الحلقة سبعة وأربعون.
جذب كايين يد فيلوميل إليه برفق، ليختصر المسافة بينهما خطوة واحدة، وفي اللحظة ذاتها، طبع قبلة خفيفة على ظهر يدها.
قال بصوت منخفض، كل كلمة منه تلامس بشفتيه بشيء من الدفء الذي دغدغ بشرتها:
“لتصبحي فيلوميل ويندفيل… ومن الآن فصاعدًا، إلى الأبد.”
شعرت فيلوميل بقشعريرة خفيفة تسري في جسدها، فانكمشت يدها لا إراديًا، لكنها وجدت كايين يشد قبضته أكثر، وكأن لا نية له بالتخلي عنها.
نظرت إليه بصمت، عيناها تراقبانه بعمق، وفي تلك النظرة شيء جعله يشعر بجفاف شديد في فمه.
لطالما كان يفاخر بحدسه وسرعة بديهته، لكن الآن، أمام هذا البريق في عينيها، لم يستطع أن يفك شفرته.
ما الذي تعنيه حقًا؟ لم يعش من قبل لحظة ينتظر فيها اختيارًا كهذا، هكذا معلّقًا على حافة الترقب.
ابتلع ريقه بصعوبة، وقلبه يخفق بقوة، منتظرًا جوابها.
فقالت فيلوميل أخيرًا، بصوت هادئ لكنه حاد كالسهم:
“..هل يمكنك أن تخبرني بكل شيء؟ كل ما تخفيه عني؟”
لم يكن هذا جوابًا مباشرًا لكلماته، ومع ذلك، أدرك كايين فورًا ما تعنيه.
“…نعم، أستطيع أن أخبرك بكل شيء.”
وكلاهما كان يدرك الحقيقة ذاتها.
لو أفصح كايين عن سره، فلن يكون هناك طريق للعودة، وإن وافقت فيلوميل على الاستماع، فهذا يعني أنها اختارت أن تبقى إلى جانبه، رغم كل شيء.
حين استوعب هذا المعنى، شعر بشيء يخنق صدره، كأن قلبه انتفخ حتى كاد ينفجر من شدّة الألم والفرح معًا.
حرّك كايين شفتيه ببطء، مستجمعًا كلماته:
“لكن… قبل ذلك.”
وفجأة، انهار على الأرض، جاثمًا بجسده الثقيل.
شهقت فيلوميل وفتحت عينيها على اتساعهما، والدهشة تملأ ملامحها:
“يا دوق! هل أنت بخير؟”
ابتسم كايين ابتسامة خفيفة، تحمل شيئًا من الإحراج:
“يبدو ان قواي قد خارت… لا أشعر بقدمي.”
ظل ينظر إليها من أسفل، وعيناه تلمعان بوهج خافت.
يده، رغم ارتجافها، لم تترك يدها قط.
وبينما كان يفرك عنقه المتيبس من فرط التوتر، مال برأسه قليلًا وسأل، وصوته يحمل مسحة من الرجاء:
“هل تسمحين لي… أن أحتضنك مرة واحدة فقط؟”
“ماذا؟”
تلعثمت فيلوميل، وعاد شريط الذكرى سريعًا في ذهنها… تلك الليلة، حين طلبت منه أن يضمّها ليواسيها.
وقتها، بدا الأمر طبيعيًا، بلا تعقيد.
لكن الآن… الآن فقط شعرت بحرارة تتسلل إلى وجهها وتلسع خديها.
قالت مترددة، وعيناها تفرّان من عينيه:
“لا… لا، هذا…”
زاد بريق عيني كايين، كمن رأى بصيص أمل:
“ألا يمكن؟”
كان يمرر إبهامه ببطء فوق ظهر يدها، حركته رخية لكن ساخنة، كأن جلده يترك أثرًا واضحًا حيثما عبر.
شعره كان مبعثرًا، وصدره العريض يطل من فتحة قميصه الفضفاض، يشي بصلابة لا تخفى.
وعيناه… يا لتلك العينين، كانتا تتوسلان بشدة حتى صار من العسير على فيلوميل أن تواصل مقاومتها.
تراجعت خطوة، ثم نزعت يدها منه فجأة، بعنف خفيف يكشف عن صراعها الداخلي:
“لا… لا يجوز.”
عندها، تنهد كايين بحسرة، ولعق شفته السفلى بخفة، كأنما يبتلع خيبته.
ثم وقف من مكانه، متمالكًا نفسه رغم الانكسار الذي لم يخفَ عن عينيه.
قال كايين وهو يومئ برأسه باتجاه الداخل:
“تعالي إلى هنا، سأحدثك داخل غرفة ربّ العائلة.”
