الحلقة سبعون.
“إيمون…”.
تحدثت فيلوميل بنبرة هادئة متأنية، كأنها تشرح لطفل صغير، توضّح له فكرة تلو الأخرى.
“كوني أملك المال لا يعني أنني مضطرة لأن أعطيك إياه، أليس كذلك؟ حديثك لا يحمل أي منطق، لا من أوله ولا آخره.”
“… أعلم… أنني سببت لكِ الكثير من الألم.”
عضّ إيمون على شفته السفلى بقوة، وعيناه تنضحان بالمرارة.
ولما بدا أنه أخيرًا فهم ما تقصده، همّت فيلوميل بأن تستدير مع كايين لتغادر، لكنها توقفت حين رأت إيمون يغيّر ملامحه فجأة إلى قهر شديد… ثم بدأ بفك أزرار قميصه.
“إن كان بإمكاني أن أُصلح الألم الذي سبّبته… فَـ بجسدي… فسأفعل… يمكنني أن أقدّم لكِ نفس— كووخ!”
“يا للقذارة، فيلوميل.”
قالها كايين وهو يقف أمامها بابتسامة دافئة، لكن ما فعله لم يكن دافئًا أبدًا.
رمشت فيلوميل بدهشة، لم تستوعب ما حدث للتو، فما إن فك إيمون الزر الرابع، حتى طار جسده في الهواء بعدما تلقّى ركلة مباشرة من قدم كايين.
كان صوت العظام المتكسّرة واضحًا، كإعلان صريح عن نهاية محاولاته البائسة.
أغمضت فيلوميل عينيها للحظة، ثم فتحتهما ونظرت مباشرة إلى وجه كايين، الذي كان يملأ مجال رؤيتها.
“هل يمكنك أن تبقى هكذا قليلًا؟ أحتاج إلى تطهير نظري بعدما تلوث بهذا المنظر.”
“بكل سرور.”
وظلت تنظر إليه لبعض الوقت، مستمتعة بجمال وجهه، كأنها تغسل به عينيها من مشهد إيمون المقزز.
أما ايمون، فكان يتلوّى بعيدًا، يزحف وهو يئن من الألم، يده ممسكة بقفصه الصدري الذي تلقّى الضربة.
“أنت…! حتى لو كنت دوقًا، لا يحق لك ضرب أحد بهذه الطريقة! ماذا تظن نفسك؟!”
“أنا فقط عاقبتك بالنيابة عن جلالة الإمبراطور، بتهمة تلويث عينيّ فيلوميل.”
“أيها اللعين! حضّر لي تعويضًا! وسأطلب مبلغًا ضخمًا، وإن لم تدفع… سأفضحك في الصحف! ، سترين اسمك في الصفحة الأولى لتيڤن!”
“آه…”
كانت ملامح فيلوميل مطابقة تمامًا لملامح كايين: مزيج من الازدراء والشفقة.
“أتعلم، حتى لو بلّغت، لن ينفعك ذلك.”
“… ماذا؟”
“لأن جريدة تيڤن… ملكي أنا يا إيمون كيبان.”
كأن السماء سقطت على رأسه، صحيفة تيڤن، الأضخم في البلاد، كانت من تأسيس كايين؟ يا لسوء الحظ.
بقي إيمون للحظة في ذهول، ثم سرعان ما انفجر بالصراخ مجددًا نحو فيلوميل.
“هل هذه حقيقتك؟ هكذا أنتِ؟ ضيّقة الأفق، تافهة، لا تستحقين النظر يا قبيحة!”
“أوه، لا أظن ذلك، أعتقد أنني جميلة جدًا في الواقع.”
أمالت فيلوميل رأسها بلطافة، فتقدّم كايين وأحاط كتفيها بذراعه.
“بالضبط، زوجتي فاتنة، يبدو أن عينَي إيمون كيبان بحاجة إلى فحص.”
نظرت فيلوميل إليه جانبًا، مستنكرة استخدامه لكلمة زوجتي بهذه الأريحية.
