الحلقة الثالثة والخمسون.
رغم أن الألم لم يكن حاضرًا، إلا أن الإحساس بالصفاء الذي اجتاح رأسه جعل كايين يُطلق تنهيدة إعجاب خافتة.
كان مجرد الإمساك بيد فيلوميل كافيًا ليمحو الصداع الخفيف ويمنحه انتعاشًا غريبًا، وكأن الهواء صار أنقى من حوله.
لو كان الأمر بيده، لعاش كايين حياته كلّها وهو ممسك بيدها.
بلا تردّد.
أغمض عينيه دون وعي، مستسلمًا براحةٍ تسللت إلى أعماقه بهدوء.
فيلوميل كانت تنظر إليه بصمت، تراقب ملامحه المرتخية وابتسامته الخفيفة وهو يُغمض عينيه بسلام.
يدها وحدها، تلك اللمسة، كانت كافية لتهدئة كلٍّ من كايين وليازيل.
فيما بعد، حين سألته عن الأمر، أخبرها كايين أن حالته نادرة.
فقط تلامس بسيط، ومع ذلك كان تأثيره… غير عادي.
ودفعها هذا إلى أن تتساءل في داخلها:
هل يُعقل أنني قد أكون قدّيسة دون أن أعلم؟
لتتأكد، حاولت التجربة مع صوفيا أيضًا، لكن النتيجة كانت… كارثية.
ما إن لامست يدها حتى ارتجفت صوفيا وقالت بامتعاض:
“يدك باردة جدًا!”
وفي تلك الليلة، ملأت الخادمة غرفة النوم بحجارة التسخين حتى استيقظت فيلوميل في اليوم التالي وهي تتصبّب عرقًا وكأنها خرجت من حمام بخار.
“آه، دوق… بالمناسبة، ماذا حدث مع إيثان؟”
سألت فيلوميل وهي تتذكّر ما أخبرها به كايين منذ أيام، حين قال إن النهاية قد اقتربت لهذا الرجل.
فتح كايين عينيه أخيرًا وأجابها:
“كنت سأحدثك بهذا اليوم، اليوم هو الموعد.”
“أتعني حفلة الليلة؟ حيث سيفرش المخدّرات هناك؟”
“نعم.”
إيثان، في النهاية، نفّذ خطّته.
ورغم أن فيلوميل لم تكن متأكدة من جديته، ها قد أتى اليوم بالفعل، وهي ما تزال غير مصدّقة تمامًا.
الخطّة كانت ببساطة: عبر كين، أحد رجال كايين، تم توزيع المخدّرات، وانتظروا اللحظة المناسبة لنشرها أثناء الحفلة.
“وهل ستذهب بنفسك، سيدي؟”
“لا حاجة، لسنا مضطرين للتحرّك بأنفسنا.”
“آه…”
وما إن سمعت رده، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة.
“عدوّ العدوّ… هو الصديق، أليس كذلك؟”
“بالضبط.”
نظر إليها بإعجاب، وهو يبتسم برضا، بعدما فهمت الخطة من نصف كلمة.
كان الأمر كما قالت بالضبط: استغلال العدوّ ليضرب عدوًّا آخر.
لو تدخّل كايين بنفسه، لكان من السهل الربط بينه وبين ما سيحدث في الحفل، وقد يسبّب ذلك بعض الإحراج أو الضرر السياسي.
أما إن تحرّك خصم معروف لماركيز كيبان، فستبدو الأمور طبيعية تمامًا.
“أي عائلة استعملت إذًا؟ كونت ديڤرا؟”
نظر إليها كايين بدهشة:
“مهلاً… كيف عرفتِ هذا؟”
“لأن عائلة ماركيز كيبان لا يكفون عن سبّهم طوال الوقت، بالكاد مرّ يوم دون أن أسمع اسم ديڤرا مشفوعًا بلعنة.”
ضحك كايين بخفة وهو يقول:
“كلّ ما فعلته أني تركت بضع خيوط… وما إن ظهرت حتى التقطوا الرائحة فورًا.”
“كنت قد نسيت تمامًا موضوع إيثان وإيمون، لكن يبدو أن كل شيء سار على ما يُرام رغم ذلك.”
قالت فيلوميل ذلك بابتسامة محرجة، فقد كانت في البداية مشاركة في الخطة، لكن كثرة الأحداث بعدها جعلتها تنسى كل ما يخصّ تلك القضية.
ولم تتذكّر الأمر سوى مؤخّرًا، لتُفاجأ بأن كل شيء يتقدّم بسلاسة.
“نعم، الأفضل أن تواصلي النسيان، بهذه الطريقة تسير الأمور بأفضل شكل.”
ضحك كايين بارتياح حين سمع من فيلوميل أنها نسيت أمرهم تمامًا.
“دعي الأمر لي، سأهتم بكل شيء.”
