الحلقة التاسعة والسبعون.
“يبدو أن والدتي ووالدي أعجبا بهارنين أكثر مما كنت أظن.”
“أجل، على ما يبدو.”
تبادل كايين وفيلوميل الحديث وقد بقيا وحدهما في القاعة.
في وقت سابق من النهار، بعدما ثبت هارنين لفافة الأرواح على البئر واستخرج منها ماءً صالحًا للشرب، أخذته ناتاشا إلى مكتب ثيودور.
وبذلك، لم يتبقَّ سوى فيلوميل وكايين وليازيل.
يبدو أن الثلاثة الآخرين كانوا غارقين في حديث عميق إلى درجة أنهم تخطوا العشاء، وأرسلوا من يبلغهم أن يأكلوا وحدهم.
حتى بعد أن أنهى الثلاثة المتبقون عشاءهم، لم يظهروا من المكتب بعد.
“ليازيل، هل تجولتِ في أرجاء القصر؟”
“نعم! حتى أنني التقيت بسكان الإقليم، لكن الغريب أن الجميع يعرف أمي وأبي!”
أجابت ليازيل بعينين لامعتين.
كلما مرّت في أرجاء القصر، كانت نظرات الناس تستقر عليها ثم يتمتمون بأسماء والديها.
أدرك كايين أن من تتحدث عنهم ليازيل ليسوا مجرد سكان عاديين، بل أتباع والديها القدامى.
فمن الطبيعي أنهم سيعرفونها من النظرة الأولى.
“يبدو أنني أشبه أمي وأبي كثيرًا، هل تريان ذلك أنتما أيضًا، عمي فيلوميل؟”
سألت ليازيل وهي تضم وجنتيها الممتلئتين حديثًا بين كفيها.
فيلوميل، التي رأت من قبل لوحات والدي ليازيل، أومأت برأسها بينما تربّت بلطف على رأس الصغيرة.
“نعم، تشبهينهما كثيرًا، أليس كذلك، دوق؟”
“تشبهينهما إلى حدٍّ كبير فعلًا.”
“هيهي، حقًا؟”
ضحكت ليازيل بسعادة بعدما سمعت الجواب الذي كانت تتمنى سماعه.
مدّت فيلوميل كوبًا من الحليب الدافئ نحوها، ثم سألت كايين:
“بالمناسبة، متى ستذهب لرؤية جثة الوحش؟”
“قريبًا.”
كان ثيودور قد أمر بجلب جثة الوحش إلى القصر كإجراء احتياطي، ليتأكدوا من عدم وجود أي تغيّر يطرأ عليه بعد استيقاظه من سباته الذي دام مئات السنين.
“كنت أنوي أن أسأل من قبل لكن نسيت… كيف كانت السهول الثلجية؟”
“كما كانت العام الماضي.”
كانت السهول خالية تمامًا من أي حياة، صامتة، ساكنة، ومكسوّة بطبقة لا نهائية من الثلج الأبيض.
“هل لم تشعر بأي طاقة سحرية أو قوة غريبة هناك؟”
سألت فيلوميل بتحفّظ.
“فيلوميل، ما الذي تعنينه بذلك؟”
منذ أن سمعت بخبر استيقاظ الوحش، لم تفارق فيلوميل الشكوك.
“أقصد… لم يكن هناك تأثير خارجي، أليس كذلك؟”
كانت تشكّ في احتمال أن يكون أحدهم قد أيقظ الوحش عمدًا.
مهما اختلف الواقع عن الحبكة الأصلية، إلا أن فيلوميل، كونها مَن تقمصت شخصية داخل الرواية، لم تستطع تجاهل الأصل.
ففي الرواية الأصلية، لم يستيقظ الوحش قط، ظل نائمًا دائمًا، لكن الآن… قد استيقظ فجأة.
وكان هذا ثاني اختلاف جوهري بعد عدم وقوع كايين في حب ناديا من النظرة الأولى.
