الحلقة واحد وستون.
“نعم.”
جاء الرد من كايين دون تردد، ومع ذلك، لم تبدُ الدهشة على وجه ليازيل، ولا الارتباك.
كانت واثقة من الأمر منذ البداية، فهزّت رأسها مؤيدة:
“كنتُ أعتقد ذلك.”
“هل كان واضحًا؟”
“أجل، هل كنت تظن أنك أخفيت الأمر؟”
“لا، كنت أقصد أن أجعله واضحًا.”
ضيّقت ليازيل عينيها ونظرت إليه بشكّ.
“لكن، فيلوميل تبدو متوترة جدًا حيال ذلك.”
“هذا بالضبط ما أريده… أن تتوتر.”
“لماذا؟ هل رفضتك فيلوميل؟”
تذكّر كايين ما قالته له فيلوميل عندما اعترف لها بمشاعره.
كان الأمر أقرب إلى الرفض من القبول، وإن لم يكن رفضًا قاطعًا، لكنه قرّر أن يعتبره تعليقًا مؤقتًا، طالما أنها لم ترفضه صراحة.
فهزّ رأسه نافيًا:
“لا، لم ترفضني.”
“هل قالت إنها بحاجة للتفكير؟”
“شيء من هذا القبيل.”
فكّرت ليازيل في ردّه المتردد قليلاً.
لقد لاحظت منذ أيام أن الأمور بين كايين وفيلوميل غير طبيعية، كايين يتصرّف كمن يُغازل، وفيلوميل تتجاهل تصرفاته عمدًا.
“لكن، ألم تقُل الكتب إن الزواج يجب أن يكون بين من يحبّان بعضهما؟ أنتما ستتزوجان، أليس كذلك؟”
تذكّر كايين في تلك اللحظة أن ليازيل، رغم ذكائها، ما زالت طفلة في العاشرة قضت نصف عمرها في الغابة، بريئة وبعيدة عن تعقيدات العالم.
لم يستطع أن يخبرها: “ليس كل زواج في هذا العالم مبنيًّا على الحب.”
فأعمل عقله سريعًا، ثم قال:
“……………نحن في مرحلة الخطوبة وإذا أحببنا بعضنا، سنتزوّج.”
“إذًا، عليك أن تبذل جهدًا أكبر، أليس كذلك؟ فأنت تحبّها، لكن هي لا.”
وقف كايين عاجزًا عن الردّ على صراحتها المفاجئة.
“…ظننت أن هناك شخصًا واحدًا فقط لا أستطيع مجاراته في الحديث، يبدو أنهما اثنان الآن.”
كلاهما خصمان عنيدان.
وها هو كايين يتجرّع مرارة الهزيمة مرة أخرى من حيث لم يتوقّع.
ثم نظر إلى ليازيل.
“هل تحبّين فيلوميل؟”
“أجل.”
أجابت فورًا، دون أي تردد.
“ولماذا تحبّينها؟ لأنها أزالت ألمك؟”
فكّرت ليازيل قليلاً قبل أن تجيب:
“في البداية، نعم…”
في البداية، شعرت بالامتنان أكثر من الحب كانت خائفة من الألم، فاقتربت منها والتصقت بها بدافع الحاجة للأمان.
وكانت فيلوميل دائمًا تحتضنها بلطف، وتمنع كايين من إبعادها.
وبمرور الوقت، باتت لمسة فيلوميل المليئة بالدفء والطمأنينة جزءًا محبّبًا لها.
“لكن بعدها، بدأت أحبّها لشخصها، إزالة الألم أصبحت مجرد إضافة، ليست السبب.”
كانت فيلوميل شخصية فريدة.
في السابق، كانت ترى كايين أغرب من عرفت، لكن فيلوميل تجاوزته.
“وأنت، لا تحبّ فيلوميل لأنها مناسبة لك، صحيح؟”
“صحيح.”
أومأ كايين برأسه.
“نفس الشيء هنا، لا أعتقد أن هناك سببًا واحدًا فقط يجعلنا نحبّ شخصًا ما، لكن، لماذا تسألي؟”
“فقط، كنتُ فضولية.”
“اذًا ، لِما تُحب فيلوميل يا عمي؟”
سؤالها جعله لأول مرة يتأمل مشاعره الحقيقية.
لم يكن قد أحبّ من قبل، لم يكن لديه ماضٍ من قصص الحب أو الاهتمام، لم يكن رافضًا للحب، لكنه ببساطة لم يكن مهتمًا.
كان يؤمن أن اللقاء الحقيقي سيأتي مع القدر، لذا لم يسعَ إليه، ولم ينتظره.
رغم كل محاولات سباستيان ومادونا لإقناعه، ظلّ غير مبالٍ.
بمعنى ما، كان كايين يؤمن بالمصير.
وعندما أخبرها بذلك، عقّبت ليازيل بجملة واحدة:
“عمي، أنت رومانسي أكثر مما توقّعت.”
لو سمع هذا الكلام قبل أشهر، لضحك ساخرًا.
لكن الآن، بعد لقائه بفيلوميل، لم يستطع الرد إلا بابتسامة عاجزة.
“يبدو أنني كذلك.”