كان من الأفضل بكثير أن تنساهم فيلوميل على أن تنشغل بهم وتتضايق.
وفجأة، بدت على فيلوميل ابتسامة مشاكسة وكأن فكرة طرأت في ذهنها.
“ما رأيك أن نزور إيمون؟ ونرتدي شيئًا فخمًا كطاووس… ونغيظه قليلاً؟ سيكون الأمر ممتعًا، أليس كذلك؟”
“هاها هذا جيد! أما عن التنكر كطاووس، فدَعيني أتولى الأمر.”
“الطاووس هنا بمعنى ان تلبس وتتزين بشكل مبالغ فيه واستعراضي، مثل طائر الطاووس الذي ينشر ريشه المبهرج ليلفت الأنظار.”
بدا كايين في مزاجٍ رائع، متحمّسًا لفكرة استفزاز إيمون.
بل تمنّى لو أن منزل ماركيز كيبان ينهار اليوم قبل الغد، فقط ليستمتع بذلك المشهد.
لكن الحقيقة أنه لم يكن بحاجة لفعل شيء إضافي.
بمجرّد أن يُقبض على إيثان بتهمة توزيع الممنوعات، ستبدأ القضايا والفضائح بالتفجّر واحدة تلو الأخرى.
جرائم الرشوة والفساد التي ارتكبوها طيلة السنوات الماضية ستتكشّف دون أي مجهود.
“بالمناسبة، ما هذا؟”
سألها كايين وهو يُشير بذقنه نحو يدها اليمنى.
على بنصر يدها اليمنى، كانت ترتدي خاتمًا صغيرًا مصنوعًا من عشب بري.
“آه، هذا؟ ليازيل أهدتني إيّاه، بعدما رأت هذا الخاتم…”
وأشارت إلى يدها اليسرى، حيث كانت ما تزال تمسك يد كايين، وفي بنصرها خاتم مطابق تمامًا.
“سألتني لماذا أرتديه دائمًا، فأخبرتها أنه خاتم خطوبة… لي ولك.”
ضحكت فيلوميل وهي ترفع يدها اليمنى قليلاً.
“وفي اليوم نفسه، قدّمت لي هذا الخاتم قائلة إن بنصر اليد اليمنى يخصّها هي.”
“إذاً… بنصر يدك اليسرى يخصّني أنا؟”
قال كايين مازحًا، وهو يُحرّك بنصر يده اليسرى حيث ارتدى نفس الخاتم.
رفعت فيلوميل حاجبيها بضيق.
“هل تنوي الاستمرار في منافسة طفلة؟”
“وماذا أفعل؟ لو غفلت لحظة واحدة، ستأخذك مني. لا خيار لي إلا أن أواصل التحدّي، أليس كذلك؟”
تنهّدت فيلوميل ونقرت لسانها، ثم بدا أنها تستعد للنهوض.
كايين، راغبًا في إبقائها أطول، أسرع يقول:
“تم تحديد موعد لحفلة القصر الإمبراطوري.”
“متى؟”
“بعد أسبوع.”
“بما أنك تخبرني بنفسك… أفترض أنني سأرافقك، أليس كذلك؟”
“نعم، إنها آخر حفلة كبرى قبل بداية الشتاء الحقيقي، لذا لا يمكننا تفويتها.”
“سأبدأ الاستعداد.”
لكن ما إن انتهت من كلماتها، لاحظت فيلوميل تردّدًا على شفتي كايين وكأنه أراد قول شيء ثم تراجع.
سألته بنبرة أكثر هدوءًا:
“هل سيحضر الأمير الثالث؟”
“نعم.”
خفضت فيلوميل نظرها قليلًا وقالت بصوت محايد:
“رغم أنها أول مرة يعود فيها منذ عشر سنوات، يبدو وكأنه حريص جدًا على حضور الحفلات.”
في حين أن ولي العهد نفسه بالكاد يظهر مرة واحدة في العام، المفارقة كانت مؤلمة.
“بما أن الإمبراطورة لا تستطيع التواصل كثيرًا مع النبلاء، فهي تسعى لاستغلال ويستون لهذه الغاية.”
“لكن لدي سؤال يحيرني منذ فترة…”
رفعت نظرها إلى كايين.
“لماذا يُلقب ويستون بالأمير الثالث؟ أليس من المفترض أن يكون الثاني؟”
أجابها كايين بهدوء:
“قبل أن تُنجب الإمبراطورة ويستون، كان هناك طفل…”
“كان لديها طفل قبله، لكنها أجهضته كان ذلك في أواخر الحمل، ولم يكن إجهاضًا طبيعيًا، لذا منحها جلالة الإمبراطور لقب والدة الأمير الثاني بشكل خاص.”
هزّت فيلوميل رأسها بتفهّم، وقد بدأت خيوط الصورة تتضح أمامها.
لكن كايين أضاف بصوت منخفض كمن يكشف سِرًا دفينًا:
“لكن في ذلك الأمر… سرّ خفي.”
