الحلقة ثمانون.
كلما تطوّر السحر، قلّ عدد المستحضرين.
لم يكن السبب معروفًا على وجه الدقة، لكن الناس تداولوا فرضية واحدة حتى أصبحت وكأنها حقيقة لا جدال فيها.
وهي أن كلًّا من السحرة والمستحضرين يولدون بقوة فطرية، ومع تطور السحر، صار أولئك الذين ربما كانوا سيصبحون مستحضرين، يختارون أن يسلكوا طريق السحر بدلاً منه.
فبينما شهد السحر تطورًا مذهلًا خلال مئات السنين الأخيرة، تناقص عدد المستحضرين بنفس الوتيرة تقريبًا.
وما زاد الطين بلة أن الناس لم يتقبلوا جيدًا قوة الأرواح، فلم يجرؤ أي مستحضرين على كشف هويته الكاملة والظهور علنًا.
وسط هذا كله، قابل هارنين شخصين يعرفان الكثير عن الأرواح، وهما ثيودور وناتاشا… لا يمكن تخيل مقدار سعادته بذلك.
“والدة ليازيل كانت مستحضرة نار، على ما يُقال.”
“حقًا؟ لا بد أنها كانت مصدر قوة عظيمة للشمال.”
رغم وجود حجارة التدفئة، إلا أن النار تبقى ذات أهمية تضاهي أهمية الماء في هذا الشمال القارس القاسي.
“أجل، لذا أظن أن الدوقة والدوق يشعران تجاهي بشيء من الألفة.”
ضحك هارنين ضحكة ماكرة بعد أن أنهى كلامه.
“ويعني هذا ايضًا أنكِ كسبتِ نقاطًا عند حماكِ وحماتك، أليس كذلك؟”
اتسعت عينا فيلوميل بدهشة من تعليق هارنين.
“لكننا لم نتزوج بعد…”
“لكنّكما ستتزوجان على أي حال.”
قالها هارنين ببرود، ثم أضاف بنبرة المتنبئ:
“أعتقد أن الوقت قد فات يا رئيستي، مصيرك صار مدفونًا في دوقية ويندفيل.”
شعرت فيلوميل برغبة في المعارضة من طريقة كلامه الواثقة وكأنه يعلم الغيب.
“ولماذا تتحدث بهذه الثقة؟ فقط لأنني قابلت والديه؟”
“لا، كنت واثقًا قبل ذلك بكثير.”
راح هارنين يمسح ذقنه الأملس بنظره ثابت على وجهها.
“ألا تدركين كيف ينظر إليك الدوق؟”
“لا… أدرك؟”
“إنه يملك تلك النظرة التي تقول إنه سيعثر عليك مهما حاولتِ الهرب.”
“… لا تبدو كأنها نظرة جيدة.”
ضاق هارنين عينيه وهو يقول:
“ألا تشعرين بها، ولو غامضة؟ تلك النظرة في عينيه؟”
عندها، تذكرت فيلوميل كايين.
لم تحتج إلى استرجاع مواقف بعيدة في الماضي، كان مجرد التفكير في كايين قبل بضع ساعات كافيًا لتتأكد.
تخيلت ملامحه في ذهنها.
كان حاجباه مستقيمين ومنسقين، وتحتَهما عينان عميقتان، بزوايا مرتفعة قليلًا، لكنها تناغمت بشكل ساحر مع لون أرجواني غامض وساحر.
كانت عيناه قد تبدوان باردتين، لكن نظراته كانت لطيفة إلى حد لا يسمح بلمس ذلك البرود، حتى حين لا يبتسم.
العيون التي لا ترى سواها، لم تكن كجواهر باردة بل أقرب إلى زهرة بنفسج تحت شمس ربيع دافئة.
بمجرد أن استحضرت فيلوميل نظرات كايين الموجهة إليها، شعرت بفمها يجف.
بل تسرب إلى قلبها إحساس وكأن كايين ينظر إليها من مكان ما في هذه اللحظة.
كانت نظراته قوية لدرجة أن مجرد تذكرها خطف كل حواسها.
“من تعبير وجهك، يبدو أنك تعرفين بالفعل.”
تمتم هارنين وهو يراقبها وهي تمضغ شفتيها بقلق.
“أنا فقط… لا أريدك أن تهربي من الدوق من أجل هذا البلد… لا، من أجل العالم كله.”
“في الحقيقة، فكرة الطلاق أو الهروب… تخلّيت عنها منذ زمن، كما قلت، حتى لو هربت، سيطاردني حتى الجحيم، وفوق ذلك، لا أريد الهرب أصلاً.”
سواء قبلت كايين أم لا، لم تفكر في تلك الخطط منذ زمن، منذ أن بدأت تتخيل مستقبلًا معه وتنتظر ذلك المستقبل بشوق.
“رئيستي…”
ناداها هارنين بنبرة جدية.
“أنا فقط… أريد أن تعيشي بسعادة.”
استدارت إليه فيلوميل وهي غارقة في أفكارها، حين سمعت كلماته.
“لقد عانيتِ كثيرًا بسبب عائلتك الحقيرة، وخطيبك السابق الذي لا يستحق الذكر… لا أحد يحتاج إلى استحقاق معين ليكون سعيدًا، لكنك فعلًا تستحقين السعادة.
أهم من ذلك، لا أحد يحبك الآن ويمتلك مالًا وجمالًا وشخصية مثل الدوق، تعلمين أن هذه فرصة نادرة، أليس كذلك؟”
قالها بنبرة مرحة وأضاف مبتسمًا:
“طبعًا، عليكِ أن تحبي الدوق أيضًا، وتبادليه المشاعر، لكن حاولي أن تكوني أكثر صدقًا مع نفسك، تفكرين كثيرًا، أكثر مما ينبغي، حتى أكثر مني.”
