الحلقة الستون.
“كما أنّ هناك رسالة وصلت.”
أخرجت رئيسة الوصيفات الرسالة من داخل ثوبها.
كانت الرسالة مطوية بطريقة فريدة وغريبة.
تركيبتها معقّدة، لدرجة أنّ من لا يعرف طريقة فتحها قد يمزّقها عن غير قصد وهو يحاول فتحها.
ولم تكن الإمبراطورة قد أخبرت حتى رئيسة وصيفاتها التي قضت معها عَقود بكيفية فتحها.
ارتسمت على وجه الإمبراطورة ابتسامة مشرقة حين رأت الرسالة.
وبينما بدأت بفك طيّاتها، بدأت الأجزاء الخارجية تتمزّق واحدة تلو الأخرى، ليظهر مضمونها تدريجيًا.
وقبل أن تفتحها بالكامل، استدارت لتنظر إلى رئيسة الوصيفات.
انحنت بانضباط كما فعلت حين دخلت.
“أحسنتِ، يمكنكِ الانصراف.”
“نعم، جلالتكِ.”
وما إن خرجت الوصيفة، حتى انفجرت الإمبراطورة ضاحكة، وقد غمرها الرضا بعد قراءة الرسالة.
وفي جناحها الهادئ، حيث لا صوت يُسمع، علا صوت ضحكتها وحده.
***
بعد عدّة أيام، نقل كايين إلى فيلوميل انه عُثر على ايمون مغشيًا عليه في إحدى الحانات بواسطة فرسان القصر الإمبراطوري.
“في حانة؟!”
“أجل، يبدو أنه كان يعيش على الشراب فقط.”
“وماذا حدث بعد ذلك؟”
“ترى، هل تخلى عن حقه في الإرث أم لا؟”
تأمّلت فيلوميل قليلًا قبل أن تجيب:
“لا أعتقد أنه تخلى عنه.”
“إجابة صحيحة.”
“كما توقعت… لطالما كان يتغنّى يوميًا بأنه أفضل من شقيقه.”
شخص مثل إيمون لا يمكن أن يُفوّت فرصة كهذه.
لم يكن مهتمًا بحسابات عائلة الماركيز كيبان، وربما لم يقرأ حتى أوراقها المالية، وبعد أن سُجن شقيقه بتهمة تعاطي المخدرات وترويجها وسُحبت منه خلافة العائلة، فلا بد أنّ إيمون رأى فيها فرصته الذهبية وانقضّ عليها.
“غالبًا سيصدمه الواقع بعد أن يرث كل شيء.”
“وقد يبكي طالبًا التراجع.”
“……لا أظن.”
“دوق، أنت تميل إلى المبالغة في تقدير الناس.”
لا بد أنّ لديه حدًا أدنى من التوقعات لما ينبغي أن يفعله الآخرون، وغالبًا، كان يقيسهم على نفسه.
لكن معاييره كانت مرتفعة جدًا.
“صحيح… بالنظر إلى سجل إيمون كيبان، تبدو فكرتكِ منطقية تمامًا.”
فرك كايين ذقنه وهزّ رأسه بتفكير.
فقد واجه من قبل شخصيات مثل ناديا، وجرّب التعامل مع إيمون أيضًا، ومع خبرته مع الأسوء، لم يكن من الصعب عليه تصديق ما تقوله فيلوميل.
“على أيّ حال، يجب أن تُحسن التصرّف معه.”
“……هل يجب أن أسمع ذلك أيضًا؟”
“نعم.”
أمام إصرارها الجاد، بدت على وجه كايين علامات الامتعاض.
“يجب أن تفعل كل ما قلته لك.”
“فيلوميل، أحيانًا تكون الكلمات القليلة أصدق من الإطالة.”
“لكن إن كانت الكلمات الطويلة قوية أيضًا، فهي أكثر صدقًا.”
“…………أنتِ الشخص الوحيد الذي لا أستطيع أن أغلبه في الجدل ، لهذا أحبك.”
“يا لها من مجاملة، يا سيدي الدوق.”
ابتسمت فيلوميل بخفة وكأنّها لم تتأثر، لكنها شعرت بسعادة داخليّة.
وفي تلك اللحظة، انسدلت الستارة أمامهما لتكشف عن ليازيل.
كانت ترتدي فستانًا يصل إلى ما تحت ركبتيها بدلًا من فساتينها الطويلة المعتادة، رُبط عند الخصر بشريط أخضر، وكان كُمّاه منتفخان بنعومة.
الفستان الأبيض مع لمسات خضراء جعله يبدو عمليًا ومليئًا بالحيوية.
بكلمة: صُنع لـ ليازيل.
وكان شعرها مربوطًا بنصف رفعة، يتماشى تمامًا مع طلّتها.
“ما رأيكما؟”
سألت ليازيل بابتسامة خجولة وهي تمسك بطرف الفستان وتدور بدلال.
“واااو، ليازيل! تبدين جميلة جدًا!”
هتفت فيلوميل بإعجاب، ثم نغزت كايين بمرفقها.
“ما رأي الدوق؟”
“………ليازيل، تبدين رائعة، لم أرَ في حياتي أحدًا يناسبه هذا الفستان مثلك، كأنّه صُنع من أجلك.”
قال كايين كل ما لقّنته إياه فيلوميل، ثم أدار وجهه بعيدًا.
كانت قد استدارت بالكامل وأعطته ظهرها، وكانت كتفاها تهتزّان بخجل.
رمقتها ليازيل بنظرة سريعة ثم اقتربت من فيلوميل وهمست:
“فيلوميل، عمي يتصرّف بغرابة… ما به؟”
“ففف…!”
