الحلقة تسعة وأربعون.
“معالي الدوق؟”
اتّسعت عينا الرجل بدهشة للحظة، قبل أن يقع بصره على المرأة الواقفة خلفه.
“فيلوميل، اقتربي.”
مدَّ كايين يده نحوي.
وحين أمسكت بكفّه واتجهنا معًا نحو الكوخ، رأيت كيف خيّم الغموض والعبوس على ملامح الرجل.
كان رد فعله متوقَّعًا، إذ لم يكن ينظر إلى فيلوميل بعين الرضا، لكنها بدورها لم تُعر الأمر اهتمامًا يُذكر؛ فقد أعدّت نفسها سلفًا لمثل هذا الاستقبال.
يد كايين، التي قبضت على يدي بثبات وقوة، كانت السند الذي طمأن قلبي، وهكذا، دخل الاثنان إلى الكوخ معًا.
“بير… من هناك…؟ يا إلهي، الدوق؟”
انتفضت المرأة متوسطة العمر، ذات ملامح دافئة، حينما وقع نظرها على فيلوميل وكايين.
قال كايين بنبرة هادئة:
“إيما، جئت لرؤية ليازيل.”
“آه… نعم، تفضلوا بالجلوس.”
وبما أن الكوخ لم يكن صغيرًا، فقد احتوى حتى على غرفة استقبال مهيأة بأناقة بسيطة.
جلس الاثنان ينتظران قدوم ليازيل.
أما فيلوميل، فكانت تبلل شفتيها اليابستين بلسانها، تحاول تهدئة التوتر الذي شدّ على أعصابها، ولم تلبث أن التفتت إلى كايين، لتجده مشدودًا هو الآخر، بنفس القدر من القلق، وما إن تلاقى نظرهما، حتى انفجرا في ضحكة خافتة، حملت في طياتها بعض الارتياح.
قالت فيلوميل مبتسمة:
“لماذا تبدو متوترًا، دوق؟”
ابتسم هو أيضًا، وهو يهز رأسه:
“حقًّا… لا أعلم لماذا أشعر بالتوتر، لكنه شعور لا أستطيع دفعه.”
كان لضحكته وقع السحر؛ إذ انساب الدفء إلى قلبها، وخفَّ التوتر الذي كان يعصف بروحها.
في تلك اللحظة، فُتح الباب، ودخل بير وهو يحمل صينية الشاي.
قال بلطف:
“رجاءً، تناولوا شيئًا من الشراب ريثما تصل الآنسة الصغيرة.”
وضع بير أكواب الشاي أمامهما، لكنه لم يغادر، عندها، رفع كايين فنجانه وسأل بجدية:
“بير، هل لديك ما تود قوله؟”
تردد الرجل قليلًا قبل أن يجيب:
“هل صحّتك بخير الآن سيدي؟… الآنسة، ما إن فتحت عينيها حتى كان أول ما نطقت به قلقها عليك.”
خفض كايين نظره عن الفنجان، وقال بنبرة حازمة:
“لقد شُفيت تمامًا، فلا داعي للقلق.”
ثم أضاف وهو يضع الفنجان جانبًا، وصوته يزداد ثقلًا:
“والآن، أخبرني بما يدور في بالك حقًا.”
صمت بير برهة، ثم تلعثم قائلًا:
“هل… لي أن أسألكم، ما الذي تنوون فعله بشأن الآنسة؟”
حاولت فيلوميل أن تتجاهل الحوار الدائر، لكنها وجدت نفسها، من غير وعي، تلتفت لتنظر إلى بير.
أضاف الرجل بسرعة، كمن يخشى أن يُساء فهمه:
“أعلم أنني أتجاوز حدودي، يا سيدي…”
رد كايين بنبرة هادئة لكنها تحمل ثقلًا في معناها:
“بير.”
توقف الرجل، منكمشًا على نفسه، وقال بخفوت:
“نعم، سيدي.”
قال كايين وهو يثبّت نظره فيه:
“أنت قلق على ليازيل..”
ثم وضع الفنجان على الطاولة بعناية، وأردف:
“هذا حسن، أنت حارسها، ومن واجبك أن تظل تفكر بها فقط.”
رفع بير رأسه ببطء، وكأن كلمات الدوق قد باغتته.
وفي اللحظة نفسها، انفتح الباب مجددًا، ودخلت إيما.
وتقدّم أمامها طفلة بدأت أصغر بكثير من أن يُصدق المرء أن عمرها عشر سنوات.