ترددت فيلوميل قليلًا، وسألت بخفوت:
“هل… يُسمح لي بالدخول؟”
أضاق كايين عينيه قليلًا، وتسللت إلى ملامحه لمحة من الدعابة:
“ألن تتزوجيني إذن؟”
ارتفع حاجبا فيلوميل بدهشة، وفي تلك اللحظة، أشاح كايين بنظره عنها بخفة، قبل أن يمسك بيدها ويقودها نحو غرفة رب العائلة.
قال، بنبرة حاول أن يجعلها مطمئنة:
“لك الحق، بصفتك سيدة هذا المنزل أن تعرفي، فلا تشعري بثقل الأمر عادةً، يُخبر الزوج شريكته بهذه الأمور يوم الزفاف، لكنك… تستحقين أن تعرفي قبل ذلك بقليل.”
كان الباب، رغم بساطته الظاهرة، يصدر صوتًا عميقًا وثقيلًا وهو يُفتح.
وما إن انفتح، حتى شعرت فيلوميل بشيء غريب، إحساس بأن ما خلف هذا الباب… ليس كأي مكان آخر.
تمتمت بشك:
“أهذا… سحر؟ة
أومأ كايين مبتسمًا ابتسامة خفيفة:
“نعم، لا يُفتح إلا لمن يبث فيه قواه السحرية، لكن لا تقلقي، سأفعّل لك جهازًا بالداخل، حتى تتمكني من التحكم به بقوتك أيضًا.”
كانت خطواته هادئة، لكن يده التي قبضت على يدها قادتها إلى الداخل بانسيابية، كما لو كان تيار ماء يُرشدها برفق.
وما إن تجاوزت العتبة، حتى اتسعت عينا فيلوميل دهشة.
لم يكن للمظهر الخارجي للباب أي علاقة بما كشفه الداخل؛
فالغرفة كانت فسيحة، فاخرة، تضج بالأناقة، حتى إن فيلوميل نسيت ترددها، ووقفت تتأملها بإعجاب واضح.
الأضواء البرتقالية الدافئة غمرت المكان، منتشرة على نحو مدروس، تمنحه جوًا بين المكتبة وغرفة المكتب.
في منتصف الغرفة، كان هناك أريكة كبيرة، بدت وكأنها صُممت خصيصًا لتكون مسرحًا للأحاديث الطويلة، بينما انتصب رفّ ضخم للكتب على أحد الجوانب، وإلى جانبه جهاز معدني بدا كأنه جزء من نظام سحري.
تمتمت فيلوميل، وعيناها تنتقلان بين الأطر الموزعة بعناية على الرفوف والطاولات:
“هناك الكثير من الصور هنا…”
ابتسم كايين، ونبرة صوته خفتت قليلًا، كمن يسترجع ذكرى قديمة:
“جدي كان دائمًا يقول: لا يبقى لنا سوى الذكريات المسجلة.”
ثم أضاف، وقد خيّم على صوته ظلّ من الجدية:
“كانت الإمبراطورة الثانية تطمح لأن تجعل ويستون ولي العهد… لكن الإمبراطور لم يُوافق، فقد وعد الإمبراطورة الأولى، في زواج سياسي، بأن الطفل الذي يُولد منها سيكون هو الوريث الشرعي للعرش.”
ثم تنهد، وعيناه تلمعان بتلك المعرفة الثقيلة التي يحملها:
“الإمبراطورة الثانية، وقتها، كانت شابة، فاتنة، وطموحة إلى حد الجنون، وعندما أنجبت ويستون، بينما كانت لا تزال تحتل قلب الإمبراطور، أصبح طموحها لا يعرف حدًا.”
توقف لحظة، ثم نظر إلى فيلوميل بعينين تحملان مرارة الماضي:
“أخي… كان الذراع اليمنى لولي العهد. كان دعامةً له، يقوي سلطانه ويعزز نفوذه.”
كان ولي العهد على صلة وثيقة بكيزن الأخ الأكبر لكايين، والوريث الذكي لعائلة ويندفيل.
في الحقيقة، حتى ذلك الحين، لم يتخيل أحد أن الإمبراطورة الثانية قد تُقدم على شيء باستخدام طفلها الرضيع، ويستون.
فمهما بلغت مكانة الإمبراطورة من عظمة داخل القصر، لم يكن بوسعها أن تغير حقيقة أن ويستون كان أصغر من ولي العهد بخمسة عشر عامًا كاملة.
خلال أكثر من عشر سنوات، سعت الإمبراطورة بكل ما أوتيت من دهاء لإسقاط ولي العهد، لكنها فشلت مرة بعد أخرى.
