الحلقة الثالثة والأربعون
فرك كايين أنفه على عنقها، كمن يحاول أن يطبع رائحته عليها، ثم ضغط شفتيه بلطف على عظم الترقوة البارز.
“هاه…”
اختفى الألم من جسده كأنما ذاب في الهواء، مثل سحابة تلاشت في السماء.
شدَّ بيده المرتجفة على فستان فيلوميل حتى كاد يتمزق، والتصق جسده بها بلا مسافة تفصل بينهما، وكأنه يريد أن يذوب فيها أكثر فأكثر.
“فيلوميل… فيلوميل…”
همس باسمها بنبرة رخيمة، كمن يتأكد أنها ما زالت معه، قريبة منه.
وللتأكد أكثر، أسند جبينه إلى عنقها، يفركه بلطف، بينما تدلت خصلات شعره المبعثرة على كتفيها.
وحين لم تجبه سوى أنفاسها المضطربة، شَعَر بغصة من الغضب الصامت، فعضَّ شفته، ثم مرّرها بخفة على عظمها، يطلب الطمأنينة.
“آه…”
ارتجف جسد فيلوميل، وتقلصت عضلاتها كمن فوجئ بلمسة، فخفف من حدة حركته، وزرع قبلة خفيفة على بشرتها المرهفة.
“أجيبيني…”
تمتم برجاء، وقد بدأت رؤيته تتضح شيئًا فشيئًا.
صحيح أن ملