الحلقة السابعة والستون.
كانت مأدبة الليلة هي آخر وأضخم مأدبة إمبراطورية تُقام قبل دخول الشتاء فعليًا.
ولو كانت مأدبة أخرى، لما كانت مُجزية بما فيه الكفاية، لكن بما أنها لن تُقام أي مأدبة كبيرة لعدة أشهر قادمة، فالأمر مختلف.
ولهذا، إن رقص كايين و فيلوميل الرقصة الافتتاحية، فستكون حديث مجتمع النبلاء لفترة طويلة.
وطلب فيلوميل لم يكن طلبًا وقحًا. فالإمبراطور والإمبراطورة لا يرقصان على أية حال، ويمكنهما، بدافع الكرم، التنازل لصالح الخطيبين الجديدين، ليبدو كل شيء وكأنه عطاء نبيل، ويحصل كل طرف على ما يريد.
“هاهاها!”
انفجر الإمبراطور ضاحكًا، مائلًا برأسه إلى الوراء.
“حسنًا! ليكن، سأمنحكما الإذن!”
فانحنى فيلوميل وكايين فورًا احترامًا.
“شكراً لك، جلالة الإمبراطور.”
“ستكون ذكرى لا تُنسى أبدًا، جلالتك.”
ظل الإمبراطور مبتسمًا وهو يوجه حديثه إلى كايين:
“أحسنت، أحسنت، على كل حال، لقد عثرت لنفسك شريكة حياة تشبهك تمامًا، يعجبني ذلك كثيرًا، إنها تروق لي.”
ثم لوّح بيده باتجاه الفرقة الموسيقية، والابتسامة لا تفارق محيّاه:
“استعدّوا لأجل نجوم آخر مأدبة إمبراطورية لهذا العام!”
أخذ كايين بيد فيلوميل برفق، وقادها نحو وسط القاعة.
كان النبلاء قد ركّزوا انتباههم على الحديث الذي جرى، فتراجعوا مفسحين المجال في قلب القاعة، ليبقى كايين وفيلوميل واقفين في الوسط، وحدهما.
“هذه أول مرة أرى فيها دوق ويندفيل يرقص!”
“كم أنا حسودة! أن تكون محور المأدبة الإمبراطورية… يا لحظها.”
“أعتقد أنهما سيكونان نجمَي هذا الشتاء أيضًا.”
تجمعت الأنظار كلها نحوهما.
وما إن اتخذت فيلوميل وضعيتها إلى جانب كايين حتى سألته هامسة:
“هل أنت بخير؟”
كان كايين يعرف ما الذي تقصده، فأجابها فورًا:
“نعم، ليس فقط بخير، بل ممتاز.”
في الحقيقة، كان ينوي تأخير القرار حتى يطرح الإمبراطور نفسه العرض، أو ربما ينهيه بطريقة غامضة.
فوجئ حين تدخلت فيلوميل فجأة، لكنه لم يُمانع، لأنه يثق بها.
ثم نطقت فيلوميل بذلك الطلب الذي لا يخطر على البال، طلب متكامل، لا تشوبه شائبة.
“أظنني وقعت في حُبكِ مجددًا.”
ضحكت فيلوميل بخفة.
“يبدو أنه كان طلبًا جيدًا حقًا، أليس كذلك؟ في الواقع، كنت قلقة بعض الشيء.”
رغم أنها عاشت هنا طويلاً، إلا أن معرفتها بالعائلة الملكية لم تكن واسعة.
كانت تدرك أن مكانة ويستون ليست كبيرة، لكن بما أنها سلبته شيئًا كان يجب أن يكون له، فقد شعرت بالقلق.
“هل كنتِ قلقة بشأن ويستون؟”
“نعم.”
“فيلوميل، أعتقد أنه حتى لو ذهبت الآن ولكمته، فلن تكون هناك مشكلة.”
“حقًا؟”
حدّقت به فيلوميل بعينين واسعتين، فهز كايين رأسه مؤكدًا.
“حقًا، ما دام جلالة الإمبراطور على علم بذلك وسنقدم تعويضًا مناسبًا، فلن يُثار أي جدل.”
ترددت فيلوميل قليلاً، ثم سألت:
“أهذا لأنك دوق قوي النفوذ؟”
“هذا جزء من السبب، لكن السبب الأهم هو أن ويستون لا يملك نفوذًا تُذكر.”
فالحقيقة أن ولي العهد الآن في ذروة حياته، في الأربعينات من عمره.
وهو في الواقع يتولى معظم مهام الإمبراطور، ما يعني أنه يحظى بدعمه الكامل.
لذلك، لم يكن غريبًا أن لا يكون هناك مكان للابن الثالث العائد من الغربة بعد عشر سنوات.
صحيح أن ويستون وسيم، ولطيف في حديثه مع الجميع، وله سمعة طيبة، لكنه لا يمتلك ما يجعله إمبراطورًا.
وفوق هذا، ولي العهد في صحة ممتازة، وعقل راجح، ما جعل فصيل النبلاء يفقد نفوذه بالكامل.
ولم يبق أحد منهم ليُشكّل سندًا لويستون.
أما آل ماركيز كيبان، فكانوا أقرب إلى النبلاء، لكنهم سقطوا تمامًا، فلم يعد لهم وجود يُذكر.
على النقيض، فإن آل ويندفيل يشكلون مصدرًا أساسيًا لضرائب الإمبراطورية المفروضة على النبلاء، ما يجعلهم بمثابة شريان مالي رئيسي لها.
ولهذا، حتى لو ضرب كايين ويستون دون سابق إنذار، فمن غير المرجح أن يُعاقب.
“ولا ننسى أن جلالة الإمبراطور… يعرف كل شي”
تمتم كايين بنبرة هادئة.
