الحلقة خمسون.
رغم أن ليازيل قد غفت، إلا أن ذراعيها بقيتا ملتفتين حولها، تأبى أن تنفك.
قالت فيلوميل إن الأمر لا بأس به، غير أن كايين حاول أن يُبعد ليازيل عنها، ولكن في كل مرة كان يحاول، كانت ليازيل تشد قبضتها بقوة أكبر، فما كان من فيلوميل إلا أن تستسلم وتحتضنها كما هي، مواصلة الحديث وهي تَضمُّها بين ذراعيها.
ما إن جلست على الأريكة، حتى انحنى بير بعمق أمام فيلوميل، كان ظهره يكاد ينكسر من شدة الانحناءة.
قال بصوت متهدج:
“أعتذر… أعتذر من أعماق قلبي، سيدتي، لقد أسأت الظن بكِ بتسرع، أرجو العفو، ثم… أشكركِ حقًا، أشكركِ من كل قلبي.”
كان بير قد بات شديد الحساسية تجاه صحة ليازيل منذ أن استيقظت قواها كـ متعالية.
كان يدرك، بالطبع، أن هوية ليازيل لا تزال طيّ الكتمان، وأن البحث عن شخص يناسبها أمر مستحيل الآن.
لكن المعرفة شيء، وتجربة الأمر على أرض الواقع شيء آخر تمامًا.
ومؤخرًا، بدأ يشعر بمرارة تتسلل إلى قلبه كلما رأى كايين يترك ليازيل في مثل هذه الأماكن.
ثم، وصله نبأ خطوبة كايين.
وحين سمع أن كايين وخطيبته الجديدة يبدوان في وفاق تام، اشتعل القلق في صدره كجمرٍ تحت الرماد.
خاف أن ينسى كايين أمر ليازيل، أن يهجرها.
غير أن كايين كان يعود مرارًا لرؤيتها.
صحيح أنهما كانا لا يتبادلان كلمة واحدة، وكل شيء بينهما مشوب بالحرج والصمت، لكن بير كان يطمئن، على الأقل، إلى أن كايين لم ينسَ الفتاة الصغيرة بعد.
لكن… المشكلة انفجرت في لقائهما الأخير.
يومها، أصيبت ليازيل بنوبة جديدة، وبالصدفة كانت تمسك بكوب شاي، فانسكب على كايين، مسببًا له جرحًا بالغًا.
ورغم أن كايين طمأنهم، مدعيًا أنه بخير وعاد أدراجه، إلا أن نوبة ليازيل لم تهدأ، بل استمرت في الاشتعال.
حرارتها لم تنخفض، بل ظلت تتصاعد كالنار، حتى كاد بير أن يفقد صوابه.
دفعه القلق إلى كسر كل القواعد، فتوجه بنفسه إلى قصر الدوق.
وهناك، نطق بعبارة مرتجفة:
“آنستي…”
لم تكن هناك إلا آنسة واحدة تُدعى بهذا اللقب في قصر الدوق.
خطيبة كايين.
وما إن التقت عيناه بوجهها، بتلك الملامح الرزينة المتحفظة، حتى أدرك بير فورًا أنها لم تكن تعرف بوجود ليازيل أصلًا.
وفي طريق عودته مسرعًا إلى الفيلا، كان القلق ينهشه كوحش مفترس.
كان يخشى أن تخبر كايين بما رأت، فيقرر الأخير أن يتخلص من ليازيل إلى الأبد.
وقضى تلك الليلة المؤرقة ساهرًا، ينتظر المجهول، حتى جاء كايين وخطيبته فجأة، دون سابق إنذار.
لكن، ولدهشته، لم يكن ما خاف منه هو ما حدث.
“أنتِ بخير الآن، ليازيل… لن تتألّمي بعد اليوم.”
هكذا همست فيلوميل برقة وهي تضم ليازيل، التي كانت تتشبث بها بيأس كالغريق، بين ذراعيها.
أما ليازيل، تلك الصغيرة التي لطالما تظاهرت بالقوة، ولم تشكُ قط إلا حين تعصف بها نوبات الألم…
فقد انهارت باكية بين أحضان فيلوميل، تنتحب كطفلة صغيرة.
“لم أعد أتألّم… لم أعد…”
كانت ترددها بين شهقاتها، وكأنها تحاول إقناع نفسها.