لو افترضنا أن كايين أحبني أولًا، ولهذا لم يقع في حب ناديا…
فماذا عن الوحش؟
لم يكن هناك أي تفسير منطقي لاستيقاظه خلافًا للأصل، وهذا ما جعل شكوك فيلوميل منطقية للغاية.
“تأثير خارجي، تقولين…”
ألقى كايين نظرة خاطفة على ليازيل، التي كانت تغمس أنفها في كوب الحليب.
فهمت فيلوميل من فوره أن هذا ليس موضوعًا مناسبًا ليُناقش أمام ليازيل، فنادت على صوفيا.
“آنسة ليازيل، لابد أنك متعبة، هيا نغتسل ونستعد للنوم، حسناً؟”
بفطنتها، أخذتها صوفيا على الفور وخرجتا من القاعة.
لكن قبل أن تغادر، عانقتها فيلوميل بلطف، لتتحقق من أمر ما عبر اللمس.
وبعد خروج ليازيل، واصل كايين حديثه:
“ظنكِ كان في محله.”
“… هل وجدت أثرًا فعليًا؟”
“لست متأكدًا، لكن والدي أيضًا لا بد أنه لاحظ شيئًا، لقد شعرت هناك بطاقة غريبة لا يمكنني وصفها بدقة.”
“ليست سحرًا؟”
“كلا، ليست سحرًا، هذا مؤكد.”
هزّ كايين رأسه بحزم.
لو كانت طاقة سحرية، لكان شعر بها فورًا.
“إنها طاقة… مقززة، مزعجة، لم أشعر بمثلها من قبل، لكنها كانت قوية بما يكفي لأجزم بأن الوحش لم يستيقظ من تلقاء نفسه.”
عند سماع وصفه بأنها طاقة مزعجة وغير مألوفة حتى بالنسبة له، تذكرت فيلوميل شيئًا.
“دوق…”
نطقت بهدوء:
“ما احتمال أن تكون تلك الطاقة ناتجة عن طقوس شعوذة؟”
طرف كايين بعينيه للحظة، ثم حرّك شفتيه متأخرًا:
“… مرتفع، إلى حد كبير.”
كان تحليل فيلوميل منطقيًا جدًّا.
كايين لم يسبق له أن شعر بطاقة شعوذة من قبل، لكن ما قيل عنها أنها طاقة تستمد قواها من الأرواح، فتثير اشمئزازًا عميقًا في النفس.
وحين زار كايين السهول، انتابته قشعريرة فورية، ونفور غريزي.
طبعًا، السهول الثلجية لم تكن يومًا مكانًا مريحًا، فوحش نائم يختبئ تحت طبقات الثلج السميكة.
لكن هذه المرة، خيّم شعور بالنفور مختلف تمامًا عن الأعوام السابقة، غير مألوف، ثقيل.
ظن في البداية أن ذلك نتيجة توتره فقط، لكنه الآن أيقن أن الأمر أعمق من ذلك.
“يبدو أننا لن نكتفي بوضع حراس على السهول، بل علينا القيام بعملية استكشاف شاملة.”
تمتم كايين وقد اتضحت له الصورة.
“يبدو أن الأيام القادمة ستكون مزدحمة يا فيلوميل.”
“لا بأس، لا تقلق بشأني وركّز على السهول، هل ستذهب الآن لرؤية الجثة؟”
“نعم، إن شعرت بنفس الطاقة التي شعرت بها هناك، فستتأكد فرضية الشعوذة.”
“لكن، هل حدثت مؤخرًا أي مجازر جماعية؟ أو حالات اختطاف؟ فحتى الشعوذة لن تكون قادرة على إيقاظ وحش أرقدته القديسة بسهولة، أليس كذلك؟”
“ولهذا السبب تحديدًا لم أفكر في الشعوذة من قبل، لم تقع أي مذابح أو اختفاءات هذا العام.”
لو حدثت، لكانوا فتحوا تحقيقًا معمقًا، وركزوا على المشعوذين منذ البداية.
لكن لا هذا العام، ولا في السنوات الماضية، وقع ما يثير الشك.