ثم… ظهر كيزن أمامها.
قال كايين، وصوته يغلفه مرارة العارف:
“لقد دفعنا ثمن غفلتنا… كنا نظن أن الإمبراطورة لن تستهدف إلا ولي العهد، وهذا كان خطأنا.”
ثم تمتم، وكأن الألم ما زال حديثًا في صدره:
“حادثة العربة…”
كانت العربة التي تقل كيزن وزوجته الحامل في شهرها الأخير قد انقلبت رأسًا على عقب.
نجح الاثنان بأعجوبة في النجاة من الحادث، لكن الإمبراطورة لم تمنحهما حتى لحظة واحدة لالتقاط أنفاسهما، فأرسلت القتلة على الفور.
كيزن، رغم إصاباته، كان من أولئك الذين يُطلق عليهم المتعاليين، أصحاب القوة التي تتجاوز البشر العاديين.
ولو أنه تواصل مع زوجته، التي كانت تحمل الجنين، لاستعاد عافيته، ولربما استطاع أن يصمد ويهزم مهاجميه.
لكن كايين أكمل، وعيناه تغيم بالحزن:
“لكن… كانت زوجة أخي في شهرها الأخير. أي اتصال قوي بينهما كان سيعرّضها والطفل للموت معًا.”
في النهاية، اختار كيزن أن يُنقذ زوجته وابنه.
وبجسده المثخن بالجراح، قاوم القتلة حتى اللحظة الأخيرة، حتى جاء فرسان عائلة الدوق لمساعدته… لكن الوقت كان قد فات.
سلم كيزن روحه قبل أن تصل إليه أي نجدة.
أما زوجته، التي شهدت موت زوجها بعينيها العاجزتين، فقد صمدت رغم الألم، ووضعت طفلها بسلام في الموعد المحدد.
لكن جسدها، المنهك من الحمل والمأساة، لم يحتمل، فلحقت بزوجها بعد وقت قصير.
وكان هذا كله، حين كان كايين لا يزال في السابعة عشرة من عمره فقط.
قال كايين، وهو يبلع غصته:
“لقد صار لجلالته دين عظيم في عنق عائلة ويندفيل، ولهذا لا يستطيع المساس بنا، رغم كل شيء، لقد بقينا إلى جانب ولي العهد، وحمينا موقفنا، حتى بعد تلك الكارثة.”
ثم أضاف، بابتسامة مرة:
“لكن… الإمبراطورة الثانية لم تخرج من الحادثة دون خسائر، لا أحد يعلم الحقيقة، لكن جناحها داخل القصر أغلق، وسُحبت منها كل سلطاتها.”
ثم أردف بنبرة ثقيلة:
“في الأحوال العادية، لكانت حُبست في جناح بارد، معزولة عن العالم، لكن ويستون، ابنها، تدخّل… وقال إنه سيغادر البلاد لعشر سنوات كتكفير، وهكذا، طُويت القضية بذلك الشكل.”
أنهى كايين حديثه، وهو يفرك كفيه المبللتين بعرق بارد.
كان هذا أول مرة في حياته يروي فيها هذه الأسرار، لم يتخيل يومًا أنه سيكون قادرًا على النطق بها.
أما فيلوميل، فقد أصغت إليه بصمت مطبق، عيناها معلقتان بكلماته.
حتى بعد أن انتهى، بقيت ساكنة، تغرق في بحر من الأفكار، قبل أن تحرك شفتيها أخيرًا، بصوت خافت لكنه ثقيل بالقلق:
“…وإذا قال جلالته إن الإمبراطورة وويستون قد نالا عقابهما، وإن انتقامنا منهم لم يعد مبررًا… ماذا سنفعل؟”
رمش كايين بذهول.
لم يكن في كلماتها تعزية فارغة، ولا غضب ناري… بل كان سؤالًا منطقيًا، مباشرًا، لم يخطر بباله قط.
ضحك بخفة، ضحكة خرجت منه رغمًا عنه، كمن صُدم من تلقائية الفكرة.
رفعت فيلوميل رأسها، تنظر إليه بقلق حقيقي:
“ما بك؟ لماذا تضحك؟”
لقد كانت تسأل بصدق، قلبها مثقل بالخشية، لكن رد فعله بدا عبثيًا بالنسبة لها.
قال كايين، وهو يومئ بيده نافيًا، بينما ابتسامته لا تزال معلقة على شفتيه:
“لا، لا شيء… فقط أدركت الآن… أنني، على ما يبدو، أحبك أكثر مما كنت أظن.”
التعليقات لهذا الفصل " 47"