الحلقة خمسة وستون.
في أحد الأيام، اقترحت مادونا على فيلوميل أن تبدأ بتولي مهام ربة المنزل شيئًا فشيئًا.
وفي الأيام الأولى، كانت مادونا هي من تولّت تقريبًا كافة المهام، لأن فيلوميل كانت تتخبط وتضيع في التفاصيل.
كانت فيلوميل تدرك تمامًا أنها لا تزال تفتقر للكثير لتؤدي دور ربة المنزل، وأن أمامها الكثير لتتعلّمه.
وكانت على يقين أن معلمتها مادونا تعلم ذلك أكثر منها.
لكن، مع ذلك، لماذا قدمت لها هذا الاقتراح؟ حين فكرت بالأمر، وصلت إلى نتيجة واحدة: لا بد أن لكايين يدًا في ذلك.
نظر إليها كايين مطولًا، ثم ابتسم.
“كنت أعلم أنكِ ستفطنين لذلك، متى أدركتِ الأمر؟”
“حين أحضرت لي مادونا وثائق أملاك دوقية ويندفيل.”
“إذًا، أدركتِ الأمر على الفور.”
فرغم أن العلاقة بين فيلوميل وكايين كانت جيدة وكانا مخطوبين، إلا أنهما لم يتزوجا بعد، وحتى فكرة فسخ الخطوبة لم تكن مستحيلة، مما يجعل فيلوميل، من الناحية الرسمية، لا تزال غريبة عن الدوقية.
ومع ذلك، في اليوم الأول من تسلمها مهام ربة المنزل، أحضرت مادونا لها وثائق تتعلق بأملاك دوقية ويندفيل.
عندها فقط، أيقنت فيلوميل أن مادونا تلقت تعليمات مباشرة من كايين.
“شكرًا لك، فعلتَ ذلك لأنك كنت قلقًا عليّ في غيابك، أليس كذلك؟”
كما قالت، كان كايين يشعر بالقلق.
حتى وإن كان يعتزم العودة لرؤيتها كل أسبوعين، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا، كان يتمنى أن يتلقى تقارير يومية عما يحدث، لكنه كان يعلم أن ذلك غير ممكن.
لذا قرر أن يمنح فيلوميل السلطة.
سلطة لا تقل عن سلطة دوقة ويندفيل نفسها، أو حتى توازي سلطة الدوق ذاته.
وبما أن الخدم في القصر كانوا يعاملونها منذ البداية كما لو أنها سيدة القصر، فقد زادت هيبتها أكثر حين تولّت المهام رسميًا.
كان كايين يريد منها، في غيابه، ألّا تتعرض لأي إهمال أو تجاهل، وأن تكون قادرة على فعل كل ما تريده.
ولأجل ذلك، كانت بحاجة إلى السلطة.
“صحيح، أنا فعلًا أفكر فيكِ وأقلق بشأنكِ لهذه الدرجة.”
أمسك كايين بيدها.
ثم بدأ بتمرير أطراف أصابعه ببطء في راحة يدها الباردة.
“لذا، لا تجرحي نفسكِ، لا تمرضي، لا تحزني في غيابي، كوني سعيدة… وابتسمي دائمًا.”
ضحكت فيلوميل بخفة.
“وهل يمكن للإنسان أن يبقى سعيدًا ومبتسمًا دائمًا؟”
“سأجعلكِ كذلك.”
وطبع قبلة خفيفة على ظاهر يدها.
كانت مختلفة تمامًا عن القبلة السابقة.
فإن كانت القبلة السابقة مشبعة بالرغبة، فهذه كانت أقرب إلى قبلة طائر تلامس برقة، محملة بالحنان فقط.
“فيلوميل… هل تذكرين ما قلته لكِ في السابق؟”
“عن جعلي شخصًا محببة ويحترمه الجميع؟”
“نعم.”
ابتسم كايين.
“أحسنتِ، لم تنسي، وأريدكِ ألّا تنسي ذلك أبدًا ، لأنني لا أقول شيئًا إلا وأفعله.”
لا تدري لماذا، لكن في تلك اللحظة، تذكرت كلماته في تلك الليلة، عندما همس بها مع نسمات الريح:
“ستعترفين بحبي في النهاية.”
“وستقولين لي هكذا..
“أنا أحبك، لا أستطيع العيش من دونك.”
كايين يفي دائمًا بوعوده، وهذا يعني أن فيلوميل، في نهاية المطاف، ستقول له تلك الكلمات.
“أنا… كايين…”
نظرت فيلوميل إلى كايين، الذي كان يبتسم بثقة.
فكرت أن جاذبيته لم تكن فقط في مظهره… بل كان رجلًا رائعًا من نواحٍ أخرى كثيرة، واثقًا من نفسه، ينجح في كل ما يضعه نصب عينيه، ويغمرها بلطفٍ لا يُقاوم.
وراحت تتأمل يده وهي تعبث بيدها، وتساءلت لأول مرة إن كان من الممكن فعلًا ألّا تحب كايين، ربما… لا، ربما كان حبه أمرًا لا مهرب منه.
***
مع اقتراب الشتاء، أقيمت مأدبة كانت الأكبر والأكثر بهجة لهذا الموسم، كما لو كانت حفلة وداع قبل دخول البرد القارس.
وبفضل وجود أحجار التدفئة المنتشرة في كل زاوية، ارتدى الضيوف ملابس خفيفة كأنهم في منتصف الصيف.
خلعوا معاطفهم الثقيلة، وتجولوا بثياب أنيقة خفيفة وسط أجواء دافئة وحيوية.
وكانت معظم الأحاديث التي دارت بينهم تدور حول موضوع واحد.
