الحلقة التاسعة والخمسون.
“ميل التي جلبتها، وأطعمتها، وألبستها… ميل التي تخصني وحدي.”
كان الشيء الوحيد الذي اختاره بإرادته طوال حياته.
كان ويستون مهووسًا بها، رغم أنها لم تعد موجودة في هذا العالم، وكعادة اعتادها، أغلق عينيه واستحضر صورتها.
شعرها البني الداكن، نظراتها، ابتسامتها، عينيها…
لكن، لماذا…
“أحيّي المجد الثالث لمملكة بيرنيوم .”
توقف ويستون فجأة، وفتح عينيه.
لماذا خطيبة كايين هي من خطرت بباله؟
“فيلوميل بونيتا…”
تمتم باسمها ببطء.
توقفت العربة عند تلك اللحظة، كانوا قد وصلوا إلى القصر.
حين فُتح باب العربة، حيا ويستون السائق بإيماءة قبل أن يترجّل منها.
“سمو الأمير الثالث، لقد عدت.”
انحنى كبير الخدم أمامه.
“ألست نائمًا بعد؟”
“كيف لي أن أنام وسموّك لم يعود بعد؟”
ابتسم ويستون بلطف.
“لقد عدت بخير، فاذهب لترتاح، لقد تأخر الوقت.”
“لكنك أجزت جميع الخادمات، لا بأس بأن أبقى أنا لخدمتك.”
عندها فقط تذكّر ويستون أنه أمر بإعفاء الخادمات قبل مغادرته القصر.
“إذن، أعتذر، لكن سأعتمد عليك الليلة.”
وبينما كانا يسيران نحو الجناح، استمرّا في الحديث.
“هل جاءت والدتي لرؤيتي؟”
“كلا، لم تأتِ أي رسالة من جناح الملكة.”
كان ذلك أكثر الأسئلة التي يطرحها ويستون، والإجابة لم تتغيّر يومًا، ولم يبدُ عليه خيبة الأمل حيال ذلك.
“هل من جديد من جناح الملكة؟”
كان ويستون يدرك منذ وقت طويل أن صحة الملكة ليست على ما يرام، لذا كان لديه عيون موثوقة داخل الجناح.
“لا شيء خاص، لكن… هناك خبر.”
توقف ويستون عن المشي.
“ما هو؟”
“قيل إنها في الآونة الأخيرة… استعادت نشاطها.”
استعرض ويستون بسرعة في ذهنه كل ما يتعلق بكايين.
لكن الشتاء كان وشيكًا، وكان النبلاء جميعهم يعيشون فترة هدوء، وعائلة دوق ويندفيل لم تكن استثناءً ، فهي، في الأصل، عائلة هادئة قلّما يحدث فيها أمر يُذكر.
الدوقان السابقان نزلا إلى الشمال ليقضيا ما تبقى من حياتهما بسلام، ولم يكن لكايين أي أخ غير شرعي قد ينافسه على مكانته.
وإن كانت هناك فترة ضجّت فيها أخبار عائلة ويندفيل، فهي هذا العام فقط، في الخريف، حين أعلن كايين فجأة عن خطوبته.
وحيث إن الإمبراطور قد صادق على الخطوبة، فكان بمثابة زواج فعلي، أما الحفل، فقد تقرر إقامته في الربيع المقبل على نطاق ضيّق، لكن حفلة الخطوبة كانت فخمة بكل المقاييس.
بكلمة، كان هذا العام عام الخير لعائلة ويندفيل.
وكان العمر المتأخر ‘سبعة وعشرون عامًا’ هو الشيء الوحيد الذي عُدّ نقصًا لدى كايين، وقد تم تجاوزه.
وهنا يكمن الغرابة.
لم تكن الملكة مبتهجة أو ذات شهية إلا حينما يقع أمر سيئ لعائلة ويندفيل أو ولي العهد.
وحتى ولي العهد لم يصله سوى أخبار سارة مؤخرًا، ما أثار شكوكًا لدى ويستون.
“كبير الخدم.”
“نعم؟”
“تحقق من إن كانت والدتي قد تواصلت مع أحد مؤخرًا، وركّز على تحركات عائلة ويندفيل أيضًا.”
“أمرك.”
وما إن فكّر في كايين، حتى خطرت بخاطره خطيبته.
تردد ويستون، ثم أضاف:
“وأيضًا… خطيبة كايين…”
“سموّ الأمير الثالث!”
صوت مرتفع قاطع حديثه فجأة.
التفت، فرأى فتاة كانت تتسكّع قرب غرفته تهرول نحوه ، رغم عتمة الرواق، كانت خصلات شعرها الأشقر الباهية تلمع، تلك الفتاة كانت ناديا.
“لِما عدتَ متأخرًا هكذا؟ كنتُ في انتظارك.”
كانت ترتدي روبًا فوق قميص نومها الشفاف، وتبدو عليها ملامح العتاب.
سارع ويستون بنزع سترته ووضعها على كتفيها، ثم أشار لكبير الخدم كي ينصرف.
