الحلقة الخامسة والخمسون.
كان إيدن في مزاجٍ جيد.
بينما كان يُهذّب ملبسه أمام المرآة، استدار وهو يدندن لحنًا بخفة، هناك، على الأريكة، كان كين يُقلب الكأس ببطء بين أصابعه.
“ألن تستعد؟”
ألقى كين، وقد شدّ الرداء على رأسه بعمق، نظرة جانبية على إيدن.
“أنا بخير ، هذا المظهر يُريحني أكثر.”
رمق إيدن رداء كين الكئيب بامتعاض وقرّب لسانه من أسنانه تعبيرًا عن انزعاجه.
“قلت لك إنني سأساعدك، لست بهذا البخل، بل يمكنني أن أقدم لك أكثر من ذلك.”
في الواقع، لو لم يكن كين، لما تمكن إيدن من تنفيذ هذا المخطط من الأصل، لم تكن لديه القدرة على التفكير في خطة كهذه، ولا الجرأة الكافية على تنفيذها.
بصراحة، حتى اللحظة التي بدأ فيها بتحريك الخطة، لم يكن إيدن واثقًا تمامًا.
لكن كين، الذي ظل هادئًا وبلا أي اضطراب مهما حدث، جعله يزداد جرأة بمرور الوقت.
“ظهوري قد لا يكون في صالحك.”
“مالذي الذي تهذي به؟ ذلك لا يهم ، جميع من في قاعة الاحتفال تلك سيكونون بعد أيام راكعين تحت أقدامنا كالكلاب يتوسلون.”
“الم تنفق الكثير؟ ألست تجهد نفسك فوق طاقتك؟”
“أجهد نفسي؟ لا تقل ذلك.”
كان في الواقع يجهد نفسه.
فما عدا منجمه، لم يكن هناك أي مصدر دخل منذ زمن طويل.
إلا أن أفراد أسرة الماركيز كيبان الذين استسلموا للمخدرات، لم يدركوا الوضع كما ينبغي.
“لديّ المنجم على أية حال.”
ورغم أن ملكية ذلك المنجم قد نُقلت إلى كونغنامو مقابل كميات ضخمة من المخدرات، إلا أن إيدن ما زال يعتبره ملكًا له.
ففي النهاية، النبلاء الذين أدمنوا المخدرات سيقدمون له المال طوعًا، وعندها سيكون من السهل استرداد المنجم مجددًا.
لذا، جمع ما تبقّى من المال، واستدان فوق ذلك، ليقيم حفلاً فاخرًا بكل ما أوتي من موارد.
ورغم أن عائلة الماركيز كيبان كانت تتدهور شيئًا فشيئًا، فإن مكانة الماركيز لا تزال رفيعة، مما جعل الكثير من كبار النبلاء يلبّون الدعوة.
وبينما كان إيدن يُجري آخر تحضيراته، اندفع كبير الخدم إلى الغرفة وهو يلهث.
“ما الأمر؟”
“سيدي… لدينا مشكلة كبيرة.”
“ما هي؟”
“يبدو أن صاحب السمو، الأمير الثالث، قد حضر الحفل.”
“ماذا؟!”
شهق إيدن والتفت نحو الخادم في ذهول.
“ما الذي تقوله؟!”
“الأمير الثالث… يبدو أنه دخل بين الحضور متخفيًا.”
نظرًا لأنهم أرادوا حضور أكبر عدد من النبلاء، لم يُشدّدوا إجراءات فحص الدعوات هذه المرة، بخلاف ما كانوا يفعلونه عادة.
وهكذا وقعت الكارثة.
“هل شرب الكحول؟! الأمير؟!”
“الأمير.. أنه يرتدي قناعًا، لذا يصعب التعرف عليه، نحن ما زلنا نحاول العثور عليه، ولا نعلم إن كان قد شرب بعد…”
“اللعنة! كان عليك التأكد من ذلك!”
النبلاء شيء، وأبناء الأسرة الملكية شيء آخر تمامًا.
لو تجرّع الأمير الثالث مشروبًا يحتوي على المخدر…
فكرة واحدة كهذه كانت كفيلة بأن تصيبهم بالرعب.
لمّا رأى الخادم وجه إيدن وقد شحب من الهلع، أضاف على عجل:
“سيدي… لم يفت الأوان بعد ، يمكننا إيقاف الحفل الآن قبل أن…”
“بل هذا أفضل.”