“هل سمعتِ عن الماركيز كيبان؟”
نعم، كانت الأحاديث تدور حول آل ماركيز كيبان.
مع دخول الشتاء وبداية الركود الموسمي في الدوائر الاجتماعية، تفجّرت فضيحة مدوية، وأصبحت حديث الجميع.
“عن المخدرات، أليس كذلك؟”
“كيف تجرأ على محاولة دسّ المخدرات للنبالة؟!”
كانت الشائعات عن تورط إيدين كيبان في تجارة المخدرات قد بدأت تنتشر بالفعل. لكن لم يكن هناك من يرحّب بها، ففي الأوساط الأرستقراطية، لم يكن يُنظر إلى المخدرات بعين القبول.
حتى لو تغاضينا عن كونها غير قانونية، فآثارها الجانبية كانت كافية لجعل الجميع ينفرون منها.
فالنبلاء الذين يعتبرون الجمال الخارجي والهيبة أهم مقوماتهم، كانوا يرون أن المخدرات تهدد وجوههم قبل أي شيء آخر، ولا تستحق أي قدر من المتعة.
ولأن الإمبراطورية كانت تدرك تمامًا هذه العقلية، فلم تكن تبذل جهدًا كبيرًا في قمع تجارة المخدرات.
لكن ما حصل هذه المرة كان أمرًا مختلفًا تمامًا.
فلم يكن الأمر مجرّد دعوة إلى تعاطي مشترك، بل محاولة خبيثة لتسميم الناس دون علمهم ، وقد تم الإمساك بـ ايدين وهو يضيف المخدر إلى الشراب، فظهرت جرائمه إلى العلن.
“يا له من شخص بلا ضمير! كنت مدعوة إلى تلك الحفلة، الشكر للإله أنني لم أذهب!”
فلو حضرت، كانت لتقع في فخ الإدمان والتُشوَّه، وربما تُشطب من سجل النسب النبيل لعائلتها.
اهتز جسدها وهي تعبّر عن اشمئزازها.
“لا يمكن السكوت عن هذا الأمر!”
“وماذا حدث بعدها؟”
“سمعت أن جميع المتورطين أُلقِي القبض عليهم، ما عدا السيد إيمون.”
“ربما لأنه الوحيد الذي لم يتعاطَى، أليس كذلك؟ إذًا هل سيصبح هو الماركيز التالي؟”
لو نظرنا للأمر بموضوعية، فإن اختفاء الوريث الشرعي أعطى السيد إيمون الفرصة.
لكن الآراء العامة لم تكن متعاطفة.
“لو تولى ذلك المنصب، فستكون فضيحة أكبر.”
“صحيح، لا أحد يرغب بمنصب ملطّخ بهذا الشكل.”
فلو كان إيمون حسن السلوك، لربما كسب تعاطف البعض.
لكن الجميع يعرف أنه كان يغازل الشابات دون حياء، بل إنه في يوم خطوبته، هرب ليلًا مع أعز صديقات خطيبته.
“بغض النظر عن سلوكه، المنصب لا يستحق العناء، الديون التي تركها الماركيز السابق ضخمة جدًا.”
“سمعت أن الضيوف الذين حضروا الحفلة رفعوا عريضة للإمبراطور يطالبون فيها بتعويض مالي، إذا لم يكن هناك طريقة لمعاقبة آل كيبان قانونيًا.”
“ويستحقون ذلك فعلًا.”
في الحقيقة، لم يكن أولئك النبلاء بحاجة إلى المال.
لكنهم أرادوا استعادة سمعتهم، التي كادت تُلطّخ بلا ذنب.
“لكن، ألم يكن لدى آل كيبان مناجم؟”
عند ذكر أن ممتلكاتهم انتقلت إلى مؤسسة كونامو، تغيّرت ملامح وجوههم.
فـ كونامو كانت شريكًا لا غنى عنه للنبلاء، لكنهم يعلمون جيدًا أن ما يدخل إلى كونامو… لا يخرج أبدًا.
“وهكذا، انهار أحد بيوت النبلاء.”
لقد كانت واحدة من أسرع الانهيارات في تاريخ النبلاء ، بدون أي شيء يُذكر.
“أوه، هل سمعتِ بشأن الآنسة فيلوميل؟ يبدو أنها تولّت مهام ربة المنزل!”
“يا إلهي، يبدو أن الدوق مغرم بها جدًا!”
كانت الشائعات التي أطلقها كايين عمدًا تنتشر كما خُطط لها، وبدأت الألسن تتحدث.
“من المؤكد أن الآنسة فيلوميل أنقذت أمة في حياتها السابقة! تخلّت عن خطيبها المستهتر… وها هي ترتبط بدوق ويندفيل الرائع.”
حازت فيلوميل على إعجاب كثير من الأرستقراطيات، رغم أنها أصبحت خطيبة لدوق بين ليلة وضحاها.
ربما لأنها لم تتفاخر أو تتصنع التفوق.
بل إنهن لم يشعرن بالغيرة منها، لأن كايين لم يكن شخصًا يمكن الوصول إليه من الأساس.
فهو لم يعطِ أي أحد فرصة، ولا أبدى اهتمامًا بأحد قط.
ولهذا، لم تكن فيلوميل شخصًا يمكن الغيرة منها.
“إذًا، هل سيحضران اليوم؟”
وما إن انتهى السؤال، حتى دوّى صوت عالٍ للمُعلِن عند مدخل القاعة، معلنًا وصول كايين وفيلوميل.
تحوّلت كل الأنظار فورًا نحو المدخل…
التعليقات لهذا الفصل " 65"