الحلقة الثامنة والستون.
“أنا بخير، استمتع أنت بالمأدبة.”
وما إن اختفى ذلك النبيل أيضًا حتى تنهد ويستون بهدوء.
من بعيد، تلاقت عينيه مع عيون بعض الفتيات النبيلات، فبادلهم التحية بإيماءة صغيرة.
احمرّت وجوه الفتيات ورددن التحية بالمثل، لكن لم يتقدمن أكثر من ذلك.
ثم ما لبث أن التفت ليجد نفسه يلتقي بنظرات رؤساء العائلات النبيلة.
أما الفتيات، فقد يمكن تجاوز الأمر معهن، لكن رؤساء العائلات لا يمكنهم تجاهل ويستون وهو واقف بمفرده بعدما حيّوه.
فحتى إن كانت مكانة ولي العهد الآن راسخة لدرجة لا تترك مجالًا لتدخل ويستون، فلا أحد يعلم ما قد يحدث في المستقبل.
اقترب الرؤساء وبدأوا الحديث مع ويستون.
ومع مرور بعض الوقت، أدرك مجددًا أن من بقي حوله هم فقط النبلاء من الطبقة الدنيا، فعضّ شفته بصمت.
زفر تنهيدة داخله، ثم اعتذر بابتسامة وغادر المجلس.
هؤلاء لا فائدة منهم.
لا هو ولا الإمبراطورة بحاجة إليهم.
لكن كل ما تبقّى له ليتفاخر به هو تماسكه ومجاملته للجميع دون تفرقة.
لذلك، كان عليه التحمل.
خرج ويستون إلى الشرفة، أغلق الستائر وأخذ نفسًا عميقًا.
لقد شرب بعض كؤوس النبيذ أثناء الحديث، فبدأ يشعر بصداع خفيف.
في تلك اللحظة..
“… فيلوميل!”
عند سماعه النداء، نظر ويستون إلى الحديقة بالأسفل.
كانت هناك فيلوميل تقف بمواجهة أحدهم.
***
بعد أن رقصت مع كايين وعدت إلى مقعدي، تقاطر الناس حولي كأنهم كانوا ينتظرون عودتي.
وبينما كنت أتحدث مع هذا وذاك، مر الوقت سريعًا.
لكن كايين قاطع الحديث فجأة وقال:
“عذرًا، سنستريح قليلًا.”
لم تكن نبرته تعتذر فعليًا.
رافقني كايين وسط الزحام، وانسحبنا معًا من الحشد.
كنت أعلم سبب تصرفه هذا، لذلك نظرت إليه جانبًا وقلت:
“هل كان الأمر واضحًا لهذه الدرجة؟”
“كنتِ تنوين عدم إخباري حتى النهاية؟”
رددت بسرعة على سؤاله القاسي:
“كنت سأتكلم.”
“متى؟”
“أممم… بعد عشر دقائق تقريبًا؟”
ضيّق عينيه وقال بسخرية:
“بالكاد أصدق.”
في الواقع، لم أكن أنوي إخباره، فقد شعرت ببعض التعب فحسب، أطرقت بعيناي بخجل.
كان كايين طوال الوقت يتعامل مع النبلاء، ويقود زمام المبادرة.
شعرت أحيانًا بنظراته تتسلل نحوي، لكن لم أتوقع أن يلاحظ حالتي بهذه السرعة.
وحين تذكرت ذلك، خفق قلبي بخفة.
قادني كايين إلى غرفة استراحة بالطابق العلوي من قاعة الحفل.
“اجلسي وارتاحي قليلًا، هل تريدين ماء؟”
“نعم، من فضلك.”
ما إن دخلت حتى جلست على الأريكة وبدأت أشرب الماء الذي قدّمه لي بنهم.
كانت صوفيا قد نصحتني بعدم الشرب بعشوائية كي لا يفسد مكياجي، لكن لم يكن لدي طاقة لأفكر في ذلك.
جلس كايين بجانبي وسكب المزيد من الماء في الكأس الفارغة.
“ارفعي رجلك.”
“هاه؟”
“لا بد أنها تؤلمك من الوقوف طويلًا.”
“آه، لا بأس…!”
لكنه لم يمنحني وقتًا للرفض، انحنى فجأة وسحب ساقي بلطف، ووضعها على ركبته.
تمايل جسدي قليلًا واتكأت على ذراع الأريكة.
خلع كايين حذائي ونظر إلى قدمي المتورمتين وهو ينقر بلسانه.
“متورمة هكذا وتقولين لا بأس؟”
ثم بدأ يضغط على ساقي وقدمي دون رحمة.
في البداية، حاولت سحب قدمي بفزع.
لكن كايين… كان يملك موهبة حقيقية في التدليك.
كانت يداه أكثر فعالية حتى من صوفيا، وشعرت كأن جسدي يذوب من الراحة وحرارة يديه أضفت شعورًا دافئًا لطيفًا أيضًا.
“آه… هذا المكان يؤلم قليلاً.”
“هنا؟ تقصدين هذا الموضع؟ بالفعل إنه احمرّ قليلًا، هل الحذاء جديد؟ ألا تخشين من ظهور بثور؟”
“لبسته عدة مرات في القصر لأعتاد عليه، لا أعتقد أنها ستظهر، لكنه يؤلمني قليلًا.”
“سأشتري لك حذاءًا يُفصّل خصيصًا لك، بحيث لا تحتاجين للأعتياد من الأساس ، في الواقع، سأطلب صنعه حسب مقاسك تمامًا.”
تمتم وهو يربّت بلطف على الخنصر المتورم في قدمي:
“حذاء تافه كهذا يجرؤ على إيذاء قدميك…”
ضحكت فجأة وقلت:
“أتعلم؟ هناك خرافة تقول إن إهداء الأحذية يعني أن الشخص الآخر سيهرب منك.”
