الحلقة السادسة والخمسون.
لم تبدُ تعابير كايين المتأملة وكأنها تباهٍ، بل كانت جادّة بصدق.
وتلقّت فيلوميل كلماته بالجدية نفسها.
“في النهاية، لا شيء يعجز كايين عنه.”
هو بارع في كل شيء، فلم يكن من المستغرب أن يُولد وهو يُجيد الرقص أيضًا.
“هل صدّقتِني فعلًا؟”
ضحك كايين حين رأى فيلوميل تصدّق كلامه دون أدنى شك.
“لكنها الحقيقة، أليست كذلك؟”
سألته وهي تفتح عينيها اتساعًا في فضول، فأومأ لها بينما ظلّت بقايا ابتسامته تلوّن ملامحه.
“بلى، إنها الحقيقة، موهبة بالفطرة.”
ثم أضاف، وهو ينظر من حوله:
“همم… ما رأيكِ أن ننسحب الآن؟”
لقد حان الوقت لتبديل الشركاء.
أجابت فيلوميل، وهي تدور بخفة بين ذراعيه:
“نعم.”
شعرت بخفّة في جسدها بعد تلك الرقصة، وكأنها نزعت عنها شيئًا ثقيلًا، لقد كان مقدار الحركة مثاليًا… لا كثير ولا قليل، فلم يكن في الأمر ما يُثير الأسف.
لكن حين توقفت عن الحركة ومدّت يدها نحو كايين… وقع ما لم تتوقعه.
“آه، المعذرة!”
اصطدم بهما شخص مترنّح، وارتطم بكايين بقوة، ما أدى إلى أن يفلت يد فيلوميل.
مدّ كايين يده سريعًا نحوها:
“فيل—”
لكن يده قبضت على الفراغ.
“فيلوميل؟”
المكان الذي كانت فيه قبل لحظات… بات خاليًا.
كل ما حصل كان في لحظة خاطفة.
“سيدي الدوق؟”
أما فيلوميل التي أُفلتت من يده، فقد اندفعت وسط الناس، تُدفع دون توقف.
كان الأمر كطفلة تائهة في مدينة ألعاب، تنظر حولها بقلق، عاجزة عن رؤية والدها.
حاولت أن تثبت قدميها، أن تحافظ على توازنها، لكن بلا جدوى.
“أه!”
تشابكت خطواتها بفعل دفعة قوية فسقط توازنها.
في تلك اللحظة، التقطها كفٌّ كبير.
“آه، شكرًا جزي—”
كانت ما تزال تُدير رأسها بحثًا عن كايين حين التفتت أخيرًا لترى من أمسك بها.
عَيْنان ذهبيّتان متألقتان.
عرفتهما في الحال.
لا يمكن أن تُخطئهما.
حتى وإن أصبحت ذكريات ذلك اليوم باهتة… فإن أول ما جذب انتباهها آنذاك، لا يمكن نسيانه.
كانت تلك النظرات الذهبية تحدّق بها بثبات.
خفضت فيلوميل بصرها بسرعة، وانحنت برأسها.
“أشكرك، سيدي النبيل.”
ثم أدارت كتفها برفق لتُحرّر نفسها من قبضة ويستون، الذي كان لا يزال يُمسك بها.
انتبه ويستون فجأة إلى ما يفعله.
“آه… آسف، ظننت أنكِ تشبهين شخصًا أعرفه.”
وسحب يده على الفور.
لكن نظرته نحوها كانت مليئة بالتردد والارتباك.
كانت فيلوميل تفكّر للحظة في نزع القناع لتُعرّف بنفسها رسميًا، لكن هذه الحفلة لم تكن المكان المناسب لمثل ذلك.
وعلاوة على ذلك، عليها أن تجد كايين بأسرع وقت.
رفعت فيلوميل طرف فستانها قليلًا، وانحنت في تحية خفيفة.
“سأُغادر الآن، استمتع بالحفل، سيدي.”
“آه، انتظري…!”
قبض ويستون على معصمها فجأة.
كانت قبضته شديدة، فعبست وجهها من الألم لا إراديًا، لكنها كتمت أنينها وأمسكت بمعصمه بيدها الأخرى.
“سيدي… ما الذي تفعله؟”
قالتها بنبرة حاولت أن تُخفي ما في داخلها، لكن صوتها اهتزّ خوفًا، خشية أن يكون قد تعرّف إليها.
غير أن ويستون بدأ ضائعًا لدرجة أنه لم يلحظ ذلك.
فشعرها لم يكن بلونه السابق، وعيناها كذلك.
حتى ملامح وجهها تغيّرت كثيرًا خلال عشر سنوات، فلم يكن لديه يقين.
ومع ذلك، كان يشعر بشيء يخبره بأن عليه ألّا يتركها ترحل.
“آنسة… هل يمكنني معرفة اسمك؟”
“أليس من الغريب أن تسألني عن اسمي في ظرف كهذا؟”
كانت ما تزال قبضته مشدودة، فتساءلت إن كان عليها إثارة الفوضى لتُفلت منه.
“أرجوك، أطلق سراحي.”
قالتها مجددًا، لكنه لم يُرخِ قبضته.
نظرت حولها، وما إن فعلت ذلك حتى ازداد اضطرابه.
“أخبريني باسمك فقط، أعدك، سأدعكِ تذهبين.”
أدركت فيلوميل أنه لا ينوي تركها وشأنها.