فالإمبراطور لا يُظهر محبة خاصة لويستون، لكنه يقدّره كابنه الأصغر الذي جاءه في سن متأخرة.
ولهذا، فهو يعلم أن ويستون وكايين كانا صديقين مقربين أيام دراستهما في الأكاديمية، ويعرف تمامًا…
بأن الإمبراطور لن يسكت أبدًا إن أقدم كايين على قتل الإمبراطورة.
“هناك شيء واحد فقط لا يعرفه جلالته عن الإمبراطورة.”
“تقصدين أنها ساحرة؟”
“بالضبط.”
أرادت أن تسترسل في الحديث، لكنها لم تستطع، فقد بدأت الموسيقى.
أخذ كايين بيد فيلوميل وقادها برفق في الرقص.
كلما دارت قُربه، كانت أطراف فستانها تخفق وتتمايل، فتلامس ركبتيه وساقيه في خفة، كأنها تدغده.
نسي كايين، وسط الرقص، أنه كان قبل لحظات يتحدث في أمر خطير.
لطالما لم يكن من محبي الرقص، حين كان شقيقه الأكبر حيًا، أي قبل أن يصبح الوريث، كان يضطر أحيانًا للرقص في الحفلات، لكنه كان يكره تلك اللحظات ، نظرات التطفل، وروائح العطور النفاذة.
لكن فيلوميل… كانت مختلفة.
هي الأخرى تضع عطرًا، لكنه لم يكن ينفر منه، بالعكس، كان يعجبه.
لم تكن تستخدم عطرًا مميزًا أو فاخرًا، بل كان بالكاد يُلاحظ، ومع ذلك كان يراه رائعًا.
وحين يرقص معها، يشعر وكأن العالم كله يختفي، ولا يبقى سواهما.
لا تهمه نظرات الآخرين، ولا يشغل باله سوى فيلوميل أمامه.
دارت خطواته في حلقة، وعندما التقت عيناه بعينيها ورآها تبتسم له برقة، أدرك الحقيقة:
آه… أنا فعلاً أحب هذه المرأة.
***
رفع ويستون الكأس إلى شفتيه.
وسرعان ما تسلل طعم النبيذ المرّ إلى فمه. لم يكن قويّاً في تركيزه، لكن حرارته في الحلق كانت واضحة.
“آه…”
التفت النبيل الجالس بجواره بسرعة وقد بدت عليه الدهشة.
“يؤسفني ذلك، لقد سمعت أن سمو الأمير الثالث يرقص ببراعة، وكنت أتوق لرؤية ذلك.”
أجاب ويستون مبتسمًا، وهو يهز رأسه:
“لا أظنني أرقص بذلك المستوى، في الواقع، كنت قلقًا أن تنكشف قلة مهارتي، لذا ربما كان هذا أفضل.”
كذب.
لقد قضى الليلة الماضية بأكملها في التدريب على الرقص، حتى أن قدميه تؤلمانه الآن.
لكن هذا لا يعني أن مهاراته كانت سيئة للغاية، بل كانت أساسية لا أكثر.
غير أن إعلان حضور الإمبراطورة للحفل جعله يتدرب بسرعة، فلم يكن لديه وقت كافٍ لصقل الأداء.
“كنت أرغب أن تراني أمي وأنا أرقص.”
أدار وجهه عمدًا نحو وسط القاعة، محاولاً إخفاء خيبة الأمل في قلبه.
هناك، كان هناك ثنائي منسجم في الرقص، يبدوان وكأنهما خلقا لهذا المشهد.
ربما بسبب الأضواء الساطعة، أو الابتسامات الرقيقة المتبادلة، لكنهما كانا يبدوان وكأنهما منعزلين عن هذا العالم.
ذلك كان المكان الذي يُفترض أن يقف فيه ويستون.
لكن كايين استولى عليه، وراح يرقص وكأنه صاحب الحق الأصلي فيه.
وما زاد من الإحباط أن رقصه كان مذهلاً.
رغم إيقاع الموسيقى السريع والمعقد، كان كايين يقود شريكته بسلاسة وبراعة، حتى أن الأجزاء التي ظل ويستون يُخطئ فيها أثناء التدريب، نفذها كايين بإتقان تام.
شعر بطعم المرارة في فمه.
ولم يكن يعرف، هل هو من بقايا النبيذ، أم من شيء آخر أعمق.
ثم توقفت الموسيقى، فتوقفت الرقصة، وانحنى الاثنان لبعضهما البعض، قبل أن يعودا إلى مقعديهما، متشابكي الذراعين برقة.
بدأ الحضور يتجهون تباعًا إلى وسط القاعة مع شركائهم، لكن ويستون لم يتحرك.
على أية حال، فالإمبراطور والإمبراطورة يغادران الحفل بعد الرقصة الأولى.
“ألن ترقص يا سمو الأمير الثالث؟”
التفت ويستون إلى النبيل الذي كان يحدّثه بلهجة خفيفة لا تليق بمكانته، كان من طبقة النبلاء الدنيا، ولا يُفترض أن يكون بجوار أمير مثل ويستون.
لكن الحقيقة أن ويستون، العائد لتوه من غربة دامت عشر سنوات، لم يُظهر نية واضحة بخصوص العرش، لذا لم تقترب منه العائلات ذات النفوذ الحقيقي.
كان الجميع يرحبون به، نعم، لكن لم يكن بينهم من أراد إقامة علاقات قوية معه.
ولهذا، لم يكن بجواره إلا نبلاء من الطبقات الدنيا، وبما أن الأمير لا يمكن أن يجلس بمفرده، فقد اضطر لقبول صحبتهم.
التعليقات لهذا الفصل " 67"