الحلقة الثالثة والثمانون.
ربما لأن الوحش قد استيقظ بالفعل، لم تكن عودة القديسة المفاجئة صدمةً كبيرة كما كان متوقعًا.
بل كانت… مدعاةً للطمأنينة.
“القديسة ستكون عونًا بلا شك.”
وحين اعتادت عيناها على الظلام، أغمضت فيلوميل عينيها مجددًا محاولةً العودة للنوم. لكن ستارة السرير التي بجانبها أخذت تتمايل بخفة.
عندها تذكّرت كيف تفقدت صوفيا الستائر مرارًا قبل مغادرتها، متأكدة من عدم تسرب أي نسمة هواء.
فأخذت فيلوميل تراقب السكون من حولها، وقد هدأت أنفاسها بتلقائية ورفعت حواسها لكل حركة غير مألوفة.
“الخنجر الذي أعطاني إياه كايين…”
كانت قد خبأته تحت الوسادة تحسبًا لأي طارئ، لذا تظاهرت بالتقلب على السرير، ومدّت يدها بخفة لتقبض عليه.
في تلك اللحظة التي كانت تترقب فيها الفرصة، متذكرةً نقاط الضعف التي أخبرها بها كايين—
لامس خدها الدافئ الذي برد بفعل الليل، دفء آخر، دافئ… ومفاجئ.
واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة…
بدأ دفء مستدير يلامس خدها، وسرعان ما أحاط دفء أكبر بوجهها الصغير.
راحت كفٌّ قوية ودافئة تحتضن خدها برقة، وفتحت فيلوميل عينيها كأنها مسحورة.
كان كايين، جالسًا على حافة النافذة، ظهره للضوء، ينحني نحوها.
شعّ ضوء القمر من بين خصلات شعره الأبيض كأنها شذرات نور.
لو لم يكن يلمس خدها، لظنت أنها تتخيل هذا المشهد… كان جميلاً حدّ الخيال.
“فيلوميل.”
انزلقت يده من خدها، ونزلت بلطف لتلتف حول عنقها، تاركة أثرًا حارًّا خلفها.
“ما فائدة حمل السلاح إن لم تهاجمي به؟”
فقط حينها أدركت فيلوميل أنها ما تزال تقبض على الخنجر تحت الوسادة.
أحاط كايين عنقها بخفة، ومال برأسها قليلًا، بحركة هادئة لم تكن قسرية، لكنها سلّمت نفسها له بلا وعي.
وفي اللحظة نفسها، مال كايين برأسه أكثر.
طبع قبلة سريعة وخفيفة على طرف شفتيها، على خدها قرب الزاوية.
“أعتبري هذه ثمنا لحياتك التي أنقذتها توا.”
ثم ابتسم وهو ينظر إلى انعكاس صورته في عينيها الواسعتين.
“أوه.”
شهق بخفوت عندما تلقى ضربة مفاجئة على رأسه من وسادة طارت نحوه.
راح يفرك خده بيده.
“ما الأمر؟ ألم تكن صفقة رابحة؟”
“لقد دفعتُ الثمن بالوسادة، كما ترى.”
ردّت عليه وهي ترفع الخنجر الذي كان مخفيًا، وتعيد الوسادة إلى مكانها.
“لقد أفزعتني! ما الذي تفعله بالقدوم هكذا فجأة؟”
أخفت وجهها المحمر بين الظلال، فلم تُشعل الضوء عمدًا.
“أردت أن أريك شيئًا… كنت أنوي أن أريك إياه منذ مدة، لكنني نسيت.”
رغم العتمة، نهض كايين وكأن الظلام لا يمنعه من الرؤية، واتجه إلى زاوية الغرفة حيث كانت عباءتها معلقة.
أخذها، وغطّى بها فيلوميل بلطف، قائلًا:
“الليل أكثر برودة الآن، عليكِ أن تحافظي على دفئك، خصوصًا أننا ذاهبون إلى مكان تهبّ فيه الرياح بشدة.”
“هل أغيّر ملابسي إذًا؟”
“لا داعي، سأحملك بين ذراعيّ على أي حال.”
“…ماذا؟”
رفعها كايين فجأة عن السرير.
ومع أن رد فعلها الطبيعي كان أن تطوق عنقه بذراعيها، إلا أنه أحكم غلق عباءته حولها وقفز من النافذة، محتضنًا إياها جيدًا.
“الهواء بارد، فلا ترفعي رأسك.”
وصلها صوته عبر الريح الباردة، فآثرت الانكماش في حضنه، تحتمي بدفئه.
تمامًا كما قال، فقد ازدادت برودة الليل في الشمال، حتى داخل أسوار القصر.
“فقط تحمّلي قليلًا بعد.”
رغم أنه لم يكن يمتطي جوادًا، شعرت وكأنهما يخترقان الهواء بسرعة غير مألوفة.
أغمضت عينيها بإحكام، تنتظر وصولهما إلى الوجهة.
ثم، بعد مرور وقت لا تدري كم طالت دقائقه…
“يمكنك فتح عينيكِ الآن.”
فتحتهما بحذر، وسرعان ما شهقت بانبهار.
ونسيت للحظة نسيم البرد الذي كان يلسع وجهها، أمام ذلك المشهد الساحر الذي امتدّ أمامها.
في السماء الحالكة فوق شمال الليل، ظهرت ألوان الشفق القطبي، تتماوج بألوان زاهية.
