الحلقة السابعة والسبعون.
كان ثيودور يندم على عدم اشتراط الزواج عندما سلّم لقب الدوق إلى كايين.
كان يظن أن ابنه سيتزوج حين يحين الوقت، لكن ها هو قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، من دون أن يعقد خطبة، بل ولم يكن له حتى حبيبة.
ثيودور، الذي أنجب ولدين في مثل سن كايين، بدأ يشعر بالقلق تلقائيًا،
لكن ما أقلقه لم يكن أن يعيش كايين أعزبًا إلى الأبد…
بل كان يخشى أن لا يبقى في حياة ابنه سوى “الانتقام”.
حين مات ابنهما، أراد كل من ثيودور وناتاشا أن ينتقما من الإمبراطورة، لكنهما كانا مسؤولين عن الخدم والتابعين، وكان لديهما عائلة.
كانت حياة المئات، بل الآلاف، مرتبطة بهما، فلم يكن بوسعهما التحرك بتهور.
لكن كايين… كان مختلفًا عنهما.
لقد قضى عشر سنوات كاملة وهو يشحذ سيف انتقامه في صمت.
كانا يخشيان من اليوم الذي قد يُقصي فيه كايين الإمبراطورة وويستون، ثم يتنازل عن لقب الدوق لِـ ليازيل ويختفي إلى الأبد.
يخشون أن يرحل من دون أن يترك وراءه أي أثر، أو مشاعر.
لكن كايين… لم يعد كما كان.
“فيلوميل، هل تريدين بعضًا من اليخنة؟”
“أعطني القليل فقط، ويجب أن تتناولها أنت أيضًا، يا سيدي الدوق، إنها تدفئ الجسد وتبعث على الراحة.”
“لا تشغلي بالك بي، اعتني بنفسك أولاً، الم تُصابي بنزلة برد؟”
“يا سيدي، ألم تنسَ أنني قضيت كل الوقت داخل العربة؟”
“لكنّك تتأثرين كثيرًا بالبرد.”
فيلوميل وكايين كانا يتحدثان بصوت خافت، كأنهما يتناجيان،
وفجأة شعرا بنظرات تراقبهما، فالتفتا معًا.
كان ثيودور وناتاشا ينظران إليهما بشرود، فتنحنح كايين محرجًا.
“بعد الطعام، سأذهب إلى السهل الثلجي برفقة كين، أرجو أن تبقيا هنا، يا والديّ.”
“حسنًا، اذهب ولا تقلق.”
حتى لو استبعدنا مهارة كايين العالية، فإن السهل الثلجي يعجّ بالفرسان، فلا حاجة للقلق.
أومأ ثيودور برأسه مطمئنًا.
وهكذا، بعد انتهاء الوجبة، اجتمع الجميع في غرفة الجلوس ما عدا كايين.
أمام كل واحد منهم وُضع كأس من الحليب الساخن المحلى بالعسل، وكان البخار الأبيض يتصاعد من الحليب بلونه النقي الصافي.
كانت ليازيل تمضغ قطعة من البسكويت، بينما كانت فيلوميل تُعرّف ثيودور وناتاشا على هارنين:
“هذا هو هارنين، شريكي في العمل.”
لكن لم يكن من المنطقي أن تحضره إلى هذا المكان لمجرد أنه شريك.
قبل أن ترتسم الدهشة على وجهيهما، أسرعت بإضافة:
“وهو أيضًا روحاني ونصف آلف.”
كانا قد تحدثا في العربة واتفقا على ألا يخفيا هوية هارنين.
خلع هارنين ردائه السميك، فانسدلت خصلات شعره الخضراء الطويلة، وظهرت أذناه المدببتان.
“يسرّني لقاؤكم، أنا هارنين.”
“تشرفت، أنا ناتاشا.”
“وثيودور.”
بعد التحية المقتضبة، قال هارنين:
“يبدو أنني سأكون ذا فائدة كبيرة في الشمال، أليس من الصعب الحصول على مياه للشرب؟”
“بلى، بسبب الطقس القاسي.”
نقر هارنين بأصابعه.
وما إن فعل حتى تلاشى الضوء الخافت، وظهرت مياه في الهواء.
ليازيل، التي كانت مشغولة بتناول الحليب والبسكويت، صاحت بسعادة:
“إنها أوندين!”
“أجل، التقيتها منذ قليل، أليس كذلك؟”
كانت أوندين، التي تشبه قطرة ماء، تدور في المكان بعينين فضوليتين، كأنها تستكشف مكانًا جديدًا.
“بوسعي استدعاء كل أنواع الأرواح،
لكني أصررت على مرافقة الرحلة لأنني شعرت أن أوندين ستكون ذات نفع كبير هنا في الشمال.”
فوجئت فيلوميل من هدوء هارنين ورباطة جأشه.
لقد كان دائمًا يشكو ويعتمد عليها، لكن اليوم بدأ مختلفًا تمامًا.
كان ثيودور وناتاشا يحدّقان في أوندين بشرود، ثم التفتا إلى هارنين في آنٍ واحد.
“لقد أحسنت فعلًا بالمجيء.”
“قدرتك هذه بالذات هي ما نحتاج إليه في هذا الوقت.”
“عزيزي، سأخرج برفقة هارنين قليلاً.”
قالت ناتاشا وهي تنهض من مكانها فجأة، كما لو أنها ستخرج الآن لتأمين المياه.
لكنها ما إن نهضت بذلك الحماس، حتى ترددت قليلاً وهمست:
“ليا، هل تودين القيام بجولة في القصر؟”
ليا، التي كان الحليب يلطّخ فمها، أومأت بخجل وهي تنزل عن الأريكة ببطء.
