الحلقة الرابعة والأربعون
لم تكن تُبدي تفاخرًا بين الناس، ولا تُسرف في إظهار مظاهر الثراء، كانت ذات قلب طيب، تعامل خدمها بلين وكرم، وتُكنّ احترامًا عميقًا لكل من سيباستيان ومادونا، اللذين خَدما القصر سنين طويلة.
كما أنها لم تتذمر يومًا من تعلّم مسؤوليات السيدة النبيلة، بل أقبلت عليها بجد واجتهاد.
غير أن أعظم ما ميزها كان علاقتها بكايين؛ إذ بدا من منظور مادونا أن بينهما مودة واحترامًا خالصين.
ولأول مرة منذ زمن بعيد، رأَت مادونا كايين يبتسم بارتياح، فامتلأ قلبها بالامتنان لفيلوميل.
وفي ذلك اليوم، وبينما كانت مادونا ترتب أمور القصر بحزم ممزوج باللطف، استقر في قلبها يقين:
“إنها ستكون دوقة ويندفيل القادمة.”
ومنذ تلك اللحظة، وهبت مادونا ولاءها الكامل لفيلوميل، دون أن تعلم هذه الأخيرة بذلك.
تلاقت عينا فيلوميل بمادونا، وكانت نظرة قصيرة صامتة، لكن مادونا فهمتها، وأشارت للخدم بالانصراف.
همّت فيليوميل أن ترفع يدها إلى جبينها، تحاول تخفيف صداعها، لكنها توقفت حين لمحت الدم اليابس على كفّها.
قالت مادونا، بصوت حنون مائل للقلق:
“سيدتي، لعلكِ ترتاحين وتأخذين حمامًا دافئًا الآن.”
لكن فيلوميل هزّت رأسها بخفوت:
“ليس الآن…”
في تلك اللحظة، دخل سيباستيان، الذي عاد لتوه مع جيو من غرفة الدوق.
“سيدتي…”
بادرت بسؤاله بقلق:
“كيف حال الدوق؟”
أجاب باحترام:
” حالته مستقرة. الجرح كان عميقًا وفقد الكثير من الدماء، لكنه نجا من الخطر، وقد خيطنا الجرح سريعًا، ولا شيء يهدد حياته الآن.”
أغمضت فيلوميل عينيها بامتنان، ثم فتحتها وسألت:
“متى يتوقع أن يفيق؟”
قال الطبيب:
“لا نستطيع الجزم، لكن نظرًا لقوة بنيته، نعتقد أنه سيستفيق خلال ثلاثة أيام.”
تمتمت فيلوميل:
“شكرًا لك، أحسنت صنعًا.”
وبعد أن غادر الطبيب، اقتربت من كايين، حتى رأت ملامحه بوضوح؛ لقد استعاد شيئًا من لونه، وهدأت قسماته، حتى خُيّل لها أنه قد يفتح عينيه في أية لحظة.
تنهدت، ثم التفتت إلى جيو وسألته بهدوء فيه شيء من الحزم:
“هل تعرف كيف أصيب الدوق بهذه الجراح؟”
ارتبك جيو، وتلعثم كمن يتهرب من الجواب:
“لا، سيدتي… في الحقيقة، الأمر…”
فقاطعته بلطف:
“لا حاجة أن تخبرني، هذه من شؤونه الخاصة، وليست من حقي.”
ورغم نبرتها الهادئة، كانت تشعر أن جيو يعرف الحقيقة، بل وتوقن أن الجرح متعلق بما يُثار حول مسألة الوراثة، وربما بامرأة أخرى…
لكنها لم تشأ أن تلوث لسانها بذكر تلك الكلمة الجارحة، فاستعاضت عنها بعبارة “شؤون شخصية”.
ابتسمت ابتسامة باهتة، ثم قالت:
“أنا مرهقة، سأنصرف الآن.”
ناداها جيو، لكنها لم تمنحه الفرصة، بل أدارت ظهرها وغادرت الغرفة بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب خلفها، ثم أسندت ظهرها إليه وزفرت تنهيدة طويلة، شعرت فيها بثقل ينهك جسدها كله؛ رأسها ينبض بالألم كأن مطرقة خفية تدقّه ببطء.
