الحلقة اربعة وستون.
كانت فيلوميل غارقة في التحضير والتزيين منذ الصباح الباكر.
بل إنّها بالكاد تتذكر ما حدث أثناء الاستحمام والتدليك لإزالة الانتفاخات ، حتى كأنها لم تكن في وعيها.
وبما أن مأدبة الليلة هي أول مناسبة رسمية لها منذ مدة، فقد انطلقت وصيفات قصر الدوق في تزيينها بحماسة، وكأنها دمية جميلة بين أيديهن.
وبما أنها أدركت باكرًا أنها لن تستطيع إيقافهن، فقد استسلمت لتحريك جسدها بين أيديهن كما شئن.
“وااه!”
فتحت فيلوميل عينيها على صوت إعجاب صغير.
ورأت من خلال المرآة ليازيل تضع يدها على فمها، وعينيها تلمعان باندهاش.
استدارت فيلوميل سريعًا لتحييها بسرور.
“ليازيل، أتيتِ؟”
“فيلوميل! أنتِ جميلة جدًا! تبدين كأميرة!”
اقتربت ليازيل وهي تقفز مكانها بحذر، خائفة من أن تفسد زينة فيلوميل لو اقتربت كثيرًا.
ضحكت فيلوميل من التشبيه العفوي البريء.
“حقًا؟ هذا لطف كبير منكِ.”
لكنها، في الوقت نفسه، شعرت بالأسف لأن ليازيل لم تستطع أن تحوّل بصرها عنها.
كانت تشعر بالذنب لعدم قدرتها على اصطحاب ليازيل إلى الحفل، إذ لم تُعلن عن وجودها رسميًا بعد.
“ما رأيكِ، هل نرتدي مثله يومًا ما معًا؟”
“معكِ يا فيلوميل؟”
ليازيل، التي كانت تهتم بصحبة فيلوميل أكثر من ارتداء فستان أميرات، سألت على الفور.
“بالطبع.”
“أجل! أحب ذلك جدًا!”
“هل تودين البقاء ومشاهدتي أكثر؟”
“نعم! سأجلس بهدوء.”
جلست كل من صوفيا و ليازيل على الأريكة القريبة، يتابعان تجهيز فيلوميل، وبدأتا تتبادلان الحديث بهدوء وود.
وما إن رأت فيلوميل انسجامهما، حتى بدأت تبتسم من آنٍ لآخر وهي تراقبهما عبر المرآة.
وفي اللحظة التي كانت فيها المرافقة تراجع التفاصيل الأخيرة لفستانها، سُمع طرق خفيف على الباب.
“ليازيل، أعتقد أنه الدوق، هل تذهبين لاستقباله بدلًا مني؟”
“نعم!”
نهضت ليازيل بسرعة من على الأريكة وركضت نحو الباب، وما إن فتحت الباب حتى استدارت فيلوميل لتنظر.
“ليازيل؟”
توقف كايين للحظة وهو يرى أن من فتح له الباب كانت ليازيل ، رغم أنه سمع مسبقًا أنها ستكون هنا.
لم يكن يتوقع أن تستقبله بنفسها، لكنه ما لبث أن مدّ يده نحوها بواحدة من باقتي الزهور اللتين كان يحمل إحداهما.
كانت الباقة أكبر من أن تحملها الطفلة الصغيرة براحة يدها، لكنها كانت مكونة من زهور بسيطة رغم الغلاف الفاخر.
شهقت ليازيل ، وهي تحدّق في الباقة ، لقد كانت من نفس نوع الزهور التي اشترتها قبل أيام من ساحة البلدة.
“هذه هدية.”
“شكرًا، عمي! إنها جميلة جدًا!”
ابتسمت ليازيل بفرح، ثم قادت كايين إلى أمام فيلوميل.
انحنى كايين وقبّل يد فيلوميل من ظاهرها، شفتاه الحارّتان التصقتا بجلدها كأنهما تترك انطباعًا لا يُمحى، ثم انسحبتا ببطء.