أمسكت بها ناتاشا من يدها، وخرجوا معًا من غرفة الجلوس.
أما ثيودور، فقد رفع كأس الحليب الدافئ التي ما زال البخار يتصاعد منه، وسأل فيلوميل:
“ألن تخرجي أنتِ أيضًا في جولة، آنسة فيلوميل؟”
“سيدي الدوق أصرّ على أن يكون هو من يعرّفني على القصر بنفسه.”
كان ذلك أثناء وداعها لكايين حين غادر إلى السهل الثلجي.
أصرّ بشدة على أن يكون هو من يأخذها في جولة، حتى إنها اضطرت في النهاية إلى دفعه ليغادر.
ابتسم ثيودور بخفة وهو يسترجع ذلك الموقف.
وفي تلك الابتسامة… لمحت فيلوميل وجه كايين،
فلم تستطع أن تبعد عينيها عن وجهه دون وعي.
“رغم أنني ربيته لِسبعةً وعشرين عامًا، فإنني أراه على هذه الهيئة لأول مرة.”
منذ صغره، كان كايين مستقلًا على نحو غير طبيعي.
لم يكن ذلك نتيجة تربية خاصة أو تأثير بيئي…
بل لأنه وُلد كذلك.
لكن أن يُلحّ بتلك الطريقة لمجرد تعريفها على القصر… كان أمرًا جديدًا كليًا بالنسبة لثيودور.
“لقد تغير كثيرًا، سيدي الدوق.”
استحضرت فيلوميل صورة كايين قبل أشهر فقط.
حين التقته لأول مرة، كان أكثر برودًا وسخرية.
ولو قال حينها إنه سيعرّفها على القصر، لظنت أن هناك نوايا خفية وراء ذلك.
أما كايين الآن…
فبدأ كطفل صغير لا يستطيع كتمان فرحته بلعبته المفضلة، ويريد أن يعرّفها عليها بكل حماس.
“ما كنت أظن أنني سأفكر في كايين كطفل ذات يوم…”
تفاجأت فيلوميل من نفسها.
“حين سمعت بخطبة كايين، ظننت لوهلة أن هناك عقدًا بينكما.”
أعادها صوت ثيودور من شرودها.
كان جالسًا مسترخيًا على الأريكة، لكن نظراته بقيت حادة.
“بعد موت كايزن، فقد كايين القدرة على حب أي أحد.”
رغم أن كايين كان دائمًا مستقلاً، إلا أنه لم يكن قاسيًا أو يجهل معنى الحب.
كان فقط يعبر عنه بطريقة متحفظة، خفية.
لكن بعد وفاة كايزن قبل عشر سنوات، تغيّر كل شيء.
امتلأت حياته بالانتقام، ولم يتبقَ فيها متسع للحب.
ولذلك، حين سمع ثيودور بخطبته المفاجئة، كانت شكوكه مبررة تمامًا.
“لكن اليوم، رأيت بعيني كيف ينظر إليكِ، وكيف يتعامل معكِ، وكيف يتحدث إليكِ.”
ابتسم ثيودور بخفة:
“يبدو أنه يشبه أخيه حين يقع في الحب.”
ما إن سمع بخطبة كايين حتى بدأ ثيودور بالتحري عن فيلوميل.
لم يكن هدفه التحقق مما إذا كان زواجًا سياسيًا،
بل أراد فقط أن يعرف من هي تلك التي جعلت كايين يتخذ قرار الزواج.
كانت شابة ذات خلفية حزينة ولا شيء يميزها على الورق.
لكن حين التقاها وجهًا لوجه، لاحظ على الفور ذكاءها وحدّتها.
كانت من أذكى النساء اللاتي التقاهم بعد ناتاشا.
“أوصيك بابني الغبي، الناقص من كل وجه.”
“بل أنا من… من يجب أن يشكرك، سيدي ثيودور…”
همست فيلوميل، وقد بدت عليها الصدمة من كلماته، لكن ثيودور نقر لسانه مستنكرًا:
“تش! سيدي ثيودور؟ ما كل هذه الرسمية؟ ناديني بأبي، وناتاشا، ناديها أمي.”
رغم أن كلماته قد تُفسَّر على أنها مزاح، إلا أن نبرته كانت جادة تمامًا.
لم تتوقع فيلوميل أن يُطالبها بمثل هذه الألفة بهذه السرعة، فارتبكت.
“هيا، قوليها.”
“أ… الأمر…”
بدأ العرق يتصبب منها، وكانت نظرات ثيودور إلى شفتيها مشوبة بتوقعٍ خفي.
كان من الصعب رفضه.
وفي اللحظة التي همّت فيها بالنطق…
“كفى، ألا تخجل من إحراجها؟ أأنتَ على وشك أن تكرر ما فعلته مع زوجة أخي؟”
“كايين!”
تهللت ملامح فيلوميل كما لو أنها رأت منقذها، ورحّبت به بابتسامة مضيئة.
دخل كايين غرفة الجلوس وهو يدفع الباب بقوة، ثم أمسك بيد فيلوميل وسحبها نحوه.
“ابقَ مع زوجتك، يا أبي، أما فيلوميل… فهي ستبقى معي.”
كان صوت ثيودور وهو ينقر لسانه آخر ما سُمع قبل أن تُغلق باب غرفة الجلوس.
“عدتَ بسرعة!”
“أجل، أردت أن أريكِ كل شيء بنفسي، فلم أُطِل.”
ابتسم كايين وهو يشبك أصابعه بأصابعها من جديد.
“أقدّم لكِ هذا رسميًا: مرحبًا بكِ في قلعة الشمال ، فيلوميل.”
التعليقات لهذا الفصل " 77"