“ماذا؟!”
قالها كين، فاستدار إليه إيدن بعينين متسعتين.
“ألا تدرك؟ إنه أمير! ليس مجرد نبيل عادي! يمكن لعائلتنا أن تُمحى عن وجه الأرض في لحظة واحدة!”
“فكر بالأمر من زاوية أخرى، سيدي.”
“زاوية أخرى؟”
“هذه فرصة… فرصة للإمساك بشخص ذي نفوذ هائل.”
كانت كلمات مغرية، لا شك في ذلك.
الخادم، وقد أدرك أن إيدن بدأ يتزعزع، فتح فاهه بدهشة، لم يكن يظن أن سيده ساذج إلى هذه الدرجة.
العبث بأمير من الأسرة المالكة كان بمثابة انتحار.
“لكن… لا أملك الجرأة لأُخضِع أميرًا…”
“حقًا؟ لا تملكها؟”
سأل كين بهدوء، لكن صوته بدا كمن يحدق في أعمق أعماق إيدن ويكشف أسراره الدفينة.
ارتعش إيدن دون إرادة.
“في هذه الحالة، لِننهِ الأمر هنا، قل لكبير الخدم أن يُوقف الحفل فورًا، ولتأخذ كونامو المنجم كما تشاء.”
أشرق وجه الخادم حين رأى كين يُقنع إيدن.
“كلا.”
لكن إيدن هزّ رأسه بحزم.
“لا يمكنني التراجع الآن، لقد استثمرت الكثير… لا يمكن أن يضيع كل شيء هباءً.”
كان يعلم تمامًا أنه لن يستطيع أبدًا إقامة حفل بهذا الحجم مرة أخرى، ولهذا بدا يائسًا أكثر من أي وقت مضى.
“سيدي، يمكن تعويض المال من خلال أعمال أخرى لاحقًا، لكن إذا تورطنا مع الأمير الثالث…”
“اصمت! كيف تجرؤ، وأنت مجرد خادم، على أن تُجادل سيدك بهذه الطريقة؟!”
انفجر إيدن، المتوتر أصلًا، بغضب جامح وركل الخادم بقوة.
تدحرج الخادم على الأرض في صدمة.
“أنت.”
أشار إيدن إلى مساعد الخادم، الذي كان واقفًا يتابع بصمت مذعور.
“ن-نعم، سيدي!”
“من الآن فصاعدًا، أنت كبير الخدم، أما هو، فمطرود.”
قضى الخادم المطرود معظم حياته في خدمة هذا المكان، ومع ذلك، أُقصي خلال لحظات، لم يستطع أن يخفي شعوره بالفراغ والخذلان.
وجّه إيدن حديثه إلى كبير الخدم الجديد:
“علينا أن نعرف حال الأمير الثالث أولاً، استمر في البحث عنه ، أين إيمون؟”
“السيد الصغير… هو…”
“هاه… إيمون، ذلك الأحمق، أنا أعمل ليلًا نهارًا من أجل هذه العائلة، وهو لا يُرى له أثر؟ ابحثوا عنه أيضًا!”
“حاضر! فورًا!”
“كين، هيا بنا.”
راقب الخادم المطرود المشهد بأسنانه المتشابكة في غيظ، لكنه سرعان ما اتخذ قرارًا في داخله، وانطلق إلى جهة ما.
كان الحفل في أوجه، ولم يلحظ أحد تسلل الخادم إلى مكتب إيدن بهدوء.
كان كايين على حق، لقد تحوّل الحفل إلى فوضى عارمة.
منذ اللحظة التي دخل فيها، قاد فيلوميل إلى زاوية بعيدة، مانعًا أي أحد من الاقتراب منها، وكان الجو العام قد بلغ ذروته، فالناس منغمسون في أحاديثهم وضحكاتهم، لا يكاد أحد يلاحظ من حوله.
“هل تفاجأتِ؟”
“آه… لا بأس، أعتقد أني فقط نسيت كيف تكون هذه الأجواء، لم أشهد مثلها منذ مدة.”
“هل سبق لك حضور حفلات تنكرية من قبل؟”
“نعم.”
كانت الحفلات التنكرية تُقام غالبًا بسرّية تامة، ولا يُدعى إليها سوى أولئك الذين يتمتعون بعلاقات وطيدة أو ينتمون إلى عائلات ذات نفوذ.