وكانت يده العارية تلامس يدها، تفركها بلطف.
الحرارة التي انتقلت من شفتيه ويده كانت واضحة.
“أنتِ حقًا فاتنة اليوم، يا فيلوميل.”
“وأنت جميل ، يا دوق.”
مع أن هذا الوصف قد لا يُقال عادة لرجل بالغ، إلا أن كايين كان بالفعل من الرجال الذين يليق بهم وصف ‘جميل’.
وقد كان اليوم قد سرّح شعره وارتدى ملابس رسمية أنيقة.
رجل يبدو رائعًا حتى بملابس بسيطة أو قميص، فمن الطبيعي أن يكون مذهلًا عندما يرتدي ما يليق بمقامه.
وبينما كانت فيلوميل تتأمل مظهره، لاحظت أن ألوان ملابسهما متطابقة تقريبًا، مما أشعرها بشيء من الحرج.
“حقًا؟ إذًا ألا تملكين شيئًا لتقدميه لهذا الرجل الجميل؟”
“سأعطيك ما تحمله بيدك.”
كانت تشير إلى باقة الزهور التي جلبها، لكن كايين ضغط على يدها ، التي لم يتركها بعد بشيء من القوة.
“هذه اليد؟”
“أقصد الباقة.”
“آه، كم هذا مؤسف.”
رفع كتفيه مستسلمًا، ثم ناولها الباقة.
لم تكن كبيرة، لكنها كانت مكونة من زهور فريدة بألوانها.
نظرت فيلوميل إلى فستانها، كان بلون بنفسجي خفيف، ومعظم الزهور التي تلقتها كانت بنفس اللون.
“هل اخترت الباقة لتناسب الفستان؟”
“نعم، لأن اللون البنفسجي يليق بك جدًا.”
قالها صاحب العينين البنفسجيتين.
“وكأنك خُلقتِ لتكوني مع هذا اللون إلى الأبد.”
ضحكت فيلوميل وهي تحدّق في عينيه المتلألئتين بهدوء.
“لا يوجد شيء اسمه قدر مثل هذا.”
“بل يوجد.”
قالها بجدية لم تترك مجالًا للاعتقاد أنه يمزح.
كانت فيلوميل تلامس الزهور بأناملها حين دفنت وجهها قليلًا بينها لتستنشق عبيرها.
كانت تنبعث منها روائح متعددة، لكن الأكثر تميزًا بينها كان البنفسج.
“تلك الزهرة هي المفضلة لدي.”
وأشار كايين إلى عينيه.
“لأن لونها كعينيّ تمامًا.”
“صحيح.”
قالت فيلوميل بابتسامة وهي تنظر إلى زهرة البنفسج.
“بالمناسبة، هل انتهيت من الاستعداد؟”
“نعم، هل ننطلق؟”
“أجل، لقد أنهيت كل شيء.”
شبكت ذراعها بذراعه، وأمسكت يد ليازيل ، ثم نزلوا معًا إلى القاعة.
وهناك صادفوا هارنين الذي كان قد دخل لتوه.
“أوه، رئيسة!”
لوّح هارنين لها بسعادة وهو يراها.
“يا إلهي، لقد تأنقتِ كثيرًا اليوم، رئيسة.”
“ألن يكون الأمر متعبًا؟ هل ستكون بخير؟”
“أتعنين رعاية الطفلة؟ ، لا تقلقي”
كان أول مرّة تترك فيها ليازيل في القصر دون إشرافها، لم تكن تشك برجال الدوق، لكنها أرادت أن تحظى ليازيل بتجربة مختلفة، فطلبت من هارنين المجيء.
وقد لبّى الدعوة بسرور، وها هو هنا.
“ليازيل ، هذا صديقي.”
” مرحبًا ، أنا هارنين أيتها الصغيرة.”
لم تستطع ليازيل أن تزيح عينيها عن شعره الأخضر الطويل.
“هل هارنين جنية؟”
“ماذا…؟”
ضحكت فيلوميل على سؤال ليازيل البريء.