وسمعت صوتين يناديانها بقلق:
“سيدتي!”
رفعت رأسها لترى صوفيا وهارنين يركضان نحوها، وعيونهما دامعة.
رغماً عنها، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها، كأن رؤيتهما خففت عنها عبئًا ثقيلًا.
صاحت صوفيا:
“الدم… سيدتي، هناك دم كثير!”
وانفعل هارنين قائلاً:
“سيدتي! أنتِ تنزفين؟!”
قاطعت صياحهما بنبرة مطمئنة:
“ليس دمي… أنا بخير، فقط أشعر بالإرهاق، هذا كل شيء.”
لكن قلقهما لم يهدأ، بل أصرّا معًا:
“يجب أن ترتاحي حالًا!”
“صحيح! عودي إلى غرفتك، بسرعة!”
أمسكت صوفيا بذراعها بثبات، تقودها نحو جناحها، بينما واصل هارنين وصاياه بلا انقطاع:
“اغتسلي، تناولي طعامك، ودلكي جسدك، ونامي فورًا! لا مجال للنقاش!”
عند باب الغرفة، وقفت فيلوميل، وأدارت مقبض الباب، ثم لوّحت لهارنين:
“أنا بخير، عُد الآن، لا داعي للقلق.”
لكنه لم يتحرك، بل سألها بصوت خافت:
“… سيدتي، حقًا، هل أنتِ بخير؟”
توقفت، وبدت وكأنها فقدت قدرتها على التظاهر، فاختفت ابتسامتها، واكتفت بأن هزّت كتفيها قليلًا، كأنها تقول:
“لا أدري… ربما.”
ربت هارنين على كتفها بحذر، ثم تراجع، مفسحًا لها الطريق، ودخلت الغرفة حيث أعدّت صوفيا ماء الحمام.
وبينما الباب يُغلق، تنهدت فيليوميل، مستسلمة ليد صوفيا التي قادتها بلطف.
نعم، كما قالا، اليوم، كانت بحاجة ماسة إلى الراحة.
في الأيام التالية، اعتادت على روتين جديد: تستيقظ، تتناول فطورها، وتؤدي أعمالها، ثم تتعلم من مادونا، وتتنزه قليلًا، ثم تعود للراحة.
غير أن أمرًا جديدًا دخل يومها؛ كل صباح، تذهب لغرفة كايين، تفتح النوافذ، وتجلس قربه، تراقب هدوءه وتنتظر يقظته.
وفي أحد الأيام، جلست على طرف السرير، وتطلعت إلى ملامحه التي استعادت سكينتها، همست:
“سعادتك… متى ستفتح عينيك؟”
وبينما كانت تمسك بيده الخشنة التي اعتادت السيف، شعرت بدفء خاص، ولم تستطع أن تمنع نفسها من القول:
“حتى يداك جميلة… كيف هذا؟”
ثم قالت بحزم، لكن بحنان:
“حان الوقت أن تستيقظ، يا كايين.”
وغادرت الغرفة بهدوء، لكن عند عودتها، توقفت على السلالم، حين لمحت مشهدًا غير مألوف:
في الطابق السفلي، كان سيباستيان يتحدث مع رجل غريب الهيئة، ملابسه بسيطة لا تليق بزائر في قصر الدوق.
اقتربت أكثر، وسمعت الرجل يقول برجاء:
“أعتذر يا سيد سيباستيان… لكن حالة آنستي الصحية تدهورت كثيرًا، ولم أجد بدًا من القدوم، أرجوك، أخبرني عن حال الدوق، فنحن قلقون، أنا وإيما، منذ أن افترقا…”
وعندما سمعت اسم “آنستي”، شعرت فيلوميل كأن الدم جمد في عروقها.
تصلبت في مكانها، وقد عرفت فورًا المقصود…
المرأة الأخرى… والدة الطفل…
التعليقات لهذا الفصل " 44"