الحلقة الرابعة والسبعون.
حدّق كايين في فيلوميل شاردًا، قبل أن يتحرك شفاهه أخيرًا ويتمتم:
“…هل كانت تلك اعترافًا؟ هل هذا يعني أنك قبلتِ؟”
فأجابت فيلوميل بامتعاض، وقد شعرت أن اللحظة الجميلة قد تلاشت:
“…لا تُفسد الجو، بحقك.”
حاولت أن تسحب يدها من قبضته، لكنها تفاجأت حين شدّها كايين نحوه بقوة.
“آه!”
كانت العربة تسير بسرعة، ومع تلك الحركة المباغتة، سقطت فيلوميل مباشرة في حجر كايين، جالسة فوق ركبتيه.
حاولت أن تنهض بسرعة، لكن ذراعيه القويتين كانتا تطوّقان خصرها بإحكام، مانعتين أي محاولة منها للتحرك.
قالت فيلوميل بنبرة محتجة:
“…أنا لم أقبل الاعتراف.”
فأجابها كايين بابتسامة هادئة:
“لا بأس، حتى وإن لم تقبليه الآن.”
كانت عيناه البنفسجيتان تتلألآن بلطف، تُشعّان بجو دافئ وساكن.
“ما قلتهِ وحده يكفيني.”
وكان يعني ذلك بحق.
لم يسبق له أن شعر بمثل هذه السعادة من كلمات أحدهم، كانت سعادته كبيرة، لا تتناسب أبدًا مع خطورة الوضع الذي يعيشه.
لأول مرة في حياته، فهم ما يعنيه الناس حين يقولون إنهم “يشعرون وكأنهم يطيرون من السعادة”.
فكرة أنها ستكون بجانبه دومًا، وأنه سيكون قادرًا على الضحك والسعادة معها مهما حدث، جعلته عاجزًا عن التنفس من شدة التأثر.
رفع بصره إليها، وقد بدا على وجه فيلوميل التوتر، إذ لم تكن معتادة على رؤية ملامحه وقد تراخت بهذا الشكل.
كان هذا الوجه الذي تراه الآن مختلفًا تمامًا عن ذاك الذي رأته حين كان يرزح تحت تهديد فقدان السيطرة، لم يكن هذا مجرد ارتخاء… بل كان نوعًا من الضعف النادر.
قال فجأة:
“إذاً، يجب أن تنزل ليازيل معنا أيضًا.”
فأومأت برأسها:
“طبعًا، بما أنني سأنزل، فهي ستنزل أيضًا.”
لم تكن ليازيل قد وجدت متوافقًا لها بعد، لذا كانت لا تزال غير مستقرة، وهو ما جعل وجود فيلوميل ضروريًا إلى جانبها، لم تُفكّر كثيرًا حين قررت الذهاب، لكنها بدأت تشعر بالقلق حين فكّرت بأن ليازيل ستكون معها أيضًا.
هل هذا ما كان يشعر به كايين إذًا؟
لاحظ كايين ما يدور في بالها، فأضاف:
“بالمناسبة، لا داعي للقلق على ليازيل.”
“ها؟ ولمَ لا؟”
ابتسم بسخرية خفيفة:
“…لم تشاهدي ليازيل تتدرّب على القتال من قبل، أليس كذلك؟”
“كلا ، قالت إنها تخجل، لذا لم أرها أبدًا.”
“ليازيل وُلدت لتكون فارسة، هل تتخيلين أنها تستطيع الصمود لبضع دقائق أمامي في نزال؟”
فاغرت فيلوميل فمها دهشة، وهي تتذكّر مهارات كايين الفذّة:
“إذًا… لم يكن سبب خجلها هو أنها ضعيفة، بل…”
“بل لأنها كانت تتصنّع الضعف، فَهي قوية جدًا.”
لم يُخبرها كايين أن ليازيل اعتادت على كسر سيوفها خلال التدريب.
وبينما كانت محادثتهما تقترب من نهايتها، وصلت العربة إلى قصر دوقية ويندفيل بسرعة ملحوظة، فاختفت الملامح الهادئة عن وجهَي الاثنين، وحلّت الجديّة.
