الحلقة ثلاثة وستون.
ما إن رأت فيلوميل ذلك المشهد الظريف الذي لا يمكن مقاومته، حتى انحنت بسرعة.
بينما كانت مغمضة العينين، شعرت بيد الطفلة الصغيرة والدافئة تعبث فوق أذنها بلطف.
“بإمكانكِ أن تفتحي عينيكِ الآن.”
وما إن فتحت فيلوميل عينيها حتى بادرت بالسؤال:
“كيف أبدو؟”
“لا أعلم من الأجمل… أنتِ أم الزهرة!”
ضحكت فيلوميل بصوتٍ عذب عند سماع تلك الكلمات.
ثم ربتت بلطف على كتف كايين.
فهم كايين الإشارة على الفور، وانحنى بدوره، وبدأت ليازيل تضع الزهرة بعناية خلف أذنه.
حين رأت فيلوميل أن الزهرة صفراء اللون، عبثت بزهرتها الموضوعة خلف أذنها.
“هل زهرتي بيضاء إذن؟”
نظرت مجددًا إلى كايين.
كان يبدو وسيمًا بشكل غريب وهو ينحني حتى مستوى الطفلة لتزيّن أذنه بالزهرة.
الزهرة الصفراء التي ظهرت بين خصلات شعره الفضي المتناثر بشكلٍ طبيعي، بدت بارزة للغاية.
التناسق بين ذلك الوسيم البارد والزهرة كان أشبه بلوحة فنية.
“انتهينا!”
“هل تبدو جميلة؟”
“نعم! حتى عمي يبدو أجمل مما توقعت!”
قهقهت ليازيل بمرح.
أمسكت فيلوميل بكتفي ليازيل وأدارتها نحوها.
“ليازيل، أريد زهرة اخرى، هل يمكنكِ أن تشتري لي زهرة أخرى، أيًا كانت التي تعجبك؟”
“حاضر!”
وأسرعت ليازيل تركض نحو بائع الزهور الصغير مجددًا.
“تليق بكِ كثيرًا، يا فيلوميل.”
“وأنت أيضًا، يا دوق.”
“أنا لا يوجد شيء لا يليق بي.”
نظرت فيلوميل إلى كايين الذي كان يمسح ذقنه بتصنعٍ وكأنّه يتأمل نفسه بجدية، لكنه بدا مضحكًا بسبب خصلات شعره التي عبثت بها ليازيل.
ضحكت فيلوميل ومدّت يدها.
كانت تنوي فقط أن تعدّل شعره، لكن حين دققت النظر، لاحظت شيئًا ما عالقًا.
فاقتربت من وجهه لتتحقق منه.
“آه… يبدو أن شعرك تلطخ ببعض حبر الزهور، لا أعلم إن كان سيزول…”
أثناء فركها للمكان بأطراف أصابعها، لاحظت فجأةً نظراته، فرفعت رأسها.
كان القرب بينهما كافيًا لاختلاط أنفاسهما. كايين كان يحدّق بها بدهشة، مندهشًا من اقترابها المفاجئ.
ولم تكن فيلوميل تدرك مدى قربها، ما جعلها ترتبك.
“آآه… آسفة.”
وتراجعت بسرعة قبل أن ينبس كايين بأي كلمة.
أما هو، فأمسك بالمكان الذي كانت تلمسه وعلّق بشرود:
“…لا بأس.”
ثم نظر إلى فيلوميل التي عضت شفتيها بخجل، وأردف:
“اسمعي يا فيلوميل…”
“…نعم؟”
“لا يهمني ما تفعلينه أو تقولينه، كل شيء منكِ مقبول، لذا، لا تفكري في الأمر كثيرًا ولا تترددي في الاقتراب مني.”
لم يكن كايين منزعجًا من تجاهل فيلوميل لمشاعره كل مرة، ما آلمه فعلًا هو أنها أحيانًا تقترب منه ثم فجأة تتراجع وكأنها تخشى أن تُساء فهمها.
“سأبكي من الحزن، فعلًا.”
