الحلقة الثانية والخمسون.
“صوفيا! أمسِكيني إن استطعت! هيا، بسرعة!”
“أنا قادمة للإمساك بك!”
يالهم من ثنائي متناغم.
بمقارنة العمر العقلي لصوفيا، كان من الطبيعي أن تنسجم مع ليازيل بسهولة.
وبما أن فيلوميل لم تكن تكلّف صوفيا بأي مهام أثناء انشغالها بتقارير العمل، فقد منحتها وقتًا حرًا، وشعرت بالرضى لرؤيتها تلهو مع ليازيل بهذا الشكل.
“آه؟ آنسة؟”
عندما نادت صوفيا، التفتت ليازيل التي كانت تسبقها ركضًا، ووقعت عيناها مباشرة على فيلوميل.
ابتسمت فيلوميل ولوّحت بيدها بحرارة.
“فيلوميل!”
وردّت ليازيل بابتسامة مشرقة، ولوّحت بدورها بفرح.
أسندت فيلوميل جسدها إلى إطار النافذة وسألت بلطف:
“هل استمتعتِ بوقتك؟”
“نعم!”
“ألستِ جائعة؟ هل نذهب لتناول العشاء؟”
“أجل، أحبّ ذلك!”
أومأت ليازيل بحماس، وعيناها تتلألآن.
فهي قد قضت يومًا كاملًا في اللعب، ومن الطبيعي أن تشعر بالجوع الآن.
“تعالي، لنذهب سويًا إلى قاعة الطعام.”
أنهت فيلوميل ما تبقّى من تقريرها على عجل، وخرجت من المكتب، فرأت ليازيل تمشي نحوها من غير بُعد.
“فيلوميل! هل أنهيتِ عملكِ؟”
أسرعت ليازيل بالركض نحوها وأمسكت بيدها.
“نعم، أنهيته، وماذا عنكِ؟ ماذا فعلتِ اليوم؟”
سارتا جنبًا إلى جنب، يداهمها دفء الحديث.
“لعبت الغمّيضة مع صوفيا، وتجوّلنا في الحديقة… آه، وتلوّنا معًا، وحتى درست قليلاً!”
“واو، أنجزتِ كل هذا في يوم واحد؟ أنتِ حقًا مذهلة!”
احمرّ وجه ليازيل خجلًا من المديح، وابتسمت في حياء.
مدّت فيلوميل يدها بلطف لتبعد خصلات الشعر المتناثرة على جبين ليازيل.
تلقّت ليازيل هذه اللمسة بعذوبة، دون أن تُبدي اعتراضًا أو حرجًا.
رغم أنها لم تعد تشعر بالألم، إلا أن لمسة فيلوميل ظلت تمنحها ذلك الإحساس الجميل… نفس الحنان الذي كانت تشعر به في لمسات بير وإيما.
في الحقيقة، ليازيل عرفت منذ لقائها الأول بفيلوميل أنها هي خطيبة كايين التي كانت تُذكر مرارًا في أحاديث بير وإيما.
“يقولون إن الدوق قد خُطب… أرجو ألا يتسبب ذلك في أي أذى لآنسَتِنا.”
“لا تقلق، بير، هل تظن أن الدوق لا يعرف كيف يختار؟ لا شك أنه وجد شريكة مناسبة له.”
“ومع ذلك، لا أشعر بالراحة، ماذا لو… لو أن خطيبته عرفت بأمر الآنسة؟ كيف ستكون ردة فعلها؟”
كانا يقلقان عليها.
رغم أن ليازيل كانت تثق بعمّها الذي لا يزورها سوى من حين لآخر، إلا أن القلق لم يكن يفارقها تمامًا.
فهي لم تكن بصحة جيدة، وجسدها قد يخذلها قبل أن تبلغ سنّ الرشد.
لم تكن تفهم لماذا يفكر عمّها في أن يجعلها وريثته… رغم معرفته بكل هذا.
لذلك، حين جاءت فيلوميل بصحبة كايين، شعرت ليازيل بالدهشة والقلق، لم يكن لديها أدنى فكرة عما يمكن أن يقولاه.
ورغم القلق، كانت تُمني نفسها بألّا يكون عمّها قد تخلّى عنها.
لذا، قررت أن تخبر فيلوميل بنفسها… بأنها لم تطمع يومًا في منصب الوريثة.
ثم جاءت فيلوميل…
“لن تتألّمي بعد الآن، ليازيل.”
وها هي قد أوفت بوعدها.
منذ ذلك الحين، اختفى الألم الذي كان ينهش جسد ليازيل بلا هوادة، كما يذوب غزل البنات إذا لامسه الماء.