لم يعد وقت الحديث، بل وقت التحرك العاجل.
قال كايين:
“اعتني بِـ ليازيل، سأجهّز نفسي للذهاب إلى الشمال.”
“حسنًا، سأفعل.”
توزّعا المهام بسرعة، وما إن توقفت العربة حتى نزلا منها على الفور.
وفي لحظة وصولهم، التقوا في ذات الوقت تقريبًا مع سيباستيان ومادونا اللذَين كانا يبحثان عنهما مذ وصلهما الخبر.
“هل أنهيتم الاستعدادات؟” سأل كايين.
أخذ سيباستيان نفسًا عميقًا، ثم أجاب:
“شبه جاهزين.”
التفت فيلوميل إلى مادونا:
“مادونا، هل يمكنكِ تجهيز ليازيل للنزول معنا؟”
“حاضر، آنسة فيلوميل.”
دخلت فيلوميل مع مادونا إلى القصر، بينما تفقّد كايين تجهيزات الفرسان والعتاد بنفسه.
كانت ليازيل تقضي وقتها مع صوفيا حين جاءوها بالأخبار، وعلى الرغم من ارتباكها، إلا أنها كبتت فضولها عندما رأت ملامح فيلوميل الجادة، واكتفت بطاعتها بهدوء.
في الحقيقة، كان الخدم قد أنهوا معظم الاستعدادات، لذا بقيت ليازيل بجوار إيما، لا تفارقها.
قالت إيما بهدوء:
“يا آنستي، نحن نستعد للذهاب إلى الشمال معكِ.”
“الشمال؟ حيث يسكن جدي وجدتي؟”
“نعم، تمامًا، هل تذكرينهما؟”
هزّت ليازيل رأسها نفيًا برفق.
لم يكن غريبًا، فذاكرتها قبل أن تصبح متعالية كانت ضبابية، ولم تكن تتذكّر الكثير عن جديها.
“آنستي، هل تتذكرين ما قلته لكِ انا وبير عن الوحش؟”
تصلّبت ملامح ليازيل، وأجابت:
“نعم، أذكر.”
كان بير وإيما قد أخبراها بكل شيء عن الوحوش، كونها وريثة الدوق، حتى يغرسوا في نفسها الحذر، لذا لم تكن ليازيل تتعامل مع الموضوع باستخفاف رغم صغر سنّها.
“لا تخبريني أن الوحش… استيقظ؟”
أومأ بير برأسه، بينما كان يُصلح شعرها بعناية.
“نعم، الدوق سيذهب لمواجهته، لذلك سترافقه الآنسة فيلوميل بصفتها المتوافقة، ولكن بما أن حالتكِ لم تستقر بعد، فستلحقين بهما أيضًا.”
قالت ليازيل، وقد انخفض صوتها:
“…لن أكون عبئًا، أليس كذلك؟”
“لا، أبدًا، بوجود الآنسة فيلوميل، لن تفقدي السيطرة، ولن تشعري بالألم كما في السابق.”
هزّت رأسها موافقة، وإن لم تكن ملامحها مطمئنة تمامًا، ورغم أنها لم تمرض منذ لقائها بفلوميل منذ شهر تقريبًا، إلا أن ذكريات الألم لا تزال حيّة في ذهنها.
“هل سأؤذي أحدًا إن فقدت السيطرة على قوتي؟”
طمأنها بير بلطف:
“لقد تمرّنتِ كثيرًا، أليس كذلك؟ لن يحدث شيء، وبما أن خصمك هذه المرة هو وحش، فلن تحتاجي لأن تضبطي قوتك كثيرًا.”
فانفرجت أساريرها، وابتسمت ابتسامة مشرقة:
“صحيح!”
“ومعظم القتال سيتكفّل به الدوق، لذا على الأرجح لن تحتاجي إلى مواجهة الوحش بنفسك، ما عليكِ سوى حماية الآنسة فيلوميل!”
“أجل! سأفعل ذلك!”
