الحلقة التاسعة والستون.
لم تكن تعرف ما الذي يخيفه بالضبط.
هل كان يخشى أن تهرب فيلوميل؟ أم أنه كان خائفًا من أن يفقد هو نفسه صوابه؟
لم يشرح ذلك بالتفصيل، لكن فيلوميل شعرت لسببٍ ما أنه يخشى كلا الأمرين معًا.
نظرت إليه مباشرة، وفتحت شفتيها قليلًا لتأخذ نفسًا عميقًا وتزفره بهدوء.
راح كايين يتأمل صدرها المرتفع والمنخفض مع كل نفس، ثم انحنى مجددًا ليعيد حذاءها إلى قدميها بدقة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
“لكن بالمناسبة، لماذا سألتِني؟ هل كنتِ تفكرين فعلاً بالهرب؟”
“……… حتى لو خطرت لي الفكرة، فبعد ما قلتَه لي، اختفت تمامًا.”
“إذًا، كانت موجودة؟”
توقف كايين عن إلباسها الحذاء وسألها بهدوء.
أسرعت فيلوميل تهز رأسها نفيًا بتوتر.
“لا، أبدًا.”
وعند ردّها القاطع، أكمل كايين تثبيت الحذاء على قدميها.
كانت الأحذية ثقيلة مقارنة بكاحليها الرقيقين، فراح كايين يقدّر وزنها وهو يقول:
“هل أحضر لكِ زوجًا آخر من الأحذية؟”
“هل يوجد أحذية غيرها؟”
“طبعًا، لدينا جيو.”
قال ذلك وكأنه أمرٌ بديهي، أحست فيلوميل فجأة بالأسى على جيو.
لكن كايين، وكأنه قرأ ما يدور في ذهنها، أردف مطمئنًا:
“لا تقلقي، أنا أحرص على دفع راتبه كاملًا دون تأخير.”
صحيح، فشخصية كايين لم تكن يومًا بخيلة، وكان يُحسن معاملة من يعملون لديه، من المرجّح أن جيو يتقاضى أكثر مما كانت تتخيل.
مع ذلك، هزّت فيلوميل رأسها نفيًا.
“أنا بخير حقًا، لو كنت منزعجة كنت سأطلب التغيير، لكنني مرتاحة، ولهذا أرفض.”
ابتسم كايين بلطف.
“إذًا فلنبقَ قليلًا قبل أن نعود، كنت أنوي فقط المرور لإلقاء التحية على الإمبراطور ثم الرحيل على أي حال.”
“بما أن جلالة الإمبراطور غادر، هل يمكننا البقاء قليلًا؟”
“بالطبع.”
“لكن ليس هنا، أريد أن أستنشق بعض الهواء في الحديقة.”
“حسنًا.”
بادر كايين بمرافقتها إلى الحديقة، وما إن هبّ النسيم البارد حتى شعرت فيلوميل بأن ذلك الهواء النقي يزيل الضيق الذي خنق صدرها داخل قاعة الحفل.
أغمضت عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم أخرجته ببطء، وقتها خلع كايين سترته ووضعها على كتفيها برفق.
“هل كنتِ منزعجة؟”
“نعم، قليلاً.”
عندها رمقها كايين بنظرة، فاستعجلت فيلوميل بالتبرير:
“كنت على وشك أن أخبرك، لكنك تحركت فجأة، صدقني.”
سحبت السترة لتغطي جسدها أكثر، كانت رائحة كايين خفيفة باقية فيها.
أعجبها ذلك، وكأن كايين يعانقها بذراعيه بالفعل… لذا ابتسمت بهدوء.
“بالمناسبة، ماذا تفعل عند نزولك إلى الشمال؟”
“في العادة، أُجري دوريتين يوميًا، والمكان هو ‘السهول الثلجية’، حيث ترقد الوحوش.”
“السهول الثلجية…”
تمتمت فيلوميل باسم بدا مألوفًا لديها من الرواية الأصلية.
رواية [إلى من لا يندم] ركزت على حب ناديا وكايين، ولم تكن تتمحور حول الأحداث، لذا كانت تفتقر إلى التفاصيل عن العالم المحيط بهما.
ومع ذلك، تكرر ذكر “السهول الثلجية” بما يكفي لتترك أثرًا في ذاكرتها.
لكن، لماذا لا أستطيع تذكّر تفاصيلها؟
رغم أن ذاكرتها عن الرواية الأصلية كانت دقيقة بفضل تجربتها السابقة، إلا أن كل ما يخص السهول الثلجية كان غامضًا وغير واضح.
حاولت أن تتذكر، لكنها سرعان ما تخلّت عن ذلك، لو كان فيها أمرٌ جلل لكانت قد تذكّرته بسهولة.
رأى كايين أنها تفرك ذراعيها بيديها، فقال:
“لنعد الآن، وإن كنتِ تريدين الراحة أكثر، لِنذهب إلى غرفة الاستراحة.”
“لا، ارتحت كفاية، فلنعد إلى قاعة الحفل.”
استدار الاثنان معًا استعدادًا للعودة، لكن—
“انتظرا!”
صرخة قاطعت خطواتهما، وشخصٌ ما وقف أمامهما فجأة.
“إيمون؟”
نطقت فيلوميل اسمه بدهشة، بينما ضيّق كايين عينيه باستغراب.
دهشة فيلوميل لم تكن فقط لظهوره، بل لحالته أيضًا.