بدأت تفكّر… هل عليها أن تكذب وتمنحه اسمًا وهميًا؟
حين رآها تتردد، خفف من قبضته قليلًا.
وبينما كانت تهمّ بفتح شفتيها…
“عزيزتي.”
جاء صوت ناعم، تبعته ذراع قوية أحاطت خصرها.
لامس قناعٌ بارد خدّها في اللحظة التالية.
“ماذا كنتِ تفعلين هنا؟”
ما إن شعرت بلمسة يده، واستنشقت عطره المألوف، حتى هدأ توترها.
لم ترتبك من قربه، بل رحّبت به.
“أنت هنا؟”
أسندت رأسها إلى صدره، ورفعت نظرها إليه بهدوء.
مرّر كايين أنفه على كتفها، ثم رفع رأسه وهو ينظر إلى ويستون.
“من هذا؟”
“لا أعرفه، فجأة طلب مني أن أخبره باسمي.”
“همم… اسمك..عزيزتي؟”
رغم رقة صوته، كانت نظرات كايين إلى ويستون حادة كالسكاكين.
أفلت ويستون معصمها على الفور.
وضعت فيلوميل يدها الأخرى على معصمها المتألم، وما لبث كايين أن غطّاه براحة يده.
كان دفء حرارته يُخفف الألم وكأنه يذيب التورّم.
“هيا نغادر، هذا المكان مملّ جدًا، ألم أقل لكِ ألا نأتي؟”
استدارت فيلوميل نحوه.
ما إن التقت نظراتها بنظراته، حتى انقبض قلبها.
كان يحدّق في ويستون بعينين كالجليد، لكن أكثر اشتعالًا من النار.
“عزيزي…”
ابتسمت ووضعت يدها على صدره.
“دعنا نغادر ، أنا متعبة.”
“…إن كانت عزيزتي متعبة، فلا بد أن نغادر حالًا.”
ما إن حوّل كايين نظره نحوها، حتى زال الخوف من قلبها.
لفّ ذراعه حول كتفها وأدارها مبتعدًا.
“انتظري…!”
ناداه ويستون بصوت مرتجف، لكن الضجيج ابتلع كلماته.
سار كايين بخطى سريعة، واضطرت فيلوميل إلى الإسراع خلفه.
ولما بدأت تلهث، خفف كايين سرعته فورًا.
“آسف، هل أنتِ بخير؟ هل نرتاح قليلًا، عزيزتي؟”
سألها بنبرة مازحة ليُلطّف الأجواء.
ابتسمت، مدركة أنه يفعل ذلك من أجلها.
“لِم لا، عزيزي؟”
فتح باب الشرفة المجاورة، ودخلا معًا، ثم أسدل الستائر على الفور.
“فيلوميل.”
“نعم؟”
وقبل أن تُدرك ما يجري، حملها كايين من خصرها ورفعها إلى الأعلى.
شعرت بالذهول، لكنه لم يمنحها الوقت للتفكير.
كان قد نزع قناعه بالفعل، وأجلسها على حافة الدرابزين، ثم تناول معصمها ليتفحّصه.
حتى تحت أضواء الشرفة الخافتة، كان الاحمرار واضحًا.
تمتم بكلمات نابية، ثم أمسك بمعصمها بكلتي يديه بحذر بالغ.
راح يضغط بلطف، يتفقد الألم.
“هل يؤلمكِ هنا؟”
“آه…”
قطبت فيلوميل حاجبيها من الوخز.
“نعم، يؤلمني هناك.”
“لقد احمرّ تمامًا، قد يتكوّن كدمة، علينا وضع مرهم على الفور.”
“لا حاجة للاستعجال. أنا بخير، حقًا.”
راح يدلك باطن معصمها بأطراف أصابعه ببطء، حتى كادت تشعر ببصماته.
“هل يؤلمكِ كثيرًا؟”
“قليلًا.”
رفع بصره إليها.
“…فقط قولي الكلمة، وسأكسر له معصمه، كما لو كان حادثًا.”
“هل هذا ممكن؟”
اتسعت عيناها دهشة، فسخر كايين وهو يبتسم.
“ألم تسمعي أن الأمير الثالث كثيرًا ما يتعرض لحوادث تُكسر فيها عظامه؟”
“لا يمكن…”
هزّ كتفيه بلا مبالاة.
“أحيانًا، أحتاج للتنفيس.”
بينما كانت تحدّق فيه بدهشة، أمسك يدها السليمة، ووضعها على كتفه، ثم انحنى على ركبتيه.
“دوق؟”
توقفت فيلوميل عن الكلام، فقد أمسكت يده بكاحلها.
يده العريضة كانت قادرة على إحاطة كاحلها بالكامل.
خلع حذاءها برفق، وراح يُمسك بكاحلها المتورم قليلًا.
“آسف، يبدو أنني جعلته يتورم أكثر.”
“لا، لقد التوَى عندما ابتعدت عنك في الحفل.”
“لكني جعلتكِ تركضين.”
“ليست إصابة خطيرة، مجرد التواء بسيط، لا بأس.”
“كفّارةً على ما سبّبته، سأحملك حتى يتعافى كاحلك.”
ولِمَ ينتهي الأمر دومًا بهذا الشكل؟!
نظرت إليه فيلوميل بعينين نصف مغمضتين.
“كُفّ عن استغلال الموقف لمصالحك، دوق.”
“أوه، اكتشفتِني يا عزيزتي.”
التعليقات لهذا الفصل " 56"