الحلقة الخامسة والسبعون.
حان وقت الرحيل بالفعل، فصعدت فيلوميل إلى العربة، وامتطى كايين جواده ليتولى قيادة القافلة.
وحالما وصلوا إلى البوابة البعدية، بدأ الزمكان في الالتواء.
وكان أول ما استقبلهم هو عاصفة ثلجية عاتية.
سهل جليدي لا يرى فيه شيء سوى البياض المطلق من كل جانب.
إنها الشمال.
بمجرد أن تسللت البرودة القارسة عبر ثنايا الملابس،
أمسك كايين بسيفه بإحكام.
لم يكن بالإمكان ترك العاصمة فارغة تمامًا،
لذا اصطحب معه فقط نصف فرسان دوقية ويندفيل، وأسند إلى غالبيتهم مهمة حراسة العربة، ومع ذلك لم يطمئن قلبه بالكامل.
“فربما يظهر وحش ما.”
أكثر ما كان يشغله هو احتمال أن يعجز عن مواجهة الوحش، وما قد ينجم عن ذلك من كارثة.
التفت إلى العربة التي في الخلف، وقبض على سيفه بقوة أشد، حتى غدت يداه شاحبة من شدة الضغط، لكن ملامحه بقيت ساكنة هادئة.
وحين أومأ كايين بعينيه، صرخ قائد الفرسان بصوت جهوري:
“نحو القلعة! تمسكوا بالصفوف مهما حصل ولا تتخلفوا!”
وهكذا بدأت القافلة بالتحرك نحو القلعة.
كانت القلعة قريبة من البوابة البعدية، وإن تحركوا بسرعة، فبإمكانهم الوصول إليها خلال ثلاثين دقيقة.
كان كايين يقود جواده وهو يرهف حواسه لكل حركة أو صوت حوله.
وفجأة…
انحرف بجسده قليلًا إلى اليمين، وضرب دون تردد ما اندفع نحوه، لم يحتج حتى لاستدعاء الأورا، فقد قُطع بسهولة.
“سيدي الدوق!”
رشّ الدم وجه كايين، فلوّح بسيفه في الهواء ليتخلص من قطراته.
“مجرد ذئب عجوز.”
وبما أنه كان وحيدًا، فربما طرده قطيعه.
نظر كايين بلا اكتراث إلى الذئب الهزيل حتى بانت عظامه.
“لا تتراخوا في الحذر.”
ثم واصل قيادة القافلة مجددًا.
كان برد الشمال مختلفًا تمامًا عن برد العاصمة، فالريح كانت حادة وقارسة لدرجة لم تنفع معها حتى الملابس المزودة بأحجار التدفئة.
واصل كايين التقدم طويلًا، ثم ما لبث أن استدار بجواده واقترب من العربة.
طرق نافذتها، وما إن مرّ وقت وجيز حتى فُتحت وأطلت منها فيلوميل برأسها.
“فيلوميل، هل أنتِ بخير؟ ألستِ بردانة؟”
“أنا بخير، ماذا عنك أنت يا سيدي الدوق؟”
“أنا معتاد على هذا البرد، وأنتِ بالأصل حساسة تجاه البرد.”
“العربة دافئة، فلا تقلق.”
“سنصل قريبًا، فاصبري قليلًا، والبقية، هل هم بخير؟”
“نعم، لا تقلق علينا وركّز على الطريق من حولنا.”
أومأ كايين مبتسمًا أمام نظراتها القلقة وكلماتها الحنونة.
“حسنًا، أغلقي النافذة بسرعة، الطقس بارد، من الآن فصاعدًا سنتجه مباشرة إلى القلعة دون توقف.”
“توخّ الحذر، رجاءً.”
أغلقت فيلوميل النافذة بعد أن أوصته للمرة الأخيرة.
فعاد كايين إلى المقدمة وواصل التقدم.
ولحسن الحظ، لم يصادفوا أي حيوانات أو وحوش أخرى حتى ظهرت القلعة في الأفق. لكن كايين لم يُرخِ حذره لحظة.
وما إن اقتربوا أكثر حتى بدا أن من في الداخل قد لاحظهم، فبدأت الأبواب تُفتح، ومع صوت الضجيج الذي أحدثته الأبواب الضخمة، أسرع الجميع بالدخول.
بفضل الجدران العالية للقلعة، اختفى الهواء الحاد فور دخولهم.
وما إن ترجل كايين عن جواده، حتى نزل من في العربة كذلك.
وقفت فيلوميل وهي تمسك بيد ليازيل، وأخذت تتفحص القلعة من حولها، كانت نظيفة وقوية حتى للوهلة الأولى، وجدرانها الحصينة والمحكمة منعت الرياح عن الدخول، مما خفف من قسوة البرد كثيرًا.
“كايين!”
دوّى صوت عالٍ في المكان.
فاستدارت فيلوميل تلقائيًا إلى مصدر الصوت، واتسعت عيناها في دهشة.
كان رجل في منتصف العمر يقترب منهم، مرتديًا فروًا سميكًا.
رجل ذو شعر فضي مشعث بعض الشيء، وعينين أرجوانيتين غامضتين، وجهه يحمل ملامح حادة، وتتوسطه ندبة طويلة تضفي عليه مظهرًا مهيبًا، يكاد يكون مرعبًا.
لكن ملامحه الوسيمة الدقيقة نزعَت عنه أي شعور بالوحشية، فكان وجهه غريبًا في جمعه بين القسوة والجمال.
“كايين.”
وبجانبه، كانت امرأة طويلة تقف معه.