“هارنين ليس جنية، لكنه صديق للجن، لو طلبتِ منه، ربما يريكِ واحدًا.”
“أرني الجنية، من فضلك!”
“هه، تعالي إذن، أيتها المشاغبة، اليوم سأجعلكِ تحظين بذكرى لا تُنسى!”
“وااه!”
“وأنا أيضًا!”
ركضت صوفيا خلفهم بحماس، وفيلوميل لم تستطع كتمان ضحكتها.
“كما توقعت، هذا الثلاثي يتفاهمون جيدًا.”
ربما لأن أعمارهم الروحية متقاربة، فقد انسجموا بسرعة.
ابتسم كايين وهو يرافق فيلوميل إلى العربة المنتظرة.
“يبدو أنهم سيقضون وقتًا ممتعًا.”
“نعم، أعتقد ذلك.”
ضحكت فيلوميه وهي تتذكر ليازيل وصوفيا وهما يركضان خلف هارنين بمرح.
بعد أن صعدت إلى العربة وجلست قبالة كايين، لاحظت البروش المعلّق على صدره.
“ارتديته مجددًا؟”
“نعم.”
من المعتاد في الأوساط الأرستقراطية ألّا يرتدي الشخص نفس الحلي مرات متتالية.
حتى السيدة بونيتا، رغم ديونها الكثيرة، كانت تحرص على تغيير مجوهراتها وفساتينها باستمرار.
أخذ كايين يتلمّس البروش بلطف.
“أردتُ أن يراه الجميع.”
كانت عيناه ولون البروش بنفسجيًا… وفيلوميل تعلم تمامًا ما يمثّله ذلك البروش بالنسبة له.
فشعرت بحرارة تكسو وجهها.
“أوه، صحيح… هارنين قال إنه وفّر كمية لا بأس بها.”
رغم أن لفافات الأرواح لم تُطرح رسميًا بعد، فإن هارنين كان يصنع منها سرًا منذ مدة، حتى جمع عددًا كبيرًا.
وكانت خطة كايين منذ البداية ألا يطرح كمية كبيرة دفعة واحدة، لأن قلة العدد وارتفاع السعر يُثيران شغف الناس.
“هذا جيد، ربما نبدأ الطرح خلال أيام.”
“هل كان تفاعل الناس أفضل مما توقعنا؟”
“نعم، الناس يتقبلون الأرواح أسرع مما كنا نتخيل.”
فاللطافة، في نهاية المطاف، أكثر جذبًا للقلوب من الجمال أو الوسامة.
وتصاميم الأرواح اللطيفة كانت قد بدأت تحتل القلوب بسرعة.
“من الأفضل أن نبدأ قبل أن أغادر.”
“أجل، من الأفضل فعلًا.”
همست فيلوميل:
“لم يتبقَّ الكثير من الوقت.”
لم يبقَ على ذهاب كايين إلى الشمال سوى أسبوع تقريبًا.
رغم أنه مضى شهر منذ إعلان قراره، إلا أنه بدا وكأنها سمعته لأول مرة قبل أيام فقط.
“هل… تمانعين ذهابي؟”
نظرت فيلوميل إليه.
كان يحدّق بها وهو يبتسم مازحًا، وذراعاه متشابكتان.
ابتسمت هي أيضًا وهزّت رأسها بخفة.
“نعم، بالتأكيد لا أحبذ ذلك.”
“هاه؟!”
لم يكن كايين يتوقع منها جوابًا صريحًا، فحدّق بها باندهاش.
“حين تغادر، سأشعر بالوحدة، أعلم أنك ستزورنا من حين لآخر، لكنني… سأقلق أيضًا.”
اعترفت فيلوميل أخيرًا لنفسها، لقد أصبحت تعتمد على كايين كثيرًا.
كان شخصًا يعتمد عليه، بل يستحق أن يُعتمد عليه.
“وبالمناسبة، أعلم أنك تعمّدت إعطائي مهام ربة المنزل عن طريق مادونا.”
التعليقات لهذا الفصل " 64"