كانت الطفلة هزيلة، بشعر باهت لا أثر للحياة فيه، مشدود إلى الخلف بطريقة فوضوية.
وجهها شاحب كالرماد، وتحت عينيها هالات قاتمة، أما شفتاها فقد تصدعتا من الجفاف حتى بدتا كأنهما نُسجتا من ورق أبيض هشّ.
اقتربت الطفلة بخطى مرتجفة، وانحنت بعمق وهي تهمي بصوت بالكاد يُسمع:
“مرحبًا بكم ، دوق.”
قال كايين بنبرة حاول جاهدًا أن يجعلها دافئة:
“حسنًا… اجلسي يا ليازيل”
فيلوميل، التي طالما راقبت كايين عن قرب، أدركت على الفور ما يجري، لقد كان الرجل يحاول، بكل ما أوتي من جهد، أن ينتزع من نفسه نبرة لطيفة وابتسامة هادئة، لكنه فشل.
فكلما ازداد وعيه بمحاولاته، ازدادت صلابتها؛ فصوته بدا متوترًا أكثر من اللازم، وابتسامته كانت بعيدة كل البعد عن العفوية.
اقتربت ليازيل ببطء، وجلست بحذر قبالة فيلوميل.
وما إن خرج بير وإيما من الغرفة، حتى خيّم الصمت الثقيل.
ليازيل، رغم وجود الغرباء، لم ترفع حتى طرف عينيها لتلقي عليهم نظرة خاطفة، بل ظلت جالسة برأسها المنحني في خضوع صامت.
نظرت فيلوميل بهدوء إلى كايين، الذي بدا واضحًا عليه أنه يعاني ليجد الكلمات المناسبة لكسر هذا الجليد.
وكأنها استطاعت أن تتخيل المشهد جيدًا:
كايين، منذ أن وطئت قدماه هذا المكان، وهو جالس مع ليازيل في هذا الصمت المربك؛ يفكر مرارًا فيما يجب أن يقوله، بينما الطفلة تكتفي بمراقبته بحذر دون أن تنبس ببنت شفة.
عندها، شعرت فيلوميل يقينًا أن العلاقة بينهما لا تزال بعيدة عن أن تُسمى ألفة أو قرب.
لكنها كانت تعرف أيضًا أن تحسين علاقة كايين بالطفلة ليس أولوية الآن؛ الأهم أن تفتح هي أول جسور التواصل مع ليازيل.
ولو اقتربت منها فجأة ستفزع هكذا فكّرت فيلوميل.
لذا، كان عليها أن تقترب شيئًا فشيئًا، برفق.
وبلا تردد، نهضت من مكانها، واتخذت مقعدًا إلى جوار ليازيل.
قالت بصوت هادئ دافئ:
“مرحبًا يا ليازيل.”
ارتجفت الطفلة، وقد بدا عليها الذهول؛ لم تكن تتوقع أن تبادرها بالكلام، فرفعت عينيها بسرعة لتنظر إلى كايين، تستجدي منه إشارة ما، قبل أن تجيب بخفوت:
“أه… مرحبًا…”
ابتسمت فيلوميل وقالت برقة:
“أنا اسمي فيلوميل، سمعت عنك الكثير من عمك، سررت بلقائك.”
اتّسعت عينا ليازيل، وقالت بدهشة خافتة:
“الدوق… حدثك عني؟”
تألقت عينا فيلوميل وهي ترد هامسة، وقد خفّضت صوتها لتُشعر الطفلة أن ما تقوله سرّ بينهما:
“نعم، قال إنك مشرقة، طيبة، ورقيقة، أخبرني بذلك على استحياء، ولم يُرد لأحد أن يعرف… لذا، هذا سرنا، اتفقنا؟”
اقتربت ليازيل بلا وعي، وكأنها تنجذب إلى هذا الدفء، وانحنت قليلًا لتستمع لها،
خدّاها شُبِّعا بحمرة خفيفة، فيما راحت ترمق كايين بنظرات مترددة.
لكن كايين، وقد التقط الإشارة، اكتفى بأن شرب من فنجان الشاي، متظاهرًا بأنه لا يراهم، ليمنح الطفلة بعض الأمان.
وحين لم تجد من يردعها، بدا كأن ليازيل تجرأت قليلًا، فاقتربت خطوة أخرى من فيلوميل، وهمست ببراءة:
“حقًا؟ قال هذا عني؟”
ابتسمت فيلوميل وقالت، ناظرة إليها بعينين مشعتين بالصدق:
“بالطبع، قال إنك عزيزة على قلبه، وفخور بك كثيرًا.”