“منذ متى أصبحتُ زوجتك؟”
“ألن تتزوجيني إذًا؟”
“لكننا لم نتزوج بعد.”
“حتى جلالة الإمبراطور ناداكِ قبل قليل بـ شريكة حياتي، ألا يعتبر هذا زواجًا فعليًا؟”
بينما كانا يتبادلان الحديث، كان إيمون يستمع إليهما بذهن شارد، يطحن أسنانه غيظًا.
حين سمع أول مرة بالشائعة عن فيلوميل، رفض تصديقها.
فقد عرفها لأكثر من عام، وكان يؤمن بأنها ليست من هذا النوع.
لكن الآن، وهو يسمع حديثها مع كايين، شعر بأن كل ما آمن به قد انهار.
خفض رأسه، يهمس لنفسه بكلمات لم تُفهم.
لكنه ما لبث أن رفع عينيه، وقد احمرّتا غضبًا.
“… فيلوميل. أنتِ… شريرة حقًا.”
“اذهب أنتِ وناديا أليس إلى مصحة نفسية وتحدثا هناك.”
كادت فيلوميل أن تدير ظهرها، لكن صوت إيمون المتشنج أوقفها:
“توقفي!”
نهض من مكانه بصعوبة، يعتصر الألم من أضلعه المتضررة، لكنه تماسك واقترب منها، عاقدًا العزم على إلقاء قنبلته الأخيرة.
“أنا أعرف سرك، فيلوميل!”
نظرت إليه ببرود، لم يكن لديها ما تخشاه، لكنها قررت أن تستمع.
ارتسمت على وجه إيمون ابتسامة شريرة، وكأنّه وجد أخيرًا سلاحًا يحسم المعركة.
وفي تلك اللحظة، رأت فيلوميل فيه ملامح زوجة الماركيز كيبان، حين كانت تدّعي معرفة سرها وتحاول ابتزازها.
لم تستطع تجاهله لأنه بدا واثقًا، لكنها أحست في أعماقها أن ما سيقوله… سيكون أغرب من الخيال.
“فيلوميل… أنتِ لديكِ ابنة، أليس كذلك؟”
وكانت محقّة.
تجمدت تعابير وجهها من الذهول، لا لأنها أُمسكت بسر، بل لأنها تفاجأت من هذه الجرأة العبثية.
كما توقعت تمامًا…
اعتقد إيمون أنها ارتبكت فعلًا، فارتفعت روحه المعنوية، واهتز جسده من نشوة النصر.
“عمرها يقارب العاشرة، أليس كذلك؟ لقد تحققت من الأمر! اختفيتِ فجأة منذ عشر سنوات، وعدتِ بعد شهرين فقط! وقتٌ كافٍ للحمل والولادة والعودة، أليس كذلك؟ تلك الطفلة هي ابنة الدوق ويندفيل! أنتما كنتما على علاقة سرية طوال الوقت! وتسللتِ إلى عائلتي لتدميرها برفقة ناديا! كل ما فعلتِه كان جزءًا من مخططك!”
وبعدما أنهى خطبته بنَفَس متقطع، أمسَك بصدره متألمًا.
لكن رؤية وجه فيلوميل المتجمد أعاد له روح الظفر.
انفجر ضاحكًا، وجهه متشنج من الحقد.
“هاهاها! كنتِ دائمًا تتصرفين وكأنكِ الأذكى! لكن انظري إليك الآن! ها أنا ذا أدمّركِ بحقيقة واحدة فقط! أخيرًا ستعلمين كم أنا عظيم!”
ثم أطلق زفيرًا ثقيلًا، كأنّه يلتقط أنفاسه قبل إعلان شروطه:
“لذا، إن أردتِ أن أبقي فمي مغلقًا… عليكِ أن تدفعي لي! بل، امحي كل ديون عائلتي! وأريد تعويضًا عن كل ما عانيته بسببك خلال الأشهر الماضية، نصف ثروة الدوقية… هذا فقط لأني أتحلّى بالرحمة، أما أخي ووالديّ؟ لا يهمني أمرهم، لا حاجة لإطلاق سراحهم.”
أنهى كلامه، وقلبه يكاد ينفجر من الترقب. الألم في ضلوعه بلغ ذروته، لكن طعم النصر جعله يشعر وكأنه يحلّق.
نعم… سآخذ المال، وأُعيد سمعتي عبر الصحف، وأنتقم من أولئك الخدم الذين تخلّوا عني، سأوظّف من هم أفضل، وأبني حياتي من جديد—
تصفيق… تصفيق… تصفيق…
كسر كايين الصمت بتصفيق بطيء، عميق النبرة.
“رائع حقًا.”
“ها! يبدو أنك كنت تحتقرني لدرجة أنك تُذهل بهذا القليل؟ أنا قادر على ما هو أعظم من هذا بكثير!”
“بالمناسبة، الطفلة التي تتحدث عنها… بشعر فضي وعينين خضراوين، صحيح؟”
تجمّد إيمون، هذه كانت المواصفات الدقيقة التي حصل عليها.
“نعم… تمامًا.”
“تلك ابنة أخي.”
ضحك إيمون بازدراء.
“رسميًا فقط، بلا شك.”
“بل هي حقًا، ابنة أخي الراحل.”
“أنا أعلم الحقيقة، يا دوق، محاولاتك للتمويه لن تجدي نفعًا.”
“هممم…”
نظر كايين إلى إيمون بنظرة باردة، يتساءل ما الذي يمكن فعله مع رجل يرفض رؤية الواقع.
عندها، تحدثت فيلوميل، لأول مرة بعد خطبته الطويلة.
“إيمون، لو كان كلامك صحيحًا… لكنت الآن ميتًا.”
“ماذا…؟!”
“الابتزاز، يا إيمون، لا ينجح إلا مع من يخشاك.”
تلفّتت حولها.
“لا أحد هنا، نحن في جزء ناءٍ من الحديقة، والوقت متأخر، الدوق هنا… وهو متعالي وأنت؟ لا حول لك ولا قوة.”
لمعت عيناها بقسوة لاذعة.
“لو اختفيت الآن، من سيهتم؟ سيظن الجميع أنك هربت من ضغط الديون… مجددًا.”
“أنتِ… أنتِ تهددينني بالقتل…؟!”
“لا أهدد من لا يستحق التهديد.”
ارتجفت شفتا إيمون، عاجزًا عن الرد.
كانت محقة.
اليوم تُقام مأدبة ملكية، الجميع منشغل، والحديقة مهجورة، وهم في أقصى أطرافها.
إصاباته خطيرة، وكايين لا يُقهر.
وهو وحده… دون أي حراسة.
إن قُتل هنا، فلن يشك أحد، الكل سيظن أنه هرب.
ارتعد جسده بالكامل.
“لكنكِ… لو قُتلتِ أحد النبلاء داخل القصر—”
“برأيك، من سيتحرّك الإمبراطور لحمايته أولًا؟ أنت أم كايين؟”
لم يكن هناك مجال للتفكير.
إيمون شعر بقوة ساقيه تنهار، وانهار على الأرض، يتراجع جالسًا على مؤخرته.
“إن… إن قتلتموني، ستقعون في ورطة…”
في تلك اللحظة، ابتسمت فيلوميل بخفة، وقالت بنعومة مرعبة:
“ومن قال إننا سنقتلك؟ كنت فقط أشرح الأمر، هذا كل شيء، أليس كذلك، سيدي الدوق؟”
سحبت ذراعه برقة وهي تنظر إليه.
ظل كايين يحدق فيها مذهولًا من تلك الهالة المرعبة التي انبعثت منها، قبل أن يهز رأسه متأخرًا.
“آه…بالضبط كنت أنوي قتلك”
“عفوًا؟”
تفاجأ بنفسه وهو يلفظ الحقيقة، فأسرع يُصحّح:
“أعني… لم يخطر لي شيء كهذا مطلقًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 70"