الحلقة الخامسة والأربعون.
همسات خلف الأبواب…
بينما كانت فيلوميل ترفرف بجفنيها ببطء، كما لو أن العالم صار ثقيلاً حولها، استمرت الهمسات تتردد في أرجاء البهو.
“في الحقيقة… الدوق لم يستعد وعيه منذ يومين.”
“م-ماذا؟! أهذا صحيح؟!”
اهتز صوت الرجل، تتخلله نبرة قلق لا يمكن إخفاؤها، فأجابه سيباستيان، وبدا أن صوته يحاول أن يتماسك رغم الإعياء:
“لحسن الحظ، حالته ليست سيئة، كل ما في الأمر أن النزيف كان شديدًا، ولهذا لم يستفق بعد… أما آنستي، هل هي بخير؟”
كان في صوته، وهو ينطق ذلك السؤال، حرارة عاطفية فاضحة، امتزج فيها القلق مع مودة خالصة.
شعرت فيلوميل بشيء بارد يغرس مخالبه في قلبها.
لقد كانت تدرك أن سيباستيان ومادونا، رغم برودتهما في البداية، صارا ينظران إليها بعين أكثر لطفًا مع مرور الوقت، حتى شعرت بشيء يشبه المودة في نظراتهما.
لكن، ما سمعته الآن… اللهفة في صوته وهو يتحدث عن تلك “الآنسة”، جعلت كل مشاعرها تهتز، لم يكن هناك وجه للمقارنة.
“لقد هدأت قليلاً، نعم، لكنها قلقة جدًا على حضرة الدوق… خاصة بعد ما جرى في المرة الأخيرة، وحين بالكاد كانا يلتقيان…”
“عليها أن تصبر قليلاً بعد.”
ارتفع صوت الرجل الآخر، مغلفًا بنبرة لم تعد قادرة على كبح إحباطها:
“لكن… إلى متى؟! لقد مضى على وجودها في ذلك الكوخ خمس سنوات، يا سيد سيباستيان… خمس سنوات كاملة!”
خمس سنوات وشهرين…
ردد عقل فيلوميل الرقم، وقارن، دون إرادة، بين تلك المدة والمدة القصيرة التي أمضتها هي في هذا القصر.
الفرق كان شاسعًا، حتى شعرت بخجل من نفسها لمجرد التفكير بالمقارنة.
سيباستيان، وقد خفض صوته كمن يحمل ثقل العالم فوق كتفيه، قال:
“أنا أعلم… أعلم أكثر من أي أحد وأتمنى أن تعود الآنسة إلى مكانها الحقيقي.
لكن… الوقت لم يحن بعد.”
تردد الرجل الآخر، ثم قال بكلمات خرجت من بين أسنانه:
“لا تقل لي… أن السبب هو تلك المرأة؟ تلك… خطيبة الدوق؟”
“بير! لا تتحدث بهذه الطريقة!”
لكن بير لم يصمت، بل ارتفع صوته المليء بالمرارة:
“أهي من منعت عودة الآنسة؟! كيف… كيف يسمحون لهذا أن يحدث؟!”
وفجأة، دوى صوت صرخة قصيرة خلف ظهر فيلوميل، حادة كالسيف:
“بير!”
عرفت فورًا أن الصوت كان لمادونا.
لكنها لم تلتفت، لم تشأ أن تنظر.
وفي تلك اللحظة، التقت عينا الرجل ‘بير’ بعينيها.
وكأن الوقت تجمد، ورأت كيف شحب وجهه في لحظة، وكأن الدم انسحب منه دفعة واحدة.
كان واضحًا… أدرك فورًا من تكون.
هي… المرأة التي كان يتحدث عنها بازدراء قبل لحظات، من سماها “تلك المرأة”.
سيباستيان، وقد التقط أن هناك خطبًا ما، استدار بدوره، وبمجرد أن رأى فيلوميل واقفة هناك، تاهت الكلمات على لسانه:
“سي.. سيدتي…”
أسرع نحوها، تعلو ملامحه علامات الحرج والتوتر، بينما وقفت مادونا بجانبه، عيناها تتفادى النظر مباشرة إلى فيلوميل، ولم تحاول أن تضيف أي كلمة.
قال سيباستيان، وهو يحاول أن يجد مخرجًا من الموقف:
“سأشرح كل شيء، سيدتي، أعدك بذلك.”
لكن فيلوميل، وقد خفضت عينيها للحظة ثم رفعتهما بثبات، أجابت بهدوء قاتل:
“كلا.”
اتسعت عينا سيباستيان، وأوشك أن يتكلم، لكن فيلوميل كانت أسرع:
“سأسمع كل شيء… لكن من الدوق مباشرة.”
لقد اتخذت قرارها في تلك اللحظة.
