازيل أمر مستحيل فعلًا.”
وكانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها فيلوميل قوة ليازيل بنفسها.
ليازيل كانت في حالة غير مستقرة لأنها لم تلتقِ بمُناسب يتوافق معها لفترة طويلة، لذا، كان كل من بير وإيما يبذلان جهدًا كبيرًا لتعليمها السيطرة على طاقتها.
وبفضل ذلك، أصبحت قادرة على كبح الأورا في معظم الأوقات، رغم نوبات فقدان السيطرة.
فتخيل، فتاة لم تتجاوز العاشرة تقريبًا، صنعت أورا شبه مكتملة بقوتها الخاصة؟
التغلب عليها كان مستحيلًا حتى على نصف إلف يتمتع بقدرات جسدية عالية.
“مثل هذا الكلام لا يُعد مواساة على الإطلاق.”
قالها هارنين وقد بدأ يزم شفتيه بضيق.
أمسكت فيلوميل بيد ليازيل ونهضت قائلة:
“تناول طعامك جيدًا واذهب بحذر.”
“وماذا عنكِ اليوم، رئيسة؟”
“الجميع مشغول هذه الأيام في الزراعة، لذا سنذهب أنا وليازيل لمساعدة السيدة ناتاشا.”
“آه، لهذا السبب ترتدين هذا اللباس؟”
قالها هارنين وهو يشير إلى ملابسها البسيطة.
“نعم، لا حاجة لارتداء ملابس أنيقة أثناء العمل، أليس كذلك؟”
“أتمنى لك رحلة موفقة إلى السهول الثلجية، هارنين!”
لوحت له ليازيل، فرد عليها هارنين بفرقعة أصابعه.
ظهرت شعلة صغيرة في الهواء وأخذت تدور حول ليازيل.
لمعت عيناها وهي تنفجر ضاحكة من ظهور روح النار.
“عد سالمًا.”
“حسنًا… أهذا يعني أنني مضطر لسماع توجيهات من إنسانة أصغر مني بكثير؟”
“ولِم لا تفكر أولًا فيما إن كنت تتصرف كالكبار فعلًا؟”
لمّا صمت هارنين، أضافت فيلوميل:
“على أية حال، كن حذرًا.”
“لا تقلقي.”
ما إن غادر هارنين، حتى خرجت فيلوميل مع ليازيل من غرفته متجهتين مباشرة إلى الدفيئة.
كانت الدفيئة تعج بالناس الذين بدأوا عملهم منذ الصباح الباكر.
“آنسة فيلوميل، الآنسة ليازيل!”
“السيد ديل.”
التفتت فيلوميل نحو مصدر الصوت، فوجدت وجهًا مألوفًا ، ديل، المسؤول العام عن الدفيئة.
كان يرتدي ملابس متسخة بالتراب كما كان عليه قبل أيام.
“لقد سمعت من السيدة ناتاشا بأنكما ستساعدان اليوم، نشكركما جزيل الشكر.”
“كنت أخشى أن نكون عبئًا بدلًا من عون، والجميع منشغل.”
لوحت يداه بسرعة، مستنكرًا:
“لا يا آنسة! بالعكس تمامًا، الجميع تأثر كثيرًا لأنكما بادرتما حتى لو كان الأمر بسيطًا، نحن حقًا ممتنون.”
“يسعدني سماع ذلك.”
قادهما ديل إلى إحدى الزوايا.
“هنا، كل ما عليكما فعله هو تصنيف البطاطس حسب حجمها، الصغيرة هنا، والمتوسطة هناك، والكبيرة في هذا السلة.”
كانت ثلاث سلال كبيرة مصطفة، وبجوارها سلة ضخمة مليئة بالبطاطس غير المصنفة.
أدركت فيلوميل أن ديل اختار لهما عملًا لا يتطلب جهدًا جسديًا كبيرًا.
فابتسمت تقديرًا لذلك وقالت:
“هذا عمل يمكننا القيام به بسهولة، إلى متى نستمر فيه؟”
“حتى لو كانت الدفيئة دافئة، فإن العمل الطويل يرهق الجسد، لذا، فقط حتى الظهيرة سيكون كافيًا.”
“هذا وقت كافٍ إذن.”
“لا داعي للعجلة، خذا استراحة متى أردتما، وأنجزا العمل على مهل.”
“شكرًا لك، ديل.”
انصرف ديل، وبدأت فيلوميل وليازيل بارتداء القفازات.
“هل تستطيعين القيام به جيدًا، ليازيل؟”
“نعم، يبدو سهلًا، وقد قمت بأشياء كهذه من قبل.”
“حقًا؟ متى؟”
“عندما كنت في الفيلا، كنت أعتني بحديقة صغيرة.”
“وماذا كنت تزرعين هناك؟”
“همم… طماطم، فراولة، وحتى بطاطس.”
“واو، رائع! ألم يكن الأمر متعبًا؟”
“لم يكن متعبًا أبدًا! بل كنت أشعر بالفخر والسعادة.”