ضحكت فيلوميل بمرارة على تعليقه، وقالت:
“وأنت لا تفكر قليلًا أكثر مما ينبغي؟”
“… أريد الرد، لكن لا أملك حجة.”
ضحك الاثنان معًا ضحكة دافئة ومليئة بالارتياح.
***
كان كايين يحدّق في ما أمامه.
“احذر، سيدي الصغير.”
حذّره ديل بصرامة وهو يفتح باب القضبان الحديدية.
كان بالداخل جثة مخلوق ضخم، يغطيها فرو رمادي غليظ.
رفع ديل الجثة بسيفه فقلب الجذع فقط، ثم حرّك الرأس لتنكشف عينان حمراوان متسعتان، جاحظتان وكأن الحياة لم تغادرهما بعد.
الجثة بالكاد بدت متضررة، حتى خُيّل أنها لا تزال حية.
العجيب أن جثث هذه الوحوش لا تتحلل. لوهلة، ظنوا أن السبب هو الطقس البارد، لكن الأمر لم يكن كذلك.
ولأن السبب لم يُعرف، كان الأجداد يحرقون جثث هذه الوحوش فورًا ليمحوا أي أثر لها.
تأمل كايين العنق المقطوع بسلاسة وسأل ديل:
“كم مرّ من الوقت منذ وُضعت الجثة هنا؟”
“يومان بالضبط.”
أخذ كايين يراجع الزمن في رأسه وهو يشيح بنظره عن الجثة، ويطالع القبو من حوله.
رغم أن القبو لم يكن أبرد بكثير من الخارج، إلا أنه بدا أكثر برودة بشكل غريب.
شعوذة.
تمتم كايين في نفسه وأغمض عينيه.
ومع ازدياد حدة حواسه، اشتدت الهالة المريبة التي أقلقته منذ أن دخل إلى هنا.
بدأ قلبه ينبض بسرعة متزايدة…
طق—!
فتح كايين عينيه، وقد ارتخت تجاعيد جبينه المتشنجة.
وفي يده، كان يمسك بخنجر اختطفه من الهواء.
“ما الذي تفعلينه يا أمي؟”
ناتاشا، التي ألقت الخنجر نحوه، اقتربت منه وهي تضحك برفقة ثيودور.
“أردت فقط اختبار مهارة ابني بعد طول غياب.”
“هل انتهيتِ من حديثك مع هارنين؟”
“أجل، يبدو أنه سيكون دعمًا عظيمًا للشمال.”
أجابها ثيودور بإيماءة رأس.
“على كل حال، هل ألقيت نظرة على جثة الوحش؟”
“نعم.”
بعد إجابته، خيم الصمت.
وقف الثلاثة جنبًا إلى جنب يحدقون في جثة الوحش ذات الرقبة والجذع المقطوعين.
رغم مرور وقت طويل على موته، إلا أنه بدا وكأنه مات منذ لحظات، كانت الجثة التي لا تتحلل مشهدًا مروعًا بحق.
“يشبه تمامًا الصورة.”
رغم أن هذه أول مرة يرى فيها كايين وحشًا كهذا، إلا أنه لم يشعر بالارتباك، وذلك بفضل كتاب “سجل الوحوش” الذي ورثته دوقية ويندفيل عبر الأجيال.
ذلك الكتاب يحوي سجلات مفصلة كتبها دوقات العائلة خلال حقبة عانوا فيها من هذه الوحوش.
وقد احتوى على معلومات شديدة التنوع والفائدة.
حتى أن هناك رسومات دقيقة تصف شكل الوحوش، وكايين نشأ يراها منذ طفولته.
حين واجه الوحش الحقيقي، لم يشعر سوى بالاشمئزاز… ولم يرَ فيه شيئًا يُخيف.
“أبي… هذه الهالة الكريهة، هل هي سحر اسود؟”
سأل كايين من دون مواربة، بصوت ينضح باليقين.
هز ثيودور رأسه.
“أجل، لاحظت ذلك فورًا.”
“كانت فيلوميل من شعرت بها أولًا.”
“الآنسة فيلوميل؟”
سألت ناتاشا بدهشة.
“هل أريتَ الجثة لها؟”
“أبدًا، حتى ما شعرت به في السهل الجليدي، لم أشرحه لها… لكنها أدركته بالتخمين.”
وكانت ابتسامة خفيفة تعلو وجه كايين وهو يقول ذلك.
“أليست مذهلة؟”
تبادل ثيودور وناتاشا النظرات وهما يشاهدان كايين يبتسم بهدوء وهو ينظر إلى الوحش.
رغم أنهما أعجبا بفيولميل، إلا أن رؤية ابنهما على هذا الحال بدت غريبة للغاية.
أن يمدح أحدهم ويفخر به… كايين؟!
كان ذلك تناقضًا ضخمًا أربكهما تمامًا.
وفيما بدا كايين مستغرقًا في التفكير بفيولميل، خفض بصره قليلًا وقال:
“منذ أول لقاء… كانت مدهشة وفريدة، ومنذ ذلك الحين، أيقنت أنني لن أقابل شخصًا أكثر إثارة للاهتمام من فيلوميل في حياتي كلها.”
” لقد كانت جميلة، وعيناها الذهبيتان جذبتا أنظاري من اللحظة الأولى.”
التعليقات لهذا الفصل " 80"