منذ أن سمعتهم يتحدثون عن “الآنسة” بذلك الحزن العميق، وقد تبلور بداخلها يقين لا يتزحزح:
المرأة التي يتحدثون عنها… هي عشيقة كايين، وأم طفله.
وهي، فيلوميل، لن تقبل أن تسمع الحقيقة مشوهة أو مبتورة من أفواه الخدم…
ستواجه الحقيقة من مصدرها، حتى لو احترق قلبها في سبيل ذلك.
بينما كانت فيلوميل ترمش ببطء، كانت الأفكار تتشابك في رأسها كخيوط معقدة.
كان من الواضح أن الوقت وحده كفيل بأن يكشف لأولئك الخدم أنها سمعت كل كلمة من حديثهم قبل قليل.
صحيح أنها تيقنت من وجود عشيقة للدوق عبر هذا الحوار، لكن ما من شيء بداخلها رغب في أن تسمع التفاصيل منهم.
هذا الأمر، تحديدًا، كانت تريد أن تسمعه من كايين نفسه.
كانت تريد أن تسأله…
ذلك القبلة التي تبادلاها في العربة… ماذا كانت تعني؟ ما الذي كان يقصده حقًا؟
شدت نبرتها فجأة، دون أن تنتظر ردًّا:
“حتى ذلك الحين، لا أريد منكم أن تنطقوا بكلمة واحدة، اعتنوا بضيفكم فحسب.”
وما إن أنهت عبارتها، حتى استدارت مبتعدة، دون أن تمنحهم حتى فرصة الإجابة.
في اليوم التالي، مضت فيلوميل كعادتها، تمارس جدولها اليومي بلا أي تغيير.
استيقظت في الوقت نفسه، تناولت إفطارها، ثم تفقدت اللفائف السحرية التي أرسلها هارنين وبعد الغداء، توجهت إلى الحديقة برفقة صوفيا، إذ لم يكن لديها درس مع مادونا اليوم.
صوفيا، التي لم تجرؤ على السؤال، كانت تتابع خطوات سيدتها بصمت، وقد شعرت بوضوح أن فيلوميل ليست على ما يرام منذ البارحة.
رفعت فيلوميل رأسها نحو السماء الصافية، وعبر خاطر ثقيل في صدرها:
“ما الذي سيؤول إليه مصيري، يا ترى؟”
ثم تساءلت بمرارة:
لماذا لم يتزوج كايين المرأة التي أنجبت له طفلًا؟
أتراه… لم يستطع؟ أم لم يرد؟
“هل يُعقل أنني في رواية أخرى؟”
بدأ قلبها يثقل من هذه الفكرة المزعجة.
“ماذا لو كانت العشيقة… هي البطلة الحقيقية؟ وأنا مجرد أداة عابرة، لا أكثر؟”
ربما لم تكن سوى وسيلة ليُدرك بطل الرواية مشاعره الحقيقية تجاه المرأة الأخرى…
لكنها سرعان ما حاولت إقناع نفسها بأن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.
كانت تعلم أن وضع المتعاليين (الذين يملكون قوى خارقة) حساس فمعظمهم لا يستطيعون الزواج إلا بـ”المناسب” معهم جسديًّا وروحيًّا.
ولأن العلاقة الجسدية خارج هذا الإطار محط أنظار وانتقادات، بدا منطقيًا أن كايين لم يتزوج عشيقته…
“لأنها ليست المناسبة له.”
لو تزوجها، لما استطاع الاستمرار في واجباته، ولما استطاع الاقتراب من المناسبة الحقيقية له ، تلك التي تناسب طاقته كمتعالي.
وربما… لهذا السبب كان ينتظر امرأة تقبل بالزواج به كـ”زوجة بعقد” فقط.
زوجة في العلن، بينما يظل قلبه ومشاعره معلقة بأخرى.
“…يا ترى… هل لهذا السبب قال ما قاله لي؟”
تذكرت عبارته تلك، حين التقيا لأول مرة:
“لقد وعدت نفسي ألا أتزوج أبدًا، طوال حياتي.”
وفجأة، شعرت وكأن قطع اللغز كلها قد انطبقت على بعضها، مشكلةً الصورة الكاملة أمام عينيها.
الرجل الذي أحب امرأة لا تصلح أن تكون زوجته، فقرر ألا يتزوج إطلاقًا.
“هاه…”
خرجت منها ضحكة قصيرة،
وقفت فجأة في منتصف الطريق، ورفعت عينيها إلى السماء، كمن يهرب من الواقع، ثم انفجرت في ضحكة خافتة… حزينة.
راقبتها صوفيا بقلق واضح، تراقب سيدتها تضحك بلا طاقة، كمن فقد توازنه تمامًا.
“هاها…”
ضحكت فيلوميل بلا حول، وكأن روحها تحترق من الداخل.