“ما هو؟”
“الإمبراطورة استغلت الطفل الثاني لتثبّت مكانتها، وقتها، لم تكن سوى محظيّة تحظى بحظوة الإمبراطور، لا أكثر.”
“ورغم أنها كانت مدعومة بقوة من حزب النبلاء، إلا أن الطريق إلى منصب الإمبراطورة ظلّ مغلقًا أمامها.”
لقد ضحّت بحياة جنينها لتصعد إلى العرش، ولم يكن ذلك مجرد إشاعة.
دوقية ويندفيل، التي راقبت تحركاتها بعد أن سرقت اهتمام الإمبراطور فجأة، اكتشفت الأمر.
لم يكن سوى خطة مدبّرة، تضحية متعمّدة بجنينها كي تنال لقب الإمبراطورة.
تردّدت فيلوميل قليلًا ثم سألت بصوت خافت:
“وهل… جلالة الإمبراطور لا يعرف؟”
الإمبراطور لم يكن طاغية، كان حاكمًا حكيمًا، تبنّى سياسات جيدة ولم يسمح أبدًا للمفسدين أن يعموا عينيه أو يصمّوا أذنيه، رغم تقدمه في السن.
كان من الصعب تصديق أنه وقع في فخ الإمبراطورة.
“بلى، كان يعلم، لكنه أضاع فرصة محاسبتها… لأنها حملت مباشرة بويستون بعد ذلك.”
هنا أومأت فيلوميل بإدراك.
حلّ صمتٌ قصير، ثم قال كايين بسخرية حادة:
“يا لها من امرأة محظوظة، تلك الإمبراطورة.”
رغم أن ولي العهد كان ثابتًا في موقعه، لم يكن من الممكن تجاهل وجود طفل إمبراطورة آخر، خاصة إذا وُلد في الوقت المناسب، كما حدث تمامًا مع ويستون.
لقد نجا الطفل، وتحوّل إلى أمير، بل وكرّس عشر سنوات من حياته في المنفى من أجل والدته… ما يمكن أن تسميه إلا بـ الحظ.
تملّكت فيلوميل رغبة مفاجئة في معرفة مخطّط كايين الحقيقي.
“وماذا عنك يا دوق؟ كيف تنوي الإطاحة بهم؟”
كان هذا أول سؤال مباشر يُطرح بينهما حول ذلك الموضوع، رغم كل ما كشفاه لبعضهما.
وقف كايين من مكانه، ثم توجّه إلى مكتبه وسحب مجموعة من الأوراق، ناولها لها.
“اقرئي بنفسك.”
نظرت إليه باستغراب، ثم بدأت تقرأ.
صفحة تلو الأخرى، كانت تعابير وجهها تتجمّد أكثر فأكثر.
وعندما أنهت آخر صفحة، رفعت رأسها ببطء، وعيناها تملؤهما الصدمة.
“تقول إنهم متورّطون مع… مشعوذين؟”
في هذا العالم، كانت الكلمة وحدها كافية لتُشعل الرعب.
المشعوذون هم من يعبثون بالقوى المظلمة.
بخلاف السحرة أو مستحضري الأرواح الذين يستخدمون قدراتهم الفطرية، فإن المشعوذين يستمدون طاقتهم من القتل خصوصًا قتل الأرواح الضعيفة والصغيرة.
وكما أن قتل طفل يُعدّ جريمة أفدح من قتل بالغ، فإن التضحية بالأرواح الأضعف تمنحهم قوة أكبر.
ولأنهم يشكّلون تهديدًا صريحًا للحياة، كانت المملكة تقوم بحملات تطهير دورية لملاحقتهم.
لكنهم، كالصراصير، لا يفنون… بل يزحفون من جديد، مختبئين في الظلال.
“نعم، على الأرجح يسعون لاستخدام قوى الظلام لتوسيع نفوذهم.”
همست فيلوميل، وعيناها تائهتان:
“هل يريدون حقًا أن يُتوَّج ويستون إمبراطورًا حتى لو دمّروا المملكة في المقابل…؟”
إذا استُخدمت قوى الشعوذة لجعل ويستون إمبراطورًا، فإن المشعوذين لن يبقوا في الظل بعد الآن.
وسرعان ما ستنهار البلاد تحت وطأة الفوضى.
“كيف لا يرون العواقب؟”
تمتمت بقلق، مدهوشة من مدى التهور الذي بلغوه.
أجابها كايين بنبرة هادئة، لكنه لم يُخفِ المرارة في صوته:
“عندما يتضخّم الطمع، يُصاب العقل بالعمى، المشكلة أننا لم نحصل بعد على دليل حاسم.”
“لأن جماعة المشعوذين مغلقة تمامًا على نفسها، أليس كذلك؟”
“بالضبط، تلك هي المعضلة.”
التعليقات لهذا الفصل " 53"