راقبته ليازيل للحظة، ثم أضافت بهمس:
“لكن، بالمناسبة…”
في تلك اللحظة، انفرج الستار عن غرفة القياس.
فيلوميل خرجت مرتدية فستانًا يشبه ما ترتديه ليازيل، لكن بطول مختلف، اللون الأخضر الذي زُيِّن به الفستان كان يتناغم بشكل مذهل مع لون عينيها.
“أعتقد… أن فيلوميل تحبّك أيضًا.”
كان كايين يحدّق بها دون أن يرمش، لم تُبعد عينيها عنه، ثم لوّحت له وهي تبتسم.
“لهذا السبب، عليك أن تبذل جهدًا أكبر.”
***
وقفت فيلوميل أمامهما.
“كيف أبدو؟ هل يناسبني؟”
“جميلة جدًا، فيلوميل!”
قفزت ليازيل بسعادة نحوها، وعيناها تتألّقان. ثم بدأت تتنقّل بنظرها بين فستانها وفستان فيلوميل.
“هذا…؟”
“نعم، نفس التصميم.”
احمرّت وجنتا ليازيل خجلًا وسعادة.
“يا إلهي… أن أرتدي فستانًا مثل فيلوميل… أنا سعيدة جدًا!”
أمسكت بيدها وسحبتها أمام كايين، الذي كان ما يزال في عالمه الخاص يراقبها بذهول.
“عمي، ما رأيك؟ أليست جميلة؟”
ابتسمت فيلوميل بخجل، وهمّت بالاعتراض:
“ليا- ليازيل، لمَ هذا السؤال المفاجئ للدو..”
“جميلة.”
قاطعها صوت كايين العميق.
كان يحدّق في عينيها، ثم أكمل:
“جميلة جدًا.”
“………”
وفجأة، تذكّرت كلماته:
“أحيانًا، الكلمة القصيرة تكون أصدق من الكلام المطوّل.”
ولعلّ هذا ما كان يفعله الآن، كل كلمة نطق بها كانت مشحونة بالصدق، بلا ذرّة كذب.
“جميلة.”
ظلّ يرددها وهو يحدّق فيها، حتى اضطربت أهدابها وأشاحت بوجهها بصعوبة.
لكن نظراته كانت تحرق خدّيها.
ضحكت فيلوميل بتوتر، ولوّحت بيدها محاولة كسر الموقف:
“من قال إنك تكذب؟ فهمتُ، لا داعي لتكرارها، هيا بنا، ليازيل لا بد أن تكون جائعة.”
أمسكت بيد ليازيل وغادروا معًا صالون بوتييه، متجهين إلى مطعم كان من أشهر مطاعم العاصمة.
مطعم عريق، يتطلب الحجز فيه الانتظار لأشهر، ورغم غلاء أسعاره، فإن ندرة حجوزاته صنعت منه تجربة فاخرة يستحقها المميّزون فقط.
ولأنه معروف، حتى فيلوميل التي لا تهتمّ بهذه الأشياء كانت قد سمعت به.
لكن الغريب أن المطعم، على عكس المتوقع، كان شبه فارغ.
رغم قلة الضيوف الذين يُسمح لهم بالدخول، فإن العاملين كانوا جميعهم بانتظارهم.
“هل استأجرته بالكامل؟”
أخذ كايين معطف فيلوميل بيده وسلّمه للموظف، ثم أجاب بهدوء:
“نعم.”
جلست ليازيل على الكرسي الذي سحبه لها، فيما جلست فيلوميل بينهما كالمعتاد.
“الهدوء أفضل من الضجيج، أليس كذلك؟”
حاولت فيلوميل أن تتخيّل المبلغ الذي دفعه لاستئجار هذا المكان، لكنها هزّت رأسها في النهاية.
فأموال دوقية ويندفيل كثيرة بما لا يجعل هذا نوعًا من الترف.
“ألم تسمعي بهذه المقولة القديمة؟ حتى لو أفلس الدوق ويندفيل ، فَهو لا يزال أغنى من العائلة المالكة..”
غمز لها كايين مازحًا.
“أنتِ تعرفين جيدًا حال أملاكنا.”
فيلوميل كانت قد بدأت عملها كمضيفة بقراءة التقارير المالية الخاصة بالدوق فقط.
وقتها، أدركت أن ويندفيل ليست مجرد دوقية ثرية… بل كيان يمكنه دعم ثلاث إمبراطوريات إن أراد.
لو لم تكن تعرف ذلك، لربما رأت في ما فعله نوعًا من التبذير، لكن الآن، فهمت أنه لم يكن شيئًا يُذكر.
بعد أن طلبوا الطعام، وصلهم مقبلٌ خفيف.
“كلي جيّدًا، ليازيل.”
“نعم!”
“دوق، هل نذهب إلى الساحة بعد الأكل؟ قلت إن الفعالية بدأت منذ أيام، وأريد رؤيتها.”
كان كايين قد ذكر لها مشروع “تحسين صورة الأرواح” الذي انطلق منذ ثلاثة أيام. ورغم أنها اطّلعت على تفاصيله مسبقًا، إلا أنها أرادت رؤيته بعينيها.
“الساحة!؟”
سألت ليازيل بحماس، وهي تمضغ مقبّلاتها.
التعليقات لهذا الفصل " 61"