كأنها حركة رقص ناعمة للأسماك، انسابت الأضواء في السماء برشاقة، تشعّ بألوانٍ خيالية.
وبينها، تلألأت النجوم وكأنها خرجت خصيصًا لتزيّن الأفق أكثر.
وقفت في حضرة هذا الجمال الطبيعي، يرتجف جسدها من رهبة المشهد.
لم تستطع فيلوميل أن تُبعد عينيها عن الشفق، فابتسم كايين.
كان قد أراد أن يريها هذا، أو بالأصح، أراد أن يرى فرحتها وهي تشاهد هذا الجمال.
لكن حين رأى الشفق ينعكس في عينيها النقيتين، شعر وكأنه هو من تلقّى هدية ثمينة.
أورورا عيني فيلوميل كانت أجمل من كل ما رآه من شفقٍ طوال حياته.
اورورا: هي إلهة الفجر في الأساطير الرومانية، وترمز عادة إلى النور أو الشفق.
الجملة تعني أن لمعان عينيها في اللحظة كان أجمل وأكثر روعة من كل مشاهد الشفق التي رآها كايين في حياته.
أراد أن يحفظ هذا المشهد أطول وقتٍ ممكن، فحبس أنفاسه.
ليتها تنسى وجودي… وتغرق في هذا الجمال، وليتني أغرق في شفقها أنا الآخر.
“…إنه حقًا…”
“جميل.”
نطقت بالكلمة، ثم استدارت نحوه بوجهها.
شعر كايين بالأسى وهو يرى أوروراه الخاصة تختفي.
لكن قبل أن يستوعب مشاعره، التقت عيناه بعينيها.
رغم اختفاء الأضواء، ما تزال عيناها تتلألآن.
“حقًا… إنه أجمل ما رأيته في حياتي.”
“…وأنا كذلك.”
همس كايين، مذهولًا من شدة صدقها.
“من بين كل ما رأيت… هذه اللحظة هي الأجمل.”
فانفرجت شفتا فيلوميل عن ابتسامة مشرقة.
“رغم أنك رأيت الشفق كثيرًا، إلا أن شفق اليوم هو الأجمل؟ يبدو أنني محظوظة!”
“لم أكن أعني الشفق، بل أعنيكِ أنتِ، فيلوميل.”
اقترب منها، وقد كانت قد انفلتت من بين ذراعيه لتقترب من الشفق.
أمسك بيدها، وشبك أصابعه بين أصابعها.
“أنتِ جميلة.”
همس بها وهو يتفحص وجهها بنظرة بطيئة وثابتة.
تجمدت فيلوميل عند كلماته، ولم تتحرك حتى وهو يقترب منها أكثر فأكثر.
وقبل أن تلامس شفتاه شفتيها..
لامست حرارة أنفاسه طرف شفتيها.
ففتحت عينيها فجأة.
كانت يداهما ما تزالا متشابكتين، شفتي كايين على ظاهر يدها، وشفتيها على ظاهر يده.
شفاهه الحارة التصقت ببرودة يدها، وبدا كأن حرارة ناعمة تنتشر من هناك نحو أعماق يدها.
كأنه كان يُقبلها فعلاً، كايين أغمض عينيه بهدوء، ثم فتحها ببطء.
ظهرت عيناه البنفسجيتان من خلف جفنيه المغلقين.
حين التقت نظراتهما، جفّ حلقها.
قبل لحظة، كانت فقط مذهولة… لكن حين التقت عيناها بعينيه، بدا وكأنهما يتبادلان قبلة حقيقية.
شعرت أن نظراته وحدها قد تسحبها إلى دوامة لا تعرف مداها، فارتبكت، وألقت سؤالًا أول ما خطر ببالها:
“ماذا… ماذا تفعل الآن؟”
“أقاوم.”
رغم أنها سحبت شفتيها من يده، لم يتحرك هو.
ما زالت شفاهه ملامسة ليدها، وحين تحركت قليلًا، شعرت برعشة خفيفة تنتقل من بشرته إلى جلدها.
كانت شفتاه ناعمتين وحرارته دافئة، مما أرسل قشعريرة خفيفة إلى ذراعها.
فارتجفت يدها لا إراديًا.
ظن كايين أنها تحاول سحب يدها، فشدّ أصابعه حولها، وضغط شفتيه أكثر على بشرتها، كأنما يريد ترك أثرٍ عليها.
“سي… سيدي الدوق! لحظة فقط!”
نادته بخوف حين شعرت بقلبها يكاد ينفجر.
“كايين!”
فقط بعد أن نادته باسمه، ابتعد عنها أخيرًا، رافعًا شفتيه عن يدها.
“نعم؟”
أجاب وكأن شيئًا لم يكن.
لو لم تكن يداهما ما تزالا متشابكتين، لظنت أنها كانت تحلم.
فتحت فيلوميل فمها بدهشة، ولم تجد ما تقوله.
“…كيف يمكن لشخص أن يكون بهذا القدر من الوقاحة؟”
“لقد قاومت كثيرًا، فيلوميل، ألا أستحق مدحًا؟”
ردّ متدللًا وكأنه طفل ينتظر التقدير.
“جمعت آخر ذرة من صبري كي لا أُقبّلك.”
“…من بين كل من عرفت، أنت الأوقح، يا دوق.”
“سأتقبلها كمدح.”
“لم تكن مدحًا.”
“طالما أنها كلماتكِ، حتى اللعنات، فهي بالنسبة لي أعذب مديح.”
التعليقات لهذا الفصل " 83"