هناك فقط، أدرك بير مدى فداحة خطئه… كم كان أعمى حين أساء الظن.
قالت فيلوميل، وهي تربّت على ظهر ليازيل الصغيرة، بحنان دافئ:
“أفهمك، بير، ما قلته مفهوم… فأنت من أهل ليازيل، ومن الطبيعي أن تفكر هكذا لا داعي للاعتذار أكثر.”
حتى فيلوميل، التي تراها لأول مرة اليوم، شعرت بشفقة غامرة تتسلل إلى قلبها تجاه هذه الفتاة، فكيف ببير، الذي عاش معها منذ ولادتها؟ لا شك أن مشاعره أعمق وأثقل.
ولأنها فهمت ذلك، لم تجد فيلوميل في نفسها حرجًا من أن تغفر له بسعة صدر،
بل، في حقيقة الأمر، بدا لها أن هذا الموقف كان فرصة طيبة لتصحيح الفهم الخاطئ، وهكذا، سارت الأمور نحو الأفضل.
قال كايين بنبرة حاسمة:
“بير، إيما… أفكر أن أنقل ليازيل إلى قصر الدوق.”
رفعت إيما رأسها بسرعة، وعيناها مشوبتان بالقلق، لتسأله مترددة:
“هل… هل يجوز لنا أن نُعلن عن وجود الآنسة؟”
كايين رمق فيلوميل بنظرة جانبية، قبل أن يجيب ملتفتًا إليهما:
“في الواقع، ناقشت الأمر مع فيلوميل… وأظن أن الوقت قد حان، فقد عاد ويستون.”
عند سماع ذلك، تبدلت ملامح بير وإيما على الفور.
تصلبت وجوههما كمن تلقى صفعة مباغتة، وحدقتا في كايين بجمود.
عودة ويستون لم تكن أمرًا عاديًا؛ كانت تعني شيئًا واحدًا فقط: أن كايين بدأ حقًا خطوات انتقامه الجادة.
وفي هذا السياق، لم يعد من المنطقي أن يترك ليازيل، وهي نقطة ضعفه، خارج أسوار قصر الدوق.
بل، على العكس، كان من الأجدى أن يحميها بداخله.
أضاف كايين، وهو يرمق جسد ليازيل النحيل بعينين يكسوهما القلق:
“ثم فيلوميل… إن واصلتِ العناية بليازيل، فلن تضطر إلى الألم بعد الآن.”
تنهد بعمق، زفرة ثقيلة خرجت من صدره المثقل بالهم:
“جسدها يزداد سوءًا… أظن أنها فقدت مزيدًا من وزنها منذ آخر مرة رأيتها فيها الأيام الماضية أرهقتها بشدة.”
ثم أردف، بنبرة أكثر صلابة:
“ولكن حين تستعيد عافيتها، سَنبدأ تدريبها كوريثة للدوقية.”
عندها فقط، انفرجت ملامح بير وإيما، واستطاعا أن يتنفّسا براحة اخيرًا.
فكلمات كايين حملت تأكيدًا واضحًا: أنه لا يزال يرى في ليازيل الوريثة الشرعية المقبلة لعائلة ويندفيل.
وهذا وحده كان كفيلًا بطمأنتهما.
انحنى بير قليلًا، وقال باحترام:
“إذن، سنعد كل شيء ليكون القصر مستعدًا لاستقبال الآنسة حالما تستفيق.”
وغادرا معًا الصالة، ليباشرا التحضيرات.
في هذه الأثناء، كانت ليازيل قد غرقت في نوم عميق، حتى إنها حين رفعها كايين من بين ذراعي فيلوميل، ارخت جسدها فورًا، كما لو كانت قد التصقت بها طويلاً حتى سخن جسدها من شدة القرب.
نظرت فيلوميل إليها، ولوّحت برفق بكفها وكأنها تروّح عنها، بينما أمسكت بيد الصغيرة بحنو.
قال كايين، بثبات:
“هذا يكفي، فيلوميل.”
لكنها ترددت، تمسكت قليلًا:
“فلننتظر قليلًا، فقط للاحتياط.”
لكنه هز رأسه بحزم، ونبرة صوته قاطعة:
“كفى، إن واصلتِ، ستُرهقين نفسك أنتِ.”