كانت فيلوميل بالنسبة لـ ليازيل شخصًا يجب عليها حمايته، فهي لا تملك مهارات سحرية أو قتالية، وحين فكّرت الطفلة التي كانت تراها صغيرة، ستقوم بحمايتها… شعرت بشيء غريب وعذب في قلبها.
***
“سيدتي!”
نادى هارنين، وهو يركض باتجاه فيلوميل.
“هارنين؟ ألم تعد بعد؟”
لهث قائلًا:
“هاه… كيف أعود وأترككِ وحدكِ؟”
كانت فيلوميل قد أخبرته بالموقف سريعًا وأرسلته إلى المكتب، لكنه عاد من تلقاء نفسه على عربة.
“أحضرتُ كل ما نملكه من لفائف الأرواح… هااه… أليس هذا مفيدًا ضد الوحوش؟”
في الواقع، كان قد ذهب للمكتب لهذا الغرض تحديدًا: ليجلب البقية بعد أن سلّمت ما يكفي لكايين.
قالت فيلوميل:
“أترغب بالذهاب معنا؟”
“هل كنتِ تظنين أنني سأدعكِ تذهبين وحدكِ؟!”
حاولت فيلوميل أن تثنيه، لكنها سرعان ما صمتت، فرغم أن هارنين كان يطيعها غالبًا، إلا أنه يصبح عنيدًا حين يتعلّق الأمر بسلامتها، وسيجادلها بشدة إن قالت له إن المكان خطير.
وفوق ذلك، فوجود روحاني مثل هارنين في منطقة باردة كالثلوج الشمالية حيث يصعب الحصول على الماء، سيكون مفيدًا للغاية.
“…حسنًا، لا بأس.”
“أوووه! رائع!”
فرحت صوفيا أيضًا لسماع الخبر:
“كم هذا جميل! لن تكوني وحدكِ إذًا!”
ضحكت فيلوميل من قلبها، وقد خفّف ذلك من توترها الذي لازمها منذ علمت بذهابها إلى الشمال.
عندها، سُمعت تلك النبرة المألوفة بجانبها:
“فيلوميل.”
“دوق، هل انتهيت؟”
“أجل، وأنتِ؟”
“انتهيت كذلك، بالمناسبة، هارنين سيرافقنا… هل هذا مقبول؟”
هزّ كايين رأسه موافقًا بلا تردد:
“لا بأس، لقد سلّمتُ بالفعل كميات كافية من لفائف الأرواح.”
***
ارتدوا ملابس شتوية سميكة مُبطنة بأحجار تولّد الدفء، استعدادًا لمواجهة برد الشمال.
كل ما عليهم فعله الآن هو ركوب العربة إلى البوابة السحرية القريبة، ومنها سيتم نقلهم فورًا إلى الشمال، وكان قد أُرسل بالفعل رسول ليُبلغ بقدومهم، فلا شك أن الخبر وصل الآن.
بدأ الجميع بالصعود إلى العربة المحصّنة بسحر الحماية، وبقي فيلوميل وكايين فقط.
قال كايين وهو يتأملها:
“فيلوميل.”
ثم راح يُحكم إغلاق أزرار معطفها.
رغم أن الجو في العاصمة بدأ يبرد إيذانًا بدخول الشتاء، إلا أن الملابس الثقيلة المحشوة بالأحجار كانت تسبب لها حرارة زائدة، فشعرت بجسدها يسخن.
قال لها كايين بصوت هادئ، عميق:
“اعديني… ألا تتأذي حتى ولو قليلًا، وأن تعودي معي في الربيع كما أنتِ الآن.”
أجابته فيلوميل وهي تبتسم برقة:
“وأنت أيضًا، عدني بذلك.”
ضحك كايين بخفة.
كانت تعلم تمامًا أن كلماتها تلك لا معنى لها في الواقع، على عكسها، كايين سيتوجب عليه الدخول في معارك فعلية مع الوحوش، بالنسبة لها، الحذر يكفي، أما هو… فالمعركة قدره.
لكن رغم ذلك، قال لها:
“أعدكِ.”
وتبادلا الابتسامة، وكلٌّ منهما يُخفي في قلبه قلقًا لا يقال.
التعليقات لهذا الفصل " 74"