“هكذا إذًا… هذا هو السبب، أليس كذلك؟”
وجدت بعض الراحة في إدراك السبب، كما لو أن معرفتها للحقيقة خففت من ثقل صدرها…
لكن، مع ذلك، لم تستطع إنكار ذلك الألم الحارق الذي ظل ينخر في أعماقها.
ذاك الشعور اللاذع… الذي حاولت أن تقنع نفسها بأنه ليس خيانة.
لكن قلبها، رغم كل محاولاتها، كان يصرخ بعكس ذلك.
ابتسمت فيلوميل ابتسامة صغيرة، لكن عينيها بقيت ثابتة، باردة، لا تعكس دفء الشفاه المرسومة.
وفي تلك اللحظة التي كانت تتأمل بها السماء الصافية سمعت ركضًا قادمًا نوحها ، اذ به سيباستيان…
“سيدتي ، لقد استيقظ الدوق!”
عند سماع هذه الكلمات، أغمضت فيلوميل عينيها وأخذت نفسًا عميقًا.
***
عندما فتح كايين عينيه، كان أول شيء رآه هو السقف المألوف.
رفع جسده ببطء، وسحب الحبل الذي كان بجانبه، وعندما شعر بألم خفيف في بطنه، أدرك واقع الحال بشكل متأخر.
لقد فقد وعيه أثناء تلامسه مع فيلوميل.
ومع هذا، تذكر كايين الأمر على الفور وسأل بسرعة عند رؤية سيباستيان يدخل غرفة مسرعًا:
“فيلوميل أين هي؟”
لكن، بشكل غير متوقع، اهتز سيباستيان قليلاً، ثم أجاب بصوت منخفض:
“إنها في القصر.”
عند سماعه أنها في نفس القصر، هدأت دقات قلبه التي كانت مضطربة بسرعة ثم بدأ يرتدي قميصه الذي كان ملقى بجانبه وقال:
“أين هي؟ سأذهب إليها.”
“سيدي، هناك شيء يجب أن أخبرك به.”
عندما رآى سيباستيان وجهه المظلم، بدأ كايين يشعر بالقلق وسأله بسرعة:
“هل حدث شيء لفيلوميل؟”
“لا، ليس تمامًا… ولكن… لقد اكتشفت وجود الآنسة.”
توقف كايين فجأة عن ربط الأزرار بيديه، وجمدت أصابعه في مكانها، ثم ظل صامتًا لبعض الوقت قبل أن يسأل بلهجة حازمة:
“ماذا حدث؟ اشرح لي كل شيء بالتفصيل.”
“كانت غلطتي، جاء بير إلى القصر في ذلك الوقت…”
ثم استمر سيباستيان في سرد ما حدث، ناقلاً كل التفاصيل التي كان فيلوميل قد قالته.
“أنا سأشرح كل شيء، فقط احضر فيلوميل إلى هنا.”
أومأ سيباستيان برأسه بتقدير ثم خرج من الغرفة.
أما كايين فظل مشغولًا في ربط الأزرار، متأملًا كيف سيفتح الحوار الآن، وكان الوقت يمر بسرعة.
بعد قليل، فُتح الباب ودخلت فيلوميل بمفردها إلى الغرفة، كانت الغرفة مظلمة قليلاً بسبب عدم إضاءة الأنوار أو فتح الستائر.
تقدمت فيلوميل نحو كايين الجالس على السرير، وقامت بإلقاء تحية خفيفة قبل أن تجلس على الكرسي بجانب السرير، ثم ابتسمت بلطف.
“لقد مر وقت طويل.”
“نعم، من المؤكد أنك قد تأخرت.”
كان سيباستيان قد شرح مسبقًا أن كايين لم يستفق لمدة ثلاثة أيام، لذلك كان هذا أول لقاء طويل لهما بعد تلك المدة، لم يكن كايين قد ابتعد عن فيلوميل طيلة هذه الفترة من قبل.
جعل كايين لسانه يرطب شفتاه الجافتين.
“إذاً، أول شيء أريد أن أقوله لكِ هو… أنا آسف.”
“……..”
” لم أكن أنوي خداعكِ منذ البداية، كنت أنوي إخباركِ في الوقت المناسب.”
“ومتى كان هذا الوقت؟”
“……..”
نظر كايين في عيني فيلوميل.
كانت فيلوميل ما تزال مبتسمة، لكن كايين شعر أن تلك الابتسامة كانت أكثر برودًا من التعبير الخالي من العواطف.
“لأكون صادقًا، في الواقع… لم أكن أنوي أن أخبركِ أصلاً.”
في كل علاقة كان كايين هو صاحب الكلمة الأخيرة، وبالتالي لم يشعر أبدًا بأن عليه أن يراعي مشاعر أو أفكار “الطرف الآخر”.
“كنت فقط أنوي إبلاغكِ بذلك في وقت لاحق.”
“فهمت.”
“ولكن…”
“كانت تلك خطتي قبل أن التقي بكِ.”
التعليقات لهذا الفصل " 45"