وتبين صدق كلماته، فقد بدأ الشحوب الذي كان يكسو وجه ليازيل يتبدد شيئًا فشيئًا، وعاد إليه شيء من اللون.
وكانت فيلوميل، التي شعرت بالإرهاق يتسلل إلى جسدها، قد وصلت حدًا جعلها تتخلى عن عنادها، فتراخت أصابعها وتركت يد الطفلة.
استلقت الصغيرة بسلام على الأريكة، تغط في نوم عميق، ووجهها ساكن، كما لو أن كل العواصف التي عصفت بها قد خمدت أخيرًا.
عندها التفت كايين إلى فيلوميل وسألها:
“هل تودين الخروج قليلًا للتمشّي؟”
ابتسمت بلطف وأومأت:
“نعم، سيكون هذا جيدًا.”
وما إن خرجا من الفيلا، حتى اقترب جاك، الحارس الذي كان في الخارج.
لكن كايين رفع يده، مشيرًا له بالتوقف،
فتوقف جاك في مكانه، يراقب بصمت،
بينما اتجه كايين وفيلوميل معًا إلى الممر الضيق خلف الفيلا.
كان الممر أشبه بطريق سحري انتُزع من قلب إحدى الحكايات.
والشمس، التي كانت تودّع الأفق، قد صبغت السماء بألوانها القرمزية، مما أضفى على المشهد جمالًا ساحرًا.
وكانت فيلوميل ترتدي فستانًا خفيفًا، مما جعل خطواتها على الطريق سهلة، دون أن تعيقها الأثواب أو تثقل حركتها.
حينها، مد كايين ذراعه نحوها، وقال:
“تفضلي.”
فمدّت يدها إليه تلقائيًا، بلا تردد…
شبكت ذراعها بذراعه، وأخذت تدير رأسها يمنة ويسرة، تتفحص المكان بعينين لامعتين، كأنها سنجاب صغير يبحث عن طعام.
كايين كتم ضحكة كادت تفلت منه، يعض على شفتيه بصعوبة، وهو يراقب تلك الملامح الظريفة بشيء من الدفء الذي تسلل إلى صدره دون استئذان.
ظل يحدّق بها طويلًا، يستمتع بذلك المشهد، حتى طال الصمت، قبل أن يفتح شفتيه أخيرًا:
“شكرًا لك.”
التفتت إليه، متفاجئة، وقد شُغلت تمامًا بتأمل ما حولها، فلم تنتبه لكلماته:
“عفوًا؟ على ماذا؟”
ارتسمت على وجهها نظرة حائرة، فأجاب كايين، وصوته يخرج منخفضًا لكن مشبعًا بالصدق:
“لأنكِ قبلتِ ليازيل… من دون أي نفور أو تردد.”
تجمدت ابتسامتها للحظة، ولم تستطع فيلوميل أن تعترف له بالحقيقة المؤلمة؛ أنها شعرت بالشفقة على ليازيل، تلك الطفلة التي لم يُكتب لها حتى أن تظهر في القصة الأصلية.
فقط ابتسمت ابتسامة باهتة، تحاول أن تغطي على ما يعتمل في داخلها من شعور خفيف بالذنب.
نعم، لم يكن ذلك السبب الوحيد، لكنها عرفت في قرارة نفسها أن تلك كانت الشرارة الأولى، ولم تستطع إنكارها تمامًا.
“في الواقع… كان الأمر أشبه بالمقامرة بالنسبة لي.”
اعترفت وهي تزيح بصرها قليلًا، ثم تابعت، متعمدة أن تضيف مسحة من الدعابة:
“لم أكن أعرف إن كانت ليازيل ستنسجم معي أم لا، لحسن الحظ… يبدو أنني ربحت الرهان.”
ثم ضحكت بخفة، وأضافت مازحة:
“ربما أملك موهبة خفية في القمار.”
ابتسم كايين ابتسامة هادئة، ارتسمت كظل على شفتيه، لكنها حملت حرارة لم تخفَ عنها.
ثم قال، وصوته يبطئ قليلاً، كأن كلماته تحتاج أن تخرج بوزنها الكامل:
“صحيح أنني وعدت أن أتحمل مسؤولية ليازيل حتى النهاية… لكن…”
توقف عن السير.