فانحنى الخادم وانسحب بهدوء.
“آنسة ناديا…”
ناديا، التي تمسّكت بسترة الأمير بكلتا يديها، رفعت رأسها بابتسامة خجولة.
“هل أنت بخير؟ لقد فزعتُ حين خرجت دون أن تخبرني.”
كانت ناديا تخشى ويستون في البداية، كيف لا، وهو أمير؟
أن تصادف أميرًا ثم يأخذك إلى القصر… كان ذلك أشبه بالحلم.
لكن لم يُطلب منها أن ترافقه في فراشه، ما زاد من حيرتها.
لكن سرعان ما أدركت الحقيقة:
“لقد وقع في غرامي من النظرة الأولى.”
كان شخصًا رقيقًا لا يفرض نفسه، بل يمنحها وقتًا لتتأقلم.
وعندما استوعبت ذلك، قررت أن تتقرّب منه بنفسها.
لكن حتى وإن كانت وصيفة خاصة، فلم يكن من السهل أن تقابله، والى جانب ذلك كان عليها القيام بمهامها.
ولأن ويستون لم يكن ليستطيع المبادرة بنفسه، كان عليها هي أن تتحرك.
ولم تسنح الفرصة… حتى هذا اليوم.
فقد غادرت العمل مبكرًا بسبب خروجه، وارتدت قميص نومها ومعطفًا خفيفًا، وانتظرته حتى ما بعد منتصف الليل.
لكنها لم تكن تشعر بالتعب.
فهذا هو اليوم الذي كانت ستنال فيه قلب الأمير، أخيرًا.
“هل…أنتِ منزعجة لأنني لم اخبرك؟”
“نعم، ظننتُ أنك ستُعلِمني على الأقل.”
ابتسم ويستون، دون أن يفهم تمامًا مقصدها.
لكنه خشي أن يؤذي مشاعرها، فاكتفى بالابتسام.
“لستَ متعبًا، أليس كذلك؟”
“كلا ، أنا بخير.”
“ألا تودّ قول شيء؟”
“………ماذا تقصدين؟”
أحبطها تردده، لقد بذلت جهدها، فلماذا لم يقترب خطوة؟
“هل عليّ أن أقترب أكثر؟”
لكن، ماذا إن رآني امرأة خفيفة؟
تردّدت.
وكان ويستون متردّدًا هو الآخر.
“هل نسي ما دار بيننا سابقًا؟”
لكن الحقيقة أنه لم يتحدّث معها أصلًا منذ أن أحضرها إلى القصر.
نسي وجودها تمامًا.
فلو كانت هناك محادثة، لتذكّرها، فملامحها لا تُنسى.
لكن إن كان لا يتذكر شيئًا… فلا شك أنه لم يتحدث معها أبدًا.
“آنسة ناديا… يبدو أنكِ قد أسأتِ الفهم، في الواقع، ليس لدي ما أقوله.”
لقد فكّر مليًا.
ناديا، على خلاف المتوقع، كانت هادئة في القصر، ولم تُظهر كراهية تُجاه دوقية ويندفيل.
بل، عندما أحضرها، لم يفكّر كثيرًا.
ناديا ليست سوى ابنة كونت، جميلة، نعم، لكنها لا تمتلك نفوذًا يجعل الملكة تهتم بها.
“بإمكانك العودة الآن.”
“ماذا… ماذا تقصد؟”
كانت تظن نفسها جزءًا مهمًا من خطة الأمير.
فهي جميلة، وكانت مستعدة لإغواء ولي العهد أو كايين، إن تطلّب الأمر.
” انا أكرههم ومع ذلك هل تطردني الآن؟!”
“آنسة ناديا، أرجو أن تهدئي…”
“لا يمكنك فعل هذا! كان عليك أن تستغلني لإغوائهم، ثم تدرك أنك تحبني! أليس هذا قدَرُنا؟!”
قالت ذلك بانفعال، ثم تنبّهت لتوتره، فخفضت صوتها.
“أعدك… سأجعلك الإمبراطور ، سأضحي بنفسي لأجلك.”
“آنسة ناديا، لا تقولوا أمورًا كهذه…”
لم يدركا، وسط حديثهما المتوتّر، أن الباب لم يُغلق بالكامل… وأن شخصًا ما كان خلفه.
الجاسوسة، التي كانت تراقب بصمت، استدارت، واتجهت نحو الحديقة وأطلقت صوت طائر الوقواق.
وفي الموعد المحدد، ظهرت امرأة.
كانت رئيسة وصيفات جناح الملكة.
قصّت الجاسوسة عليها كل ما سمعته، ثم اختفت.
“ناديا أليس…”
همست المرأة بالاسم.
ثم، وصل الاسم إلى الملكة.
“تكره عائلة ويندفيل؟”
“نعم، حسب ما وردنا من تقرير.”
“ممتاز… هذا مثالي.”
ابتسمت الملكة، وقد بدا على وجهها الرضا الكامل.
التعليقات لهذا الفصل " 59"