راقب كايين وجه فيلوميل المتأمل بنظرات جانبية، وها هو يدرك متأخرًا ربما أن جمالها كان لافتًا بحق.
حتى إن كانت لا تنتمي لعائلة ذات سلطة، فإن ملامحها وحدها كانت كفيلة بإحداث ضجة في أي محفل اجتماعي.
هي نفسها لم تكن تولي مظهرها اهتمامًا، لكنها، من منظور موضوعي، كانت آيةً في الجمال.
“لكنني لا أرتاد مثل هذه الحفلات كثيرًا… الأجواء صاخبة جدًا، رغم ذلك، لطالما أثار دهشتي كيف يتحوّل الناس بمجرد ارتدائهم قناعًا لا يتجاوز سُمكه عقلة الإصبع، فيبدأون بإظهار رغباتهم الدفينة بلا خجل…”
ضحك كايين بخفة.
“وهل نُظهر نحن أيضًا رغباتنا الخفية؟”
أمالت رأسها قليلًا، تنظر إليه باستغراب لطيف.
“لكن، دوق، لست بحاجة لإخفاء رغباتك، أليس كذلك؟”
“بل أملكها، بالتأكيد.”
حين رأت نظراته الجادة، ازداد فضولها. فأمسك بيدها بلطف وقادها نحو وسط القاعة.
“مثلًا… رغبتي في الرقص معك.”
“يا لها من رغبة عظيمة حقًا.”
“أجل، لم أُظهرها يومًا، ولا مرة واحدة.”
في الحقيقة، لم يسبق لهما أن رقصا معًا من قبل.
رغم حضورهما بعض المناسبات الاجتماعية، لم تُتح لهما الفرصة للرقص سوية.
ومع ذلك، تبعته فيلوميل من دون تردد إلى مركز القاعة.
وقد بدأ عزف جديد في تلك اللحظة تمامًا، وكأنه كُتِب خصيصًا لهما.
“تشرفت، سيدي النبيل.”
“ثقي بي، آنستي.”
تبادلا التحية في هدوء واتخذا الوضعية المناسبة.
ذراعه تلف خصرها بإحكام، بينما وضعت يدها على كتفه برقة.
كان كايين يقود الخطوات بخفة وإتقان، وهي تبادله الأداء بسلاسة.
رغم أن هذه أول مرة يرقصان فيها سويًا، انسجمت حركاتهما كأنهما تمرّنا مرارًا.
لم يتعثر أحدهما، ولم يطأ أحد قدمي الآخر.
“سنهرب قبل أن يتبدل الشركاء، أليس كذلك؟”
“نعم، فكرة جيدة.”
اقترب منها هامسًا، فتناهت كلماته إلى أذنها وحدها.
أومأت موافقة، ولم يتوقفا عن الرقص.
“بالمناسبة… ترقص بشكل مذهل، دوق.”
“ماذا كنتِ تظنينني إذًا؟”
“راقص سيء ربما؟ أليس هذا ما يُقال عنك دومًا؟”
“آه…”
ابتسم كايين لنفسه، وقد تذكّر أحد الشائعات التي تدور حوله.
“لابد أن أيامك لم تكن سهلة في المجتمع وأنت أصغر دوق بينهم.”
“أن تكون دوقًا شابًا ووسيمًا ليس بالأمر السهل، صدقيني.”
لم يتأخر في الرد، وكان صادقًا.
فمظهره، ومكانته، وسلطته، جعلت منه الزوج المثالي في أعين الجميع، باستثناء العائلة الملكية.
ومع ذلك، لم يسبق له أن منح أي امرأة رقصة، قط.
كانت تلك سياسة مقصودة، فعدله في التعامل مع الجميع منعه من التقرّب إلى أي فتاة.
حتى فيلوميل، التي لم تكن تتابع الشائعات، قد سمعت عن ذلك ذات مرة.
“لم أتصور أنني سأحظى بشرف رقصة مع الدوق كايين شخصيًا.”
“أجل… أنتِ أول امرأة أرقص معها.”
“لكن كيف تُجيد القيادة بهذه البراعة؟”
لم يكن يتعامل معها كدمية، بل كان يُشركها بلطف، يوجهها بإيقاع مثالي، يُمسكها بصدق، لا بجمود.
“لا أعلم، ربما هي موهبة بالفطرة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 55"