الحلقة الثامنة والخمسون.
أمال كايين رأسه إلى الخلف وقال مبتسمًا:
“في الحقيقة، نصف ذلك مجرد رغبة منّي حيث ان التلميح أحيانًا يكون فعّالًا جدًا ، ولهذا، من الآن فصاعدًا، سأجعلك تقعين في حبي.”
كانت كلماته تنضح بالثقة.
ثم أمسك بيد فيلوميل ورفعها ليقبّل ظاهرها قبلة خفيفة.
“رجاءً… ليكن الأمر كذلك.”
لم يكن يبحث عن جواب، ولهذا، بعد أن قالها، ترك يدها تنزلق من بين أصابعه.
لمسته كانت مشبعة بالحنين.
ثم غيّر نبرة صوته إلى أخرى أكثر خفة وقال:
“كنت أتمنى أن نستمر في الحديث… لكن أظن أن وقت دخول فرسان القصر الإمبراطوري قد اقترب.”
وما إن أنهى كلامه حتى لفّ ذراعيه حول خصرها ورفعها بين ذراعيه.
“م-مهلًا، سيدي الدوق؟!”
“فقط أغمضي عينيكِ… وستجدين كل شيء قد انتهى.”
ثم… قفز بها من على الشرفة.
كانا في الطابق الثالث.
ارتفاع لا يُستهان به.
لم تستطع حتى أن تصرخ، فقط شهقت وكتمت نفسها وهي تتشبث بعنقه.
رسم كايين ابتسامة باهتة حين شعر بيديها تلتفّان حوله بقوة.
ورغم السقوط، فقد هبط بخفة وهو لا يزال يحتضنها بين ذراعيه.
ثم ما لبث أن غادر القصر بسرعة واتجه نحو العربة.
لكن العربة لم تتحرك بعيدًا.
توقفت عند مسافة قصيرة.
“أنظري هناك، ترين؟”
فتح كايين النافذة، فأطلت فيلوميل لترى أضواء خافتة تمتد على طول الطريق.
“هؤلاء… فرسان القصر الإمبراطوري.”
“إذًا، هل يُحتمل أن سبب حضور الأمير الثالث… هو الإمساك بإيدن؟”
كانت منشغلة بكايين لدرجة أنها نسيت ويستون تمامًا.
تمتمت بهذا لنفسها، فأومأ كايين برأسه.
“الاحتمال كبير جدًا، ما من علاقة بينه وبين عائلة الماركيز كيبان، لذا حضوره لهذه الدعوة أمرٌ مشبوه، بل إيدن الجبان لم يكن ليجرؤ على دعوة أمير أصلاً.”
ثم شاهدوا الفرسان يدخلون إلى القصر.
وبعد رؤيتهم لهذا العدد الكبير، استنتج كلاهما أن الأمر يتجاوز مجرّد حملة على الممنوعات، لا بد أن ويستون نفسه وراء ذلك.
هذا الحجم من القوة لا يمكن تعبئته إلا إن كان لأحد من الأسرة المالكة يدٌ فيه.
“لنعد الآن، كين سيأتي لتقديم التقرير على أي حال.”
ما إن أغلق كايين النافذة وضرب الحائط بخفة، حتى بدأت العربة بالتحرك.
ومع انطلاقها، خيّم الهدوء عليهما.
حاولت فيلوميل تجاهل التوتر الساكن في الهواء، وأخذت تُعيد ترتيب أفكارها.
“إذًا… كايين يحبني.”
لا كملائمة فقط، بل كامرأة، كامرأة تُدعى فيلوميل.
كانت تراقبه بطرف عينها، لكن حين التقت نظراتهما، تفاجأت وارتبكت.
ابتسم لها كايين كأن الأمر لا يعنيه، فحاولت هي أيضًا أن ترد الابتسامة، لكنّها كانت متوترة للغاية، فكلّ ما استطاعت فعله هو سحب زاوية فمها إلى الأعلى بتكلّف، ثم أشاحت بوجهها.
كايين لم يكن من النوع الذي يندم كثيرًا على أفعاله، لكنّه هذه المرة، شعر بمرارة نادرة.
ربما ستتجنّبني لبضعة أيام.
“لكن لا بأس، كان عليّ أن أقولها عاجلًا أو آجلًا.”
كلما نظر إليها، شعر برغبة في تقبيلها واحتضانها.
فكيف لم يكن يستطيع البوح؟ كان صعبًا عليه كبح ذلك أكثر من أي شيء آخر.
وهكذا، قرّر ألا يندم.
وصلا إلى القصر قرابة منتصف الليل.
حين بلغهما أن كين قد عاد، صعدا معًا إلى المكتب.
كان كين واقفًا بصمت حين دخلا، وما إن رآهما حتى خلع ردائه وانحنى بتحية احترام.
“أحسنت، كين، شكرًا على مجهودك.”
“لا شيء يا سيدي.”
رغم أنه قضى أشهرًا في التعامل مع إيدن، إلا أن كين بدأ هادئًا كالعادة.
“ما الأخبار؟”
“تمّت السيطرة على الموقف أسرع مما توقعنا.”
ثم بدأ يسرد لهما ما حصل.
بينما كان النبلاء ثملين ومنغمسين في الحفل، اقتحم الفرسان القصر.
سادت الفوضى للحظة، حتى ظهر ويستون وكشف عن هويته، فهدأ الجو نسبيًا.
ولأن الشراب قد استُبدل مسبقًا، لم يكن يحتوي على أي مخدر.
وبدلاً من ذلك، عُثر على عشرات البراميل الممتلئة بالنبيذ المخلوط بالمخدرات في مخازن إيدن.
ثم، وأثناء البحث عن وثائق تُثبت الجريمة، ظهر شخص غير متوقّع… وساعدهم.
“كبير الخدم؟”
“نعم، الشخص الوحيد في عائلة كيبان الذي ما زال يحتفظ بعقله، وقد تم طرده اليوم تحديدًا، لكنه كان يجمع الأدلة ليسلّمها.”
وبالفعل، سلّم كل الوثائق، مما عجّل بإغلاق القضية.
“الماركيز وزوجته… تم القبض عليهما أيضًا.”
“وماذا عن إيمون؟”
“إيمون كيبان لم يكن في القصر.”
“…حقًا؟”
ضيّق كايين عينيه ثم نظر إلى فيلوميل.
“فيلوميل، إيمون سيكون وريث عائلة كيبان.”
“هل لأنه لم يتعاطَ المخدرات؟”
“مفاجئ، أليس كذلك؟”
أومأ كايين، إيمون هو العضو الوحيد في العائلة الذي لم يلمس المخدرات.
ولذلك، لن يُلقى القبض عليه، وسيرث اللقب والمكانة، رغم أن الإرث ملوّث بالخزي والعار.
“هل لديك خطة لإسقاطه أيضًا؟”
“كنت أنوي ذلك حالما يصبح الماركيز الجديد.”
كان يريد أن ينهار إيمون وهو يظن أنه حصل على كل شيء.
فكّرت فيلوميل للحظة ثم أومأت.
“ربما هذا أفضل بالفعل.”
حين انتهى الحديث، نهضت من مكانها.
“سأذهب الآن.”
“سأوصلك إلى غرفتك.”
“لا داعي، هي بالجوار تمامًا.”
أشارت بيدها بلطف، ورفضت.
فكّر كايين أن يُصرّ، لكنه نظر إلى وجهها… ثم ابتسم باستسلام.
“حسنًا. إلى الغد إذن.”
“تصبح على خير.”
“…وأنتِ كذلك.”
ما إن أُغلقت الباب خلفها، حتى نادى كايين على سيباستيان، وأمره بإرسال الطبيب إليها فورًا.
ثم، حين أصبح وحده تمامًا، مسح وجهه بكفيه وأطلق زفرة ثقيلة.
***
“كل الفضل يعود لك يا صاحب السمو الأمير الثالث.”
ابتسم ويستون في وجه نائب قائد الفرسان.
“كلا، لم أفعل شيئًا، أنتم من بذل الجهد.”
“لولا إشارتك، لما تحركنا على الإطلاق.”
لقد رأى ويستون سابقًا الكونت ديفرا وهو يحاول إقناع نائب قائد الفرسان بوجود أدلة على تورّط عائلة كيبان في تصنيع وتوزيع المخدرات.
لكن نائب القائد بدا مترددًا، فالعلاقة بينهما كانت عدائية، والأدلة لم تكن كافية.
وكان ينوي فقط إرسال تقرير إلى القائد الأعلى، مع تحرّك محدود… حتى ظهر ويستون.
“كلام الكونت ديفرا يبدو منطقيًا بالفعل.”
تدخّل ويستون، وتدخّله غيّر الموازين.
رغم أن ولي العهد يحكم بصلابة، إلا أن ويستون يبقى أميرًا لا يُمكن تجاهله.
نتيجةً لذلك، رُفعت التقارير، وشارك ويستون شخصيًا، بل وتنكّر ليتسلل بنفسه.
“هل يريد زيادة نفوذه؟”
فكر نائب القائد وهو ينحني باحترام.
“اترك بقية المهام لنا، سمو الأمير، لقد تأخر الوقت، ويجب أن ترتاح.”
“أجل، لا تُجهد نفسك كثيرًا، نائب القائد.”
حتى وهو يركب العربة، ظلّ ويستون يحافظ على ابتسامته المهذّبة.
لكن ما إن أُغلقت الأبواب، حتى اختفت الابتسامة… ليحلّ محلّها وجهٌ مُتعب.
أسند رأسه للخلف وتنهد بعمق.
رفع يده، يمرر أصابعه وسط خصلات شعره الذهبي الفاتح، فتبعثر قليلاً.
ثم مدّ يده نحو القناع الذي وُضع بعشوائية داخل العربة، كان قناعًا عاديًا، صُمّم ليختفي وسط الحشود.
لكنّ صورة قناع أبيض آخر ارتسمت في ذاكرته.
“ميل…”
فكر، رغم أن لا شبه بينهما… إلا أن تلك الفتاة تُشبه ميل.
“لماذا أراكِ في ذهني كثيرًا هذه الأيام، ميل؟”
حاول استدعاء ذكرياته القديمة…
“ويستون.”
ميل وحدها كانت تناديه ببساطة، دون تردد.
في البداية، أزعجه ذلك، لكنه سرعان ما بدأ يحبّه.
بجوارها… كان يشعر بأنه حرّ مرتاح.
ولهذا، رغم اعتراض الجميع، أصرّ على أن تبقى بجانبه.
“أنتَ تعيش خلف قناع طوال الوقت.”
كانت تملك حدسًا حادًا.
بعد أيام قليلة فقط، فهمت حالته.
“سأحطم هذا القناع يومًا ما، أعدك.”
تردّد صدى صوتها في رأسه.
أطبق شفتيه بإحكام.
“ومع ذلك… لماذا اختفيتِ فجأة، ميل؟”
لو أنه من أرسلها بعيدًا بنفسه، لما بقي هذا الأثر في قلبه.
لكنها… رحلت فجأة، من دون أثر، من دون وداع.
التعليقات لهذا الفصل " 58"