شعر أحمر كالنار، وعينان زرقاوان قاتمتان بشدة، رغم أن عينيها ناعمتان بزواياهما، فإن جسدها القوي الطويل، الظاهر حتى من تحت ملابس الشتاء الثقيلة، أضفى عليها هيبة لا تسمح لأحد بأن يظنها ضعيفة.
“أمي، أبي.”
قال كايين وهو يواجههما.
لكن الاثنين لم يتوقفا عنده، بل مرّا به مباشرة.
نظرت فيلوميل إليهما وهما يقتربان منها بخطى سريعة، فارتبكت.
هل… هل هما قادمان نحوي؟
رمشت بعينيها مرتبكة، ولم تمهل نفسها وقتًا لتفكر كيف ستُحييهما، فما إن وقف الاثنان أمامها مباشرة، حتى حدقا بها للحظة، ثم ابتسما على اتساع وجهيهما.
“سعدت بلقائكِ، آنسة فيلوميل، أنا ناتاشا.”
“ثيودور.”
أمسكت فيلوميل أطراف فستانها وانحنت لهما بأدب.
“تشرفت بلقاء الدوق والدوقة السابقين. انا فيلوميل بونيتا.”
“يا إلهي، آنسة فيلوميل، لا حاجة لهذا الرسمية! نادينا بأسمائنا بكل أريحية.”
ابتسمت ناتاشا ابتسامة مشرقة.
وكان الشبه بينها وبين كايين أكبر مما تخيلت، حتى إن فيلوميل وجدت نفسها تحدق في وجهها دون وعي.
“لقد عانيتم للوصول إلى هنا.”
“آه، فعلًا، لا بد أن الأمر كان شاقًا هل أصابكِ البرد؟”
أمسكت ناتاشا بيد فيلوميل، وفور أن شعرت بدرجة حرارتها انتفضت.
“يا إلهي! لمَ يدكِ باردة هكذا؟ هيا إلى الداخل بسرعة! جهزنا ماءً دافئًا وكل شيء.”
“أمي، أبي، ألا ترونني؟”
“آه، أتيتَ؟”
أومأت ناتاشا لكايين بإيجاز، ثم التفتت مجددًا إلى فيلوميل.
“آنسة فيلوميل، تفضلي بالدخول.”
“آه، لكن…”
خفضت فيلوميل رأسها، فقد رأت أن عليها إبلاغهما بأن ليازيل جاءت معها قبل أن تدخل.
كانت ليازيل تقف خلفها، ممسكة بطرف فستانها.
وحين تبع ثيودور وناتاشا نظرات فيلوميل، تجمدت ملامحهما.
رغم أن نصف وجهها كان مغطى، فقد عَرَفَا على الفور من تكون.
“… ليازيل؟”
تمتم ثيودور باسمها بصوت مرتجف.
فأحاطت فيلوميل كتفي ليازيل بذراعها برقة.
“ليازيل، عليكِ أن تُسلّمي على جدتك وجدك.”
خرجت ليازيل بتردد من خلف فستان فيلوميل.
كانت ترتدي اليوم معطفًا أخضر مزينًا بفرو ناعم، ومعه قبعة وجزمة من الفرو أيضًا.
وكان وجهها الأبيض الصغير يطلّ وحده من بين ملابسها، مما منحها مظهرًا غاية في اللطافة.
رمشت بعينيها الكبيرتين اللتين انحدرتا كعيني الأرنب، ثم انحنت بسرعة:
“أ-أنا ليازيل!”
ظل ثيودور وناتاشا يحدقان فيها بذهول.
“ثيودور، هل أصاب نظري خلل ما؟”
“أترينها أنتِ أيضًا؟”
تدخّل كايين قائلًا:
“هل أصابكما الخرف باكرًا؟ إنها أمام أعينكما واضحة تمامًا، لكن الجو بارد، لذا من الأفضل أن نتابع الحديث في الداخل.”
“آه، نعم، معك حق.”
حتى وهما يتحركان نحو الداخل، لم يرفعا أنظارهما عن ليازيل.
بل لم يكونا يلقان عليها نظرات خاطفة، بل حدقَا بها مباشرة.
شعرت ليازيل بالحرج من تلك النظرات الشديدة، فأخذت تحتمي بثنايا فستان فيلوميل.
وهكذا، دخلت فيلوميل وليازيل إلى القلعة تحت سيل من النظرات الثقيلة.
ولحسن الحظ، كان داخل القلعة دافئًا بفضل أحجار التدفئة الموزعة في كل مكان، وما إن دخلوا حتى خلعوا معاطفهم، فقال كايين لريازيل:
“ليازيل، اذهبي وخذي حمامًا لتدفئي جسدك أولًا.”
“نعم، عمي.”
أجابت ليازيل بهدوء، ثم أمسكت بيد صوفيا وتبعت خادمات القصر.
وهكذا، بقي الأربعة الآخرون فقط في غرفة الاستقبال.
وما إن أُغلقت الأبواب، حتى صرخ ثيودور بغضب:
“لماذا أخذت ليازيل بعيدًا؟ إنها حفيدتنا، ولم نرها منذ خمس سنوات!”
فزعت فيلوميل من صوت ثيودور الصاخب الذي كسر صمته، أما كايين فضم كتفها إليه وأجاب:
“حتى الكبار أُصيبوا بالدهشة، فما بالك ليازيل؟ أردت فقط تهدئة الأجواء قبل أن أشرح كل شيء.”
“كايين، لماذا جاءت ليازيل إلى الشمال؟ لا تقل لي… هل تفكر في تركها هنا؟!”
“أمي، لا أظن نفسي شخصًا وضيعًا إلى هذا الحد، ليازيل تقيم معي في القصر منذ شهر.”
“لكن ليازيل…”
“فيلوميل هي المتوافقة معي.”
التعليقات لهذا الفصل " 75"