“خرافة؟ كهذه موجودة؟”
يبدو أن هذه الخرافة لم توجد في هذا العالم، فقد عبس كايين قليلًا.
ورغم أن ملامحه أصبحت جادة، إلا أن يده استمرت في تدليك ساقي.
“هل يجب أن أتخلص من كل الأحذية التي أهديتها لك؟”
“مجرد خرافة، ثم إن كانت حقيقية، ألا تعتقد أنني كنت هربت منذ زمن؟”
كان قد أهداني حذاءًا بالفعل منذ عدة أشهر.
حين تذكّر كايين ذلك، ارتخت ملامحه قليلاً وهزّ رأسه.
“صحيح، معكِ حق.”
“بالمناسبة، الخرافة لها وجه آخر أيضًا.”
“ماذا؟ هناك جانب سلبي آخر؟”
“بالعكس، هناك من يهدي الأحذية بدافع الأمل في أن يذهب الطرف الآخر دائمًا إلى أماكن جيدة.”
تألق وجه كايين قليلاً وقال:
“أنا أهديتك إياها بهذا المعنى، فهمتِ؟ لذا لا تفكّري أبدًا في الهرب.”
“بما أنك ذكرت الهرب، خطر لي سؤال.”
برقت عيناي فضولاً وسألت:
“إن أنا هربت، كم من الوقت ستستغرق لتجدني؟”
“… لا أحبذ الفكرة من الأساس…”
“لكنني أريد أن أعرف، أعلم بعض المعلومات عن الدوقية، مثلا عن ثروة دوقية ويندفيل وعدد الفرسان، لكن كل هذا تقديري فحسب، كما أن أشخاصًا مثل السير كين الذين يتحركون في الخفاء لا يُحسبون ضمن الفرسان.”
رغم أنني اطّلعت على ملفات دوقية ويندفيل وعائلاتها التابعة، فإن حجمها كان لا يزال غامضًا بالنسبة لي.
في الرواية الأصلية، عندما هربت ناديا، استغرق الأمر شهرًا… فكم سيستغرق لو كنت أنا؟
أعتقد أنني أذكى من ناديا، لذا ربما أستطيع الصمود لثلاثة أشهر…
“يوم واحد.”
“هاه؟”
خرجت من أفكاري وسألت باندهاش: “يوم؟ ليس شهرًا؟”
“شهر؟”
بدت على كايين علامات الدهشة من سؤالي، ثم تمتم بنبرة مبهوتة:
“كيف تظنين أنني سأدعك تهربين مني شهرًا؟”
“لكن كيف يمكنك العثور عليّ خلال يوم واحد؟ هل وضعت شخصًا يراقبني دون علمي؟”
“أبدًا، ولو كنت فعلت، كنت سأخبرك بذلك.”
“صحيح… لكن حتى مع ذلك، ألا تستخف بي قليلًا؟ أعتقد أنني أستطيع الصمود أكثر من شهر!”
ناديا صمدت لشهر، فكنت أظن أنني على الأقل أستطيع فعل المثل.
لكن كايين كان واثقًا تمامًا وهو يقول “يوم واحد”، مما أثار قلقي.
“لا أقول ذلك استخفافًا بك، بل لأنني أعرف تمامًا مشاعري نحوك.”
قالها بنبرة هادئة، يملؤها اليقين.
“إن لم أجدك خلال يوم، فَسيكون ذلك لأنني قد مت، ما دمت على قيد الحياة، لا يمكن ألا أعثر عليكِ خلال يوم واحد.”
“… هل دوقية ويندفيل بهذا القدر من القوة؟”
حين وقعت عقد الزواج، فكرت أنه إن ساء الوضع، سأهرب، لذا كان سؤالي جادًا تمامًا.
هل كانت ناديا بارعة في الهرب إلى هذا الحد؟
بدأت أتساءل بجدية إن كنت أقل كفاءة منها.
أجابني كايين:
“آه، يمكن أن تفهميها هكذا.”
كان يضغط بإبهامه على الكاحل المتورم ببطء، بطريقة مختلفة عن السابق جعلتني أرتجف لا إراديًا.
لا بد أنه لاحظ ذلك أيضًا، لكنه استمر في حركة دائرية، يضغط بلطف على الكاحل.
نظراته كانت مركزة على ساقي المغطاة بجوارب شفافة.
“السبب الذي يجعلني واثقًا من أنني سأجدك خلال يوم…”
رفع رأسه ونظر مباشرة إليّ.
“هو أنني أحُبكِ كثيرًا، حتى لو لم أنم، ولم آكل، وحتى لو ركضت حافي القدمين، سأطاردك حتى أجدكِ.”
انزلقت يده من الكاحل إلى أسفل، وأمسك بكامل كاحلي، كانت يده الكبيرة تحيط بكاحلي تمامًا، بلا فراغ.
لم يضغط بشدة، لكنها كانت كبيرة ودافئة إلى حد أنني شعرت وكأنني أسيرة لقبضته.
كأنني منحت حيواني المفترس عنقي بمحض إرادتي، فبردت أنفاسي، وتسلّل شعور مرعب إلى عمودي الفقري كالصاعقة.
“فيلوميل.”
لم أستطع الرد على ندائه.
“لذا، لا تهربي، مجرد تخيّل ذلك…”
خفض كايين عينيه إلى قدمي المحتجزة بين يديه، ثم رفع بصره ببطء.
التهمتني عيناه البنفسجيتان الهادئتان.
“مرعب.”
“حين أتخيل أنك لستِ معي… أفقد صوابي لمجرد الفكرة“
التعليقات لهذا الفصل " 68"