كانت فيلوميل تحاول كتم ضحكتها، لكنها لم تستطع، فانفجرت ضاحكة.
عندها، غطّى كايين وجهه المحمرّ بيده.
وعضّ شفته وهو يتمتم:
“لهذا قلت إنني لا أريد أن أفعلها…”
“آه، آسفة، لم أضحك، صدقني.”
ردّت فيلوميل بصوت متقطع بين الضحك، رغم امتلاء وجهها بالبشاشة.
صحيح أنها درّبته على ما سيقوله، لكنها لم تتوقع أن يبدو بهذه الغرابة وهو يحاول، فكان المشهد أطرف مما تخيّلت.
ثم نَظرت إلى ليازيل وابتسامة لطيفة ما زالت تعلو وجهها.
“عمك أراد أن يمدحك، لكنه لم يعرف كيف، فطلب مساعدتي، لو لخّصنا ما قاله: لقد بدوتِ رائعة وجميلة جدًا.”
“وهل فيلوميل تظنّ ذلك أيضًا؟”
“طبعًا.”
أومأت فيلوميل وهي تساعدها على تسوية خصلات شعرها المتناثرة.
“تبدين كالملاك.”
“هيهي.”
ضحكت ليازيل بمرح.
“أليس الخروج هكذا ممتعًا؟”
“بلى، أتمنى أن نخرج مرة أخرى قريبًا!”
عادةً، كانت مدام صالون بوتييه هي من تأتي إلى دوقية ويندفيل عند الحاجة.
حتى لشراء ملابس ليازيل، كان الوضع كذلك.
لكنها الآن كبرت بسرعة، وكان لا بد من استدعاء مدام بوتييه كل فترة لتعديل ملابسها.
ومع ذلك، رأت فيلوميل أنّ من الجيد أن تحصل ليازيل على تجربة مختلفة مرة واحدة على الأقل.
وإن كانت هذه التجربة تجمعها مع كايين، فقد يزيد ذلك من تقاربهما.
لذا، قررت فيلوميل اصطحابهما بنفسها إلى صالون بوتييه.
كما اقترحت على كايين أن يتفاعل بطريقة مميزة لتقوية الرابط… فحدث ما حدث.
“هل أحببتِ هذا الفستان؟ هل تودّين ارتداءه للخروج؟”
“هل يمكنني؟”
“بالطبع.”
أن ترتدي الفتاة فستانها الجديد فورًا هو أحد متع التسوق.
“هذا أنسب شيء للحركة، مريح جدًا.”
“ألستِ تشعرين بالبرد من عند ساقيكِ؟”
“الجواريب سميكة، فلا أشعر بشيء.”
“حسنًا، إذن لنرتدي المعاطف.”
“نعم!”
أجابت بحيوية، ثم عادت إلى الداخل لتلبس معطفها.
أثناء ذلك، نهض كايين من مقعده وأخذ يتفحّص الملابس التي أحضرتها موظفات الصالون لِـ ليازيل.
“أرسلي كل ما أحضرتِه حتى الآن إلى الدوقية.”
ابتسمت المدام بانشراح وانحنت:
“أمرك، يا سيدي الدوق.”
ثم التفت كايين إلى فيلوميل.
“فيلوميل، ألا تريدين شيئًا؟”
“لدي أكثر مما يكفيني.”
“قولي هذا مجددًا، وسأشتري كل ما في المتجر.”
لطالما حلمت في حياتها السابقة بأن يلقي إليها أحدهم بطاقة سوداء ويطلب منها الإنفاق بلا حدود.
والآن، وقد أصبحت في هذا الموقف…
“رائع.”
رائع أكثر مما كانت تتخيّل.
أشارت فيلوميل إلى شيء ما.
“إذن، أريد هذا.”
“هو نفسه الذي كنتِ تنظرين إليه منذ قليل، أليس كذلك؟”
كما قال كايين، كان ذلك ما جذب انتباهها.
كان طقمًا مماثلًا لفستان ليازيل.
نظر كايين إليهما بنظرات متبادلة، ثم أشار بيده.
اقتربت الموظفات حاملات الفستان.
“اذهبي وارتديه، أظن أن إطلالتكما ستكون أجمل معًا.”
رافقت الموظفات فيلوميل بلطف إلى غرفة تبديل الملابس.
وبينما كان كايين ينتظر، حرّك قدميه بتأمل.
رغم أنه لم يكن يفعل شيئًا، لم يشعر أنّ الوقت يُهدر.
لطالما كانت أيامه مليئة مزدحمة بتنظيم صارم، ولم يشعر يومًا أن ذلك عبء.
لكن بعد لقائه بفيلوميل، وبعد أن أصبحت ليازيل ضمن الدوقية، أدرك أن قضاء الوقت بلا هدف كبير ليس أمرًا سيئًا.
ففي الماضي، كان ليستغل هذا الوقت في مراجعة الوثائق.
أما الآن، فقد تعلّم كيف يستمتع بلحظات الفراغ.
“آه؟ اين فيلوميل؟”
سألت ليازيل بعد أن خرجت مرتدية معطفها، ولم تجد فيلوميل.
“هناك.”
وأشار كايين بذقنه نحو غرفة الملابس.
اقتربت ليازيل منه وجلست بجواره، ثم قالت بتردد وهي تعبث بأصابعها:
“شكرًا على الملابس، يا عمي.”
“على الرحب والسعة.”
“وأعلم أن ما قلته لي كان من قلبك… فقط كنتُ متفاجئة.”
“……أفهم ذلك.”
ثم سألت بصوت خافت:
“عمي، هل تحب فيلوميل؟”
التعليقات لهذا الفصل " 60"