واصَلَتا تصنيف البطاطس واحدة تلو الأخرى وهما تتحادثان بمرح.
كانت ناتاشا تضع البطاطس في السلة، لكنها توقفت فجأة ونظرت نحو جهة معيّنة.
ولم تكن الوحيدة، فالكثير ممن في الدفيئة أخذوا يرمقون تلك الزاوية بنظرات جانبية.
“تخيلي! في السنة قبل الماضية، أكل طائر الفراولة التي زرعتها!”
“لا بد أن فراولة ليازيل كانت شهية جدًا! ربما لأنكِ اعتنيتِ بها جيدًا.”
“في البداية حزنت قليلًا، لكن بير قال نفس ما قلتهِ لي، قال إن الطائر لا بد أنه شعر بالسعادة لأنه أكل فراولتي.”
كانت تلك الزاوية حيث تصنف البطاطس.
هناك، كانت فيلوميل تجلس جنبًا إلى جنب مع ليازيل، يتحادثان بودّ ودفء.
كانت ليازيل تتحرك بحماسة أثناء حديثها، حتى احمرّ وجهها من فرط النشاط.
أما فيلوميل، فكانت تصغي باهتمام وتبدي تعليقاتها بين الحين والآخر، موجهة الحديث بلطف.
“لأنها كانت فراولة زرعها قلبكِ، فلا شك أن الطائر شعر بالسعادة.”
قدّمت لها كوبًا من الماء، فشربته ليازيل دفعة واحدة بكلتا يديها.
“لذلك، زرعت المزيد من الفراولة في العام التالي! أردت أن يأكل الطائر أكثر.”
“وهل عاد ليأكلها فعلًا؟”
“نعم، كان يأتي كل فجر! وكنت أستيقظ وأتأمل من النافذة كيف يأكل الفراولة.”
ابتسمت ناتاشا وهي تنظر إليهما.
عندما رأت ليازيل تختبئ خلف فيلوميل أول مرة، ظنت أن علاقتهما قريبة، لكن ما تراه الآن أعمق مما توقعت.
رغم أن ليازيل كانت تلتقي بكايين كثيرًا، فإن قربها من فيلوميل كان أوضح.
ولنقل الحقيقة، فإن ليازيل كانت تحب فيلوميل أكثر من كايين.
“تبدوان على وفاق جميل.”
قالها ديل، فنظرت إليه ناتاشا.
“سمعت من السيدة ناتاشا أن الآنسة تحب فيلوميل كثيرًا.”
“ألم أقل لك ذلك من قبل؟”
في ذلك الصباح، أخبرت ناتاشا ديل بأن فيلوميل وليازيل ستأتيان للمساعدة.
لكن ديل وبقية الحاشية لم يكونوا يصدقون أن علاقتهما بهذا القرب.
فيلوميل، التي التقوها عدة مرات، بدت طيبة فعلًا، لكن من الصعب أن تكون طيبة أيضًا مع من ستحلّ محل ابنتك كدوقة.
ومع ذلك، وكما قالت ناتاشا، العلاقة بينهما كانت أقرب مما تخيّلوا.
“كنا مخطئين في ظنوننا.”
“لا بأس، في مكان كهذا، يصبح التحفظ أمرًا طبيعيًا.”
لقد عاشوا مئات السنين منغلقين على أنفسهم، فازداد لديهم الحذر بالفطرة.
صحيح أن الحاشية لم تمكث طويلًا في الشمال، لكن حتى خلال هذا الوقت القصير، ازداد حذرهم بالفعل.
ابتسم ديل بحرج.
“يبدو أنني مدين لآنسة فيلوميل باعتذار.”
“لو فعلت، سأكون ممتنة لذلك.”
اتسعت عينا ديل بدهشة.
“سيدتي ناتاشا… هل تروق لكِ الآنسة فيلوميل؟”
“وكيف لا تروق لي؟ إنها الحبيبة التي اختارها ابني، وفضلًا عن ذلك، شخصيتها بنفسها تعجبني كثيرًا.”
“واو، لم أركِ بهذه السعادة منذ سنوات!”
رغم طبعها المتسامح، إلا أن معايير ناتاشا كانت مرتفعة جدًا.
وكون فيلوميل نالت رضاها في بضعة أيام فقط، فهذا يعني أنها نالت مكانة كبيرة في قلبها.
“أشعر أن المكان بات ينبض بالحياة من جديد، والكل يبدو أكثر بهجة.”
قالت ناتاشا وهي تنظر حولها.
كان الجميع يبتسم وهم يصغون إلى حديث فيلوميل وليازيل.
“أجل، هذا صحيح.”
وافقها ديل وهو يراقب الاثنتين بابتسامة دافئة.
لكن في تلك اللحظة، أدركت ناتاشا وجود حركة غريبة، فاستدارت بالتزامن مع انفتاح باب الدفيئة بعجلة.
“سيدة ناتاشا! هناك أمر خطير!”
قالها القادم وهو يلهث.
“وحش… الوحش ظهر!”
التعليقات لهذا الفصل " 85"