احمر وجه ليازيل خجلًا، وبدأت تعبث بأطراف أصابعها النحيلة، لكنها رغم ذلك لم تبدُ سعيدة تمامًا، بل ظهر في ملامحها شيء من الحزن.
فمالت فيلوميل قليلًا وسألتها بنعومة، وكأنها تخشى جرحها:
“ما بكِ؟ لما هذا الوجه الحزين؟”
ترددت ليازيل، ثم همست بخفوت، وكأنها تكشف عن سر ثقيل على قلبها الصغير:
“لكن… أنا لست فتاة تستحق الفخر…”
ثم بدأت تفرك ظهر يدها النحيل بقوة، كأنها تريد محو شعور يؤلمها.
تابعت بمرارة:
“قالوا لي إنه لا بأس إن لم أكن ذكية، المهم أن أكون بصحة جيدة… لكن… أنا مريضة كثيرًا.”
وسعلت فجأة، محاولة أن تخفي نوبة السعال، وهي ترمق كايين من طرف عينها، وكأنها تخشى أن يوبخها.
ومع محاولتها الكتم، احمر وجهها بالكامل، حتى كاد الدم يفور إلى وجنتيها.
لكنها سرعان ما عجزت عن المقاومة، فاندلعت نوبة السعال أقوى، حتى بدأ جسدها الصغير يهتز بعنف.
«هآه… هآه…!»
نادتها فيلوميل، وقد انتابها القلق، ومدّت يدها بسرعة نحوها:
“ليازيل؟!”
“فيلوميل، لا تلمسيها!”
لكن كايين أمسك بيدها بقوة، مانعًا إياها من الاقتراب.
“ابتعدي الآن، بسرعة!”
في صوته كان هناك أمر صارم، مما جعل فيلوميل ترتبك وتنهض من مكانها فورًا.
أمسك كايين بذراعي ليازيل بكلتا يديه، وكأنه يحاول السيطرة عليها، ثم صرخ بأعلى صوته:
“بير! إيما!”
لم يمض وقت طويل حتى دخل الاثنان بسرعة، وكأنهما كانا في الجوار.
قاما بكل مهارة، كما اعتادا، بإمساك أطراف ليازيل بينما كانت تقاوم بعنف.
حتى مع تضافر قوتهما، لم تتوقف الطفلة عن محاولات التملص.
فيلوميل كانت عاجزة عن التنفس بشكل صحيح، وهي تراقب ليازيل.
كانت الطفلة تصارع الألم بشكل غير متوقع لجسدها النحيل، كان الأمر يبدو غير معقول؛ كيف يمكن لهذا الجسد الضعيف أن يظهر كل هذه القوة؟
ولكن ذلك كان يعني شيئًا واحدًا:
كانت ليازيل تتألم بشدة.
تنفست فيلوميل بصعوبة، وأخذت تراقب المشهد بصمت.
قال كايين وهو يمسك بوجه ليازيل برفق:
“اهدئي، ليازيل، كل شيء سيكون على ما يرام.”
صرخت ليازيل بصوت مشوّه من الألم:
“عمي…!”
كان وجهها مشوّهًا من الألم، وعينيها ممتلئتين بالدموع التي بدأت تنهمر بغزارة.
ومع مرور الوقت، بدأ جسد ليازيل يهدأ تدريجيًا.
تنهد كايين وهو ينهض من مكانه، ثم توجه إلى فيلوميل، التي بدت متجمدة في مكانها.
قال مطمئنًا:
“لا داعي للقلق، إنها ليست نوبة مفاجئة، بل مجرد تشنجات.”
سألته فيلوميل بقلق:
“هل هذا مشابه لما حدث في المرة السابقة عندما أصبت أنتَ أيضًا؟”
عندما يحدث التشنج، تفقد ليازيل وعيها وتصبح غير قادرة على التحكم في جسدها، قد تصبح أطرافها متيبسة جدًا لدرجة أنها قد تؤذي نفسها أو من حولها إذا كانت تحمل شيئًا في يدها.
قال كايين وهو يتذكر تلك اللحظة:
“في تلك المرة كانت تحمل فنجان الشاي.”
خلال نوبة التشنج، تحطم الفنجان بسبب عنف حركتها.
المشكلة تكمن في أنها لم تتمكن من التحكم في طاقتها كما في المعتاد، وهو ما جعل الأمور تزداد خطورة.
سكت للحظة، ثم أضاف:
“أصبت بسبب الهالة التي كانت تحيط بالفنجان.”