وبحكم ذراعها المتشابكة معه، توقفت فيلوميل بدورها، دون وعي.
وقبل أن تتمكن من السؤال، امتدت يده برفق، يزيح خصلة متمردة من شعرها خلف أذنها.
أطراف أصابعه لامست شحمة أذنها بلطف، لمسة بالكاد محسوسة، لكنها خلفت خلفها أثرًا حارقًا، كأن شرارة خفيفة انطلقت في المكان الذي مرّت به.
تورد وجهها على الفور، وفي داخلها رغبة عارمة أن ترفع يدها وتحك تلك الأذن التي صارت تشعر بحكة غريبة، لكنها بقيت ساكنة، متيبسة، عاجزة عن أن تحيد بنظرها عن عينيه.
“ما زلتِ… أنتِ، أهم شخص بالنسبة لي.”
هبّت نسمة ريح خفيفة، تهمس بينهما، تدفع بخصلات شعرها لتتراقص أمام عينيها، لكنها لم تكلف نفسها عناء إزاحتها.
فقط رمشت ببطء، وقلبها يدق بعنف تحت ضلوعها.
ثم همست، وصوتها خرج أضعف مما أرادت:
“منذ متى… أصبحتُ أنا الأهم لديك؟”
كانت تعرف أن الإجابة، إن سمعَتها، ستكون بمثابة عبور لجسر لا رجعة منه.
لكنها كذلك عرفت، بوضوح تام، أنها لم تعد تملك رغبة في العودة أصلًا، مهما كان الثمن.
كايين ابتسم، لكن ابتسامته كانت مشوبة بحيرة خفيفة، كأنه هو نفسه لم يعرف متى أو كيف بدأت الأمور تتغير.
قال:
“لا أدري… فقط، في لحظة ما، صرت كلما رأيتك، أرغب في أن أراك أكثر… وإن لم أرك، أفتقدك، أريد أن أفكر بك، وأجعلك تبتسمين دائمًا، دون أن يمسّك أي ألم.”
كان صوته صادقًا، خاليًا من الزخرفة، وبدا كمن يعترف بشيء ظل مكتومًا طويلًا.
حتى هو، لم يعرف متى تسللت مشاعره وتراكمت، كما تتراكم بذور الهندباء الطائرة، تحلّق بلا صوت حتى تصنع حقلاً كاملًا في لحظة لا يدركها أحد.
شعر بشيء من الحرج وهو يفرغ قلبه هكذا، فرفع يده يحك مؤخرة عنقه، في حركة عفوية كشفت توتره.
ثم أكمل، صوته يزداد عمقًا:
“وصرتُ أطمع… أن تشعري أنتِ أيضًا مثلي، أن يكون قلبك نحوي، كما قلبي نحوك.”
كايين كان يجد في وجود فيلوميل، وهي متشابكة الذراع معه، راحة غريبة.
حين مدّ ذراعه، لم تتردد، لم تتساءل، بل اندفعت إليه بثقة… تلك الحركة وحدها أشعلت داخله شعورًا غريبًا بالرضا.
نظر إليها، وسألها، صوته صار منخفضًا كهمسة:
“ما رأيك؟”
في تلك اللحظة، شعرت فيلوميل أن حرارة غريبة ارتفعت إلى وجنتيها.
عيناه، رغم أن لونهما البنفسجي المعتاد لم يتغير، إلا أن الدفء الذي كان يتوهج فيهما كان كافيًا ليجعل قلبها يخفق بعنف.
شعرت أن نظرته تحرقها، كأنها تلتهم روحها دون أن تترك أثرًا مرئيًا.
وإن لم تكن مخطئة، فإن ما شعرت به لم يكن مجرد دفء عابر، بل كان نارًا، نار الرغبة، وتملك خفي… موجهة كلها نحوها.
ومع ذلك، كان وجه كايين هادئًا، ملامحه لا تحمل توترًا ولا اضطرابًا.
بل بدا… كأنه يترك لها الباب مفتوحًا، كأنه يمنحها فرصة، ليكون لها الخيار إن أرادت أن تخطو نحوه.
حينها، خطرت لها فكرة واحدة فقط:
ربما… حان الوقت لتتحلى بالشجاعة.
التعليقات لهذا الفصل " 50"