“ماذا؟”
استدارت فيلوميل بحدة، لكنها لمحت وجهه الطفولي المشرق فأرمقته بنظرة مستنكرة.
“هل تنوي الاستمرار في المزاح؟”
“أنا جاد، كدتُ أبكي.”
ثم انحنى قليلاً وكأنه يدعوها لتتأكد بنفسها.
ترددت فيلوميل قليلاً، لكنها اقتربت بوجهها لترى إن كان حقًا يبكي، وما إن فعلت…
طبع قبلة على خدها.
صوت القبلة الرقيق والشعور المفاجئ بشيء طري يلامس بشرتها جعلها تتجمد في مكانها، ففتح فمها بذهول:
“م-ماذا… كان هذا؟!”
“دلال.”
“من يستخدم الدلال لإشباع رغباته؟!”
“كُشفتُ.”
رفع كايين كتفيه وابتسم بلا خجل.
توردت وجنتا فيلوميل بشدة، فوضعت يديها عليهما وكأن أحدهم قد صفعها فجأة، ولم تستطع سوى التحديق في الفراغ.
أدارت وجهها بسرعة، لكن حمرة وجنتيها كانت واضحة.
أما كايين، فبدأ يفرك أذنه الحارّة بحرارة.
‘آه… مصيبة.’
كان يُقسم أنه لم يكن ينوي تقبيلها.
لكن عندما رأى وجهها البريء المندهش وهو يتفحصه… لم يتمالك نفسه.
كلما اقترب منها، شعر بالسعادة والارتباك في آنٍ معًا.
لو لم يتمالك نفسه أكثر، لربما قبّل شفتيها بدلًا من خدها.
حاول تهدئة دقات قلبه العنيفة.
وفجأة، اخترق الجو خطوات قفزٍ مبهجة من بعيد.
“فيلوميل! عمي! انظرا أي زهرة أحضرت!”
ركضت ليازيل نحوهم وهي تلوّح بيدها الصغيرة، غير مدركة لجوّ التوتر الذي خيّم بينهما.
في كفّها زهرة ذات شكلٍ نادر، وسطها أصفر وأطرافها بيضاء.
“قالوا إن بعض الزهور تتفتح بهذا الشكل أحيانًا، أليست رائعة؟!”
أعجبت فيلوميل بالزهرة ونسيت ما حدث منذ قليل.
“رائعة فعلًا! وكأنها دمج للزهرتين اللتين أحضرتهما سابقًا.”
“أحسنتِ الاختيار.”
ثم حمل كايين ليازيل فجأة.
“آه؟!”
“هيا، أغمضي عينيكِ.”
أخذت فيلوميل الزهرة من يدها.
أدركت ليازيل ما ينويان فعله، فأغمضت عينيها بقوة، ووضعت فيلوميل الزهرة خلف أذنها.
ولأنها بدت ظريفة وهي مغمضة العينين، ضغطت فيلوميل خدها بخد ليازيل برقة.
ففتحت الصغيرة عينيها باندهاش.
ضحكت فيلوميل وهي تحدّق في عينيها المستديرتين.
“تبدين رائعة يا ليازيل.”
“وأنا؟ يا فيلوميل؟”
مدّ كايين وجهه إليها مغمض العينين، فما كان منها إلا أن ضغطت بإصبعها على جبينه وأعادته مكانه.
تنهّد كايين بخيبة وهو ينزل ليازيل.
ثم أمسكت الصغيرة بأيدي فيلوميل وكايين معًا، ووجنتاها مورّدتان.
“أريد أن آكل شيئًا آخر!”
“حسنًا، سنأكل كل ما ترغبين به.”
“لكن لا يجب أن تفرطي، سنأكل العشاء لاحقًا يا ليازيل.”
“في مثل هذا اليوم، يجوز أن نأكل ما نشتهي!”
“صحيح! عمي الغبي، ألا تعلم ذلك؟”
“خلال سبعة وعشرين عامًا، لم يُنادني أحدٌ بالغبي، يا ليازيل.”