لم يكن قد مرّ شهر كامل منذ أن تعرّفت عليها، ومع ذلك، كانت تُحبّ فيلوميل… بصدق.
وفي بعض الأحيان، كانت تتساءل بدهشة: هل يُعقل أن يحبّ المرء شخصًا بهذا القدر، في هذا الزمن القصير؟
فيلوميل كانت الشخص الذي خلّصها من عذابها الرهيب، وكانت لذلك ثمينة وغالية على قلبها.
أغمضت ليازيل عينيها للحظة، وهي تشعر بلمسة فيلوميل على يدها، ثم فتحتهما بهدوء.
حياتها الآن… كانت جميلة لدرجة لا تُصدّق.
وعلى عكس ما كان بير يخشاه، لم يحدث أي شيء سيّء منذ أن جاءت إلى قصر الدوق.
لم يكن هناك من يُهينها أو يتجاهلها بين الخدم، حتى بير وإيما بدآ يتركان مخاوفهما جانبًا.
الجميع شعر بالرضا في ظلّ هذه الحياة الهادئة في قصر الدوق.
ما عدا أمرًا واحدًا فقط.
“حقًا الآن؟”
خصم لم يكن في الحسبان.
“هل تنوين تهميشي؟”
ذلك الخصم لم يكن سوى عمّها… كايين.
“دوق، لقد جئتَ في اللحظة المناسبة.”
رغم أنهم لم يتفقوا مسبقًا على اللقاء، ظهر فجأة، مما جعل فيلوميل تتّسع عيناها في دهشة.
“كنت أسمعكما تتحدثان من بعيد…”
طرق كايين إصبعه على أذنه بخفة.
“… ويبدو أنني استُبعدتُ تمامًا من الحديث، أليس كذلك؟”
فيلوميل ابتسمت بحرج، متذكرة أنها كانت تتحدث مع ليازيل بصوت مرتفع.
“فلم أجد حلاً سوى أن آتي بنفسي.”
وما إن اقترب كايين، حتى شدّت ليازيل يد فيلوميل بقوة أكبر.
ضاقت عينا كايين وهو يراقبها.
وعندما تلاقت نظراتهما، أخرجت ليازيل لسانها سريعًا، ثم التصقت بفيلوميل أكثر.
“…هاه.”
كايين شعر بالذهول.
لم يتوقع أن يكون غريمه في هذا الصراع… هو ابنة شقيقه الصغيرة.
وكأنها تملك حدسًا فطريًا، بدأت تعتبر كايين منافسًا لها منذ فترة.
ولسوء الحظ، كان كايين هو الآخر يشعر بشيء من الغيرة تجاه فتاة تصغره بسنين كثيرة.
وهكذا… تساويا.
“لم أكن لأنسى الدوق، كنتُ على وشك أن أرسل من يُخبرك.”
“حقًا؟”
أجابته فيلوميل بابتسامة مشرقة، مراوغة المعنى.
حاول كايين أن يقترب ليقف إلى جانبها، فشهقت فيلوميل بصمت واتّسعت عيناها.
“ما الذي تفعله؟”
سألته بعينيها.
فأجابها بحركة كتف بسيطة، وكأن الأمر لا يُثير الاستغراب.
نظرت فيلوميل سريعًا إلى ليازيل، وكأنها تطلب العون.
وفي النهاية، لم يجد كايين سوى أن يقف إلى جوار ليازيل، ويُمسك بيدها.
وما إن أصبحت يد فيلوميل ملكًا لها وحدها، حتى بدت السعادة على وجه ليازيل، وسارت تقفز بخفة في خطواتها، كمن يرقص فرحًا بانتصار صغير.
يبدو أنها سعيدة لأنها تمسك بيد كايين.
فكّرت فيلوميل بذلك وهي تراقبهما، دون أن تدرك أنها الوحيدة التي أساءت فهم الموقف.
كانت تشعر بالرضى، وكأنها ترى مشهدًا جميلاً يدفئ القلب.
رغم أنهما لا يبدوان متشابهين كثيرًا حين تنظر إليهما كلٌّ على حدة، إلا أن وجودهما معًا، بلون شعريهما الفضي المتطابق، يُعطي شعورًا بأن ملامحهما تتقارب بطريقة ما.
لو كان كايين قطًّا، فإن ليازيل كانت جروًا صغيرًا.
ومع ذلك، فإن خصلات الشعر الفضي التي تُحيط بوجهيهما منحت كليهما هالة متشابهة، وكأن بينهما خيطًا خفيًا من الألفة.