كان يعي تمامًا أنه حتى وإن كان هو الشخص المتأذي، فإن أي إصابة ناجمة عن الهالة لا يمكن أن تكون خفيفة.
بينما كان كايين غارقًا في تلك الذكريات، أخذت فيلوميل قرارها.
قالت بحسم:
“سأتواصل معها الآن.”
لمحها وهي تتحرك صوب ليازيل، لكن كايين أمسك بمعصمها بشدة، مانعًا إياها من التقدم.
قال محذرًا:
“كلا، لا يزال الوقت غير مناسب، هي لم تهدأ تمامًا بعد.”
كما قال، كان جسد ليازيل لا يزال يرتجف بين الحين والآخر.
بير وإيما استمرا في الإمساك بها، يمنعانها من الحركة.
لكن فيلوميل، التي كانت تراقب الطفلة المعذبة، انفجرت بقلق:
“أتركني أساعدها! كيف يمكنني أن أراها هكذا وأتركها تعاني؟ إذا كنت أستطيع أن أساعدها، لماذا أظل متفرجة؟”
قال كايين بعزم، وهو يمسك بيدها:
“فيلوميل، لقد قلت لكِ من قبل، يجب أن تكوني حذرة، بل يجب أن تكوني أكثر حذرًا الآن من أي وقت مضى.”
ثم تابع:
“في الحقيقة، كانت هناك لحظة خطيرة جدًا قبل بضعة أيام، انا حينما كنا بالعربة سويًا… هل تعرفين مدى خطورة الاقتراب من شخص في حالة جنون أو تشنج؟ الأشخاص الذين يعانون من مثل هذه الحالات يمكنهم قتل من يلمسهم دون قصد.”
استمرت فيلوميل في النظر إليه بقلق، وغمغمت:
“ومع ذلك، كيف أتركها تعاني هكذا؟”
أمسكت فيلوميل يد كايين بقوة.
“لقد تغلبت على ذلك أيضًا، أليس كذلك؟ لم تهاجمني، أليس كذلك؟”
رد كايين بصوت ضعيف:
“ذلك…”
ثم أضافت وهي تشد قبضتها عليه:
“أنا أثق بك، كايين، وأثق بريازيل أيضًا.”
أطلقت فيلوميل يدها، لكن كايين ظل ممسكًا بها بقوة.
“كايين.”
عند سماع نداءها، أفلت كايين يدها، وتبعها بحذر، توجهت فيلوميل مباشرة إلى ليازيل وجلست على ركبتيها أمامها، ثم وضعت يدها برفق على ظهر يدها المتيبس.
وفي تلك اللحظة…
شعرت بشيء قوي يلتف حولها فجأة.
“فيلوميل!”
كان هذا هو ذراع ليازيل التي لفّت حولها بكل قوتها، أدركت فيلوميل بسرعة ما كان يحدث، وكانت ليازيل تعانقها بقوة لدرجة أن فيلوميل كانت تجد صعوبة في التنفس. لكن رغم ذلك، كانت الأيدي التي أمسكت بها خالية من أي نية لإيذائها، كان هناك شعور باليأس، وكأن ليازيل كانت تحاول بشدة ألّا تفلت منها.
“أنا بخير.”
همست فيلوميل بكلمات هادئة، محاولة تهدئة كايين الذي بدا عليه القلق، كانت تلمس شعر ليازيل الباهت برفق، بينما كان شعرها يلتصق برقبة فيلوميل المبللة بالعرق من تعبيرات الفزع.
“أوه… لا, أنا… أنا الآن لا أشعر بالألم… لا أشعر بالألم بعد الآن…”
تنفست فيلوميل بارتياح، كانت قد نجحت على ما يبدو في إقامة اتصال حقيقي.
بلطف، بدأت تدلك ظهر ليازيل النحيف برفق.
“نعم، لا يوجد ألم بعد الآن، لا داعي للقلق، ليازيل.”
“فيلوميل… هل أنتِ… ملاك؟”
ضحكت فيلوميل قليلاً، متأثرة بكلمات ليازيل.
“كلا، لستُ ملاكًا.”
لكن ليازيل، بصوت ضعيف ومبلل، تابعت ببطء:
“لكن عندما تلامسينني، لا أشعر بأي ألم…”
كان صوتها هادئًا للغاية، مما جعل فيلوميل تشعر بأن الطفلة ستغرق في النوم قريبًا.
همست فيلوميل بالقرب من أذن ليازيل:
“نامي جيدًا الآن، لا يوجد ألم بعد الآن، ليازيل.”
التعليقات لهذا الفصل " 49"