“سأتواصل مع سيباستيان ليتحقق من الأمر.”
بما أن جيو جاء معه إلى هنا، فسيباستيان هو الشخص الأنسب لمتابعة الأمر من العاصمة.
أومأت فيلوميل برأسها وقد بدا عليها القلق والفضول.
“حسنًا، اذهب بسرعة.”
“وإلى أن نكشف كل شيء، لا تقتربي أبدًا من القبو، مفهوم؟ قد تتأثرين بتلك الطاقة.”
ولأنها لم تكن تنوي الذهاب لرؤية الجثة أصلاً، أجابت في الحال:
“فهمت، لا تقلق.”
وما إن خرج كايين، حتى أطلقت فيلوميل زفرة طويلة وارتشفت بعض الحليب الفاتر.
كانت مرهقة بدنيًا بعد يوم طويل من التنقل، لكنها لم تكن تشعر بالنعاس بعد، لذا قررت البقاء قليلًا قبل أن تعود لغرفتها.
حينها، دُقّ الباب، ودخل هارنين بوجه متعب وشاحب.
“هارنين، هل انتهت محادثتكما بخير؟”
“رئيستي… أشعر أنني على وشك الموت.”
انهار على الأريكة منهكًا، لكن لم يكن يبدو عليه التعب فقط… بل كان في ملامحه بريق ما.
تابع بصوت مشوب بالحماس:
“لكن مع ذلك… التحدث بصراحة هكذا أشعرني بشعور طيب، كأن شيئًا في صدري ارتاح.”
“أحسنت، فماذا تقرر إذًا؟”
سألت فيلوميل مباشرة، فقد أدركت أنه جاء ليقول لها شيئًا مهمًّا.
رفع هارنين جسده الذي كان يذوب كالعجين، وأجاب:
“قرروا شراء لفائف ماء الأرواح مني بانتظام.”
دار الحديث على النحو التالي:
ما إن استخدمت ناتاشا اللفافة حتى شرحت لثيودور كل ما حدث، ولم ينتظر طويلًا، بل كتب عقدًا في الحال.
عقدٌ لشراء لفائف الماء بشكل دوري.
“هل وُقّع العقد؟”
سألته فيلوميل بفرح، فأخرج العقد من جيبه.
“ليس بعد.”
“ماذا؟ لماذا؟”
“لأن مالك شركة مينين هو أنتِ، أنا موظف فقط، من الطبيعي أن تراجعي العقد وتوقعيه بنفسك، رئيستي!”
اتسعت عينا فيلوميل دهشة.
لم يخطر ببالها أن هارنين يراها فعلًا بتلك الطريقة.
“هل كنتِ تظنين أنني أناديكِ ‘رئيسة’ لمجرد المزاح؟”
ضحك محرجًا وهو يرى تعبيرها، ثم حَكَّ مؤخرة رأسه.
“أنا مدين لك بالكثير يا رئيستي، ورئيسة، يعني رئيسة مدى الحياة، لم يكن نداءي لكِ بذلك اللقب يومًا عن مزاح.”
“هارنين… هل نضجت منذ أتيت إلى الشمال؟ أم أن رياح الشتاء فعلت بك فعلها؟”
“ياااه! لا تدمّري لحظة التأثر هذه!!”
قفز هارنين محتجًا، مما جعل فيلوميل تنفجر ضاحكة.
“أمزح فقط، أنا أصدقك.”
“عمومًا، لم نكمل حديث العقد، قلت لهم سأريه لرئيستي أولًا وسنكمل غدًا.”
“فما الذي تحدثتم عنه إذًا؟”
“عن لفائف الأرواح، لم أكن أعلم أن والدة ليازيل الصغيرة كانت مستحضِرة أرواح، لذا كان لديهما معرفة لا بأس بها عن هذا المجال.”
عندها فقط، أدركت فيلوميل سبب إشراق وجه هارنين بهذا الشكل، كأنه طفل نال لعبة جديدة.
التعليقات لهذا الفصل " 79"