ورؤيتهما يسيران جنبًا إلى جنب، وأيديهما متشابكة، كان كمن يغسل بصره بماء نقي… بل يغسل روحه أيضًا.
***
كانت وجبة العشاء مليئة بالألفة.
جلست ليازيل قبالة فيلوميل، تأكل بنشاط واضح في سعيها لنيل مديحها.
أما كايين، الذي عاش أكثر من عقد من الزمن فوق عمرها، فقد تحرّك بأسلوب مختلف:
كان يقطع طعامه إلى قِطع صغيرة، ويضعها في طبق ليازيل… ليُشتّت انتباه فيلوميل.
وهكذا، تحوّلت المنافسة على نيل مديح فيلوميل إلى تعاون مزيف:
كلٌّ منهما يُظهر اهتمامه بالآخر ليبدو أكثر جدارة أمامها.
واستمر هذا المشهد حتى بعد انتقالهم إلى الصالون لتناول الحلوى.
ثم… حين استسلمت ليازيل أخيرًا للنعاس بعد خسارتها الخامسة عشرة في معركتها مع النوم، خرجت تتمايل نحو غرفتها، حينها انتهت المعركة الخفية.
“وأخيرًا… بقينا وحدنا.”
قالها كايين بصوت منخفض، وكأنه لا يُريد كسر السكون الذي خيّم بعد مغادرة الصغيرة.
صحيح أن وقته مع فيلوميل ازداد في الفترة الأخيرة، خصوصًا لبقائه في القصر لفترة طويلة، لكن في معظم تلك الأوقات كانت ليازيل حاضرة.
لذا، فإن اللحظات التي يكونان فيها بمفردهما كانت نادرة… ولا تتحقق إلا ليلًا، مثل هذه الليلة.
كان صوت كايين ناعمًا، بطيئًا، ربما بسبب زرّين فُكّا من قميصه دون قصد، أو ربما لأن ظلمة الليل من خلف النافذة أضفت على صوته نغمة عابرة بين الجديّة والدفء.
لكن فيلوميل لم تستطع منع نفسها من الشعور بغرابة تلك النبرة.
سعلت بخفة، وأشاحت ببصرها عنه، ثم قالت:
“هل ترغب فعلًا في الدخول في منافسة مع طفلة؟”
“منافسة؟ على ماذا؟”
“حقًا؟ ألا تعرف عمّ أتحدث؟”
كانت في البداية تظن أنها تتوهم.
لكن في الأيام القليلة الماضية، لم يعُد لديها شك.
كايين وليازيل… يحافظان على مسافة غير واضحة.
لا هي قريبة، ولا هي بعيدة.
لكن ما بدا واضحًا هو أنهما كانا يتنافسان وبشكل خفي من أجل سماع كلمات المديح منها.
كانت تظن أنها تتخيل.
فمن الصعب التصديق أن شخصًا مثل كايين قد يدخل في منافسة مع طفلة، فقط ليكسب كلمات ثناء.
“لماذا تصرّ على منافسة ليازيل؟”
“لأنكِ لا تهتمين سوى بها مؤخرًا، هل هذا يعني أنني لم أعد مهمًا لديكِ؟”
جمع حاجبيه، وأظهر تعبيرًا مصطنعًا للحزن.
“ما هذا الكلام الغريب؟”
لم تكن تفهم كيف توصل إلى هذا الاستنتاج غير المنطقي.
“همم؟”
انحنى بجسده من الخلفية التي كان يستند إليها واقترب منها، حتى أصبح قريبًا بما يكفي ليلمس يدها التي كانت تمسك بفنجان الشاي.
بطرف إصبعه، نقر على أصابعها برقة وقال:
“كفى، أمسكِي يدي جيدًا هذه المرّة.”
وضعت فيلوميل الفنجان جانبًا، وأدارت كفّها لتريه راحة يدها.
كانت لقاءاتهما الليلية تخدم هدفًا واضحًا.
كايين سيبقى في الشمال لثلاثة أشهر تقريبًا.
ورغم أنه سيعود بين الحين والآخر، إلا أن تحضير النفس للفراق الطويل تطلّب تكرار اللقاءات… وتكرار اللمسة.
أصابع كايين انزلقت مثل أفعى، تلمس الجزء السفلي من راحتها قبل أن يتشابك بأصابعها بإحكام.
كان يُصرّ أن هذا النوع من التشابك، حيث تتداخل الأصابع بعمق، أكثر تأثيرًا من مجرد إمساك اليدين.
التعليقات لهذا الفصل " 52"