تجاهلت فيلوميل وليازيل تعليقه ببساطة.
قهقهت ليازيل، وبادلها الاثنان الابتسام.
كان المشهد الذي جمعهم وهم يسيرون معًا، يتبادلون الأحاديث والضحكات، لا يختلف عن مشهد عائلة دافئة بكل تفاصيلها.
***
الشمال
مع اقتراب الشتاء، اشتدّ البرد في الشمال الذي اعتاد على تساقط الثلوج طوال العام.
رجل في منتصف العمر بجسد ضخم يفوق حتى أجساد الفرسان، كان يقف متحديًا الرياح القارسة، ملفوفًا بفراءٍ كثيف.
“سيدي ثيودور.”
استدار ثيودور حين ناداه أحد مرؤوسيه.
توهّجت عيناه البنفسجيتان بحدة.
رغم سنّه، كان ثيودور لا يزال رجلًا وسيما، وزادته الندبة الطويلة في وجهه ونظراته الحادة هيبةً وقوة.
“ما الأمر؟”
“السيدة ناتاشا تطلب عودتك حالًا.”
وما إن سمع اسمها حتى تلطّف وجهه فجأة.
“زوجتي؟”
“نعم.”
لم يكن غريبًا أن يُعرف دوق ويندفيل السابق ببروده وصرامته، لكنه كان يبتسم بصدق كلما ذُكرت ناتاشا.
“حسنًا، يجب أن أعود إذًا.”
لكن رغم قوله هذا، كانت عيناه تتجهان مرارًا نحو ما وراء السهول الثلجية.
حاول تابعه أن يرى ما الذي يحدّق فيه سيده، لكنه لم يرَ سوى طبقات كثيفة من الثلج.
ومع ذلك، كان يعلم جيدًا ما يرقد تحت تلك السهول.
لذا لم يُلحّ عليه.
“هل تود إجراء جولة استطلاعية إضافية؟”
منذ مجيئه إلى الشمال قبل سنوات، لم يُفوّت ثيودور جولة تفقد واحدة، كل يوم، مرتين، كان يتفقد الثلج.
“لا حاجة، لقد استطلعتُ بما يكفي.”
شدّ ثيودور لجام فرسه وأداره.
تراجع التابع بسرعة حين نفث الحصان الضخم أنفاسه.
أحصنة الشمال تطورت لتنجو في بيئتها القاسية، فَكبر حجمها، واشتدت عضلاتها حتى غدت لحومها صلبة لا تصلح للأكل، وجلودها خشنة وسميكة.
كان حجمها ضعف الأحصنة العادية، وما زال من الصعب التعود عليها.
وقبل أن يصل إلى القلعة التي بدأت تظهر في الأفق، لاحظ ثيودور حدوث أمرٍ ما.
ارتفعت صرخات.
“كاي!”
“نعم، سيدي!”
استدار كاي، تابعه، وانطلق نحو مصدر الصوت.
قبل فترة، ظهر نوع جديد من الذئاب المتطوّرة.
أسنانها صارت أكثر سمكًا، وأجسادها أنحف وأكثر خفة، وفكوكها أقوى.
ورغم اتخاذهم الاحتياطات بعد وفاة اثنين من سكان الإقليم بسببها، إلا أن الذئاب ما زالت تجرؤ على الاقتراب من القلعة.
“أنقذوني!!”
تعالى صراخ مرعب، تبعته أصوات تمزق لحم.
توقف ثيودور وكاي.
إلى جانب شخص فاقد للوعي، كان هناك جثمان ممزق إلى شطرين، يتجمد في الثلج.
ومن بين العاصفة الثلجية، ظهرت هيئة ضخمة تتحرك.
كانت منشغلة بالتهام الجثة، ولم تلاحظ قدومهم بعد.
وفجأة…
كياااااه.
صرخة مروعة اخترقت السكون.
واستدار الكائن، ليظهر بوضوح.
عينان حمراوان.
وحش.
التعليقات لهذا الفصل " 63"