كان إيمون في العادة يملك شعرًا ذهبيًا وعينين بنيّتين، ليس وسيمًا لدرجة لافتة، لكنه حسن المظهر، بطولٍ متوسط، وإذا اهتمّ بمظهره نال مدح الناس.
ويبدو أنه كان يعلم أن الزينة تُحسّن مظهره، إذ كان ينافس الكونتيسة بونيتا في الاهتمام بأناقته.
حتى حين تراه في القصر، كان يرتدي أفخم الثياب ويتعطر دائمًا ويضع سترة أنيقة فوق ملابسه.
لكن مظهره الآن…!
شعره طال أكثر من اللازم، وقد انبثت خصلاته في كل اتجاه، وزيته واضح. قميصه غير مكوي، بل متسخ، وفيه بقع غريبة.
وجهه شاحب، والهالات السوداء ثقيلة تحت عينيه.
ملامحه التي كانت تحتاج إلى تجميل لتُصبح مقبولة، أصبحت منهارة تمامًا، وملابسه قذرة.
لم تكن بحاجة إلى تدقيق أكثر لفهم حجم المأساة.
“ماذا كنتِ تفعلين هنا طوال هذا الوقت؟ أتعرفين كم بحثتُ عنك؟”
تفاجأت فيلوميل من مظهره، لكن كلامه كان أكثر صدمة.
“ماذا تعني؟”
“كنتِ تتعمدين تجنّبي!”
“كنت تبحث عني؟”
سألت بدهشة، فقد سمعت ذلك لأول مرة. نظرت إلى كايين، لكنه بدا حائرًا مثلها.
ثم تذكّر فجأة شيئًا ما.
“هل يُعقل أن المتسوّل الذي جاء مؤخرًا كان أنت؟”
“متسوّل؟!”
“نعم، منذ أيام، ظهر متسوّل يطالب برؤيتك وسبب ضجّة، لم يُرفع الأمر لكِ، فقد تولى سيباستيان التعامل معه لاحقًا.”
نظرت فيلوميل إلى إيمون من رأسه إلى قدميه.
إن جاء بهذا الشكل فعلًا، فلن يصدقه أحد، حتى لو زعم أنه من عائلة نبيلة.
احمر وجه إيمون وصرخ:
“متسوّل؟! كنت فقط منشغلاً في ترتيب شؤون العائلة، ولم أجد وقتًا للاعتناء بمظهري!”
يبدو أن وضعه المالي سيئ حقًا.
ليس من المعقول ألا يكون لديه مال لشراء قميص نظيف.
على الأرجح، وفّر النفقات بتقليص أو طرد الخدم، مما جعلهم يغادرون، وإلا، كيف يفسَّر وجود آثار احتراق على قميصه وكأنه كواه بنفسه؟
“إذًا، لماذا أتيت إليّ؟”
سألته فيلوميل، فبدأ يتمتم:
“صحيح أننا انفصلنا بطريقة سيئة… لكننا كنّا نهتم ببعضنا البعض بصدق، أليس كذلك؟”
نظرت فيلوميل إلى كايين وقالت:
“كذب…”
“… أعني، صحيح أن الذكريات تميل إلى الحزن، لكنني أحببتك بصدق.”
“كذب مجددًا.”
همس كايين هذه المرة، بينما فتح إيمون فمه ليعترض، ثم أغلقه وأكمل كلامه بعناد:
“حسنًا، ربما لم نحب بعضنا، لكننا احترمنا بعضنا!”
“هاه؟ احترمنا؟”
ضحك كايين ساخرًا، وكأن ما سمعه تخطى حدود المنطق.
“إيمون كيبان، هل تعتقد أن تركك لخطيبتك يوم الخطبة وهروبك مع صديقتها يُعد احترامًا؟”
“قلتُ إن ذلك كان مجرد خطأ!”
ورغم أن كايين هو من رد عليه، إلا أن إيمون صرخ موجّهًا كلامه إلى فيلوميل.
كانت فيلوميل مندهشة من أنه ما زال يملك الجرأة ليفعل هذا، ولم تستطع أن تصرخ في وجه كايين بدلًا منه كما فعل هو، فسألته ببرود:
“كلامك كان موجّهًا للدوق، فلماذا تصرخ في وجهي؟”
ولم يجبها، بل تجاهلها وكأن كلامها لم يكن.
أدركت فيلوميل أنه لم يبح بعد بسبب مجيئه، فتنهدت بعمق.
“حسنًا، أخبرني الآن، لماذا جئت؟ لقد سألتك ثلاث مرات بالفعل، فهلّا أجبت أخيرًا؟”
فتح فمه كالسمكة، ثم خفض رأسه وهمس:
“… أعريني بعض المال.”
لم تُصدم فيلوميل، فقد توقعت شيئًا كهذا مسبقًا.
لقد تجاوز الأمر مرحلة الخيبة من زمن بعيد.
لم يكن شخصًا تستحق منه أي توقعات، وآخر خيوط الأمل فيه انقطعت يوم فرّ مع ناديا في يوم خطبتهما.
زفرت وقالت بصرامة:
“كلا، لا أملك.”
“م-ماذا؟ لا تملكين؟! هناك إشاعات تقول إن الدوق يحبك حدّ الجنون!”
وعند تلك الجملة، انتفخت أكتاف كايين بفخر، أما فيلوميل فحدّقت فيه بدهشة للحظة، ثم أجابت إيمون:
“وما دخلك أنت بذلك؟”
“هاه؟”
“ما علاقة محبة الدوق لي بك أنت؟”
“لا بد أنه منحك مالًا… على الأقل اعطني شيئًا!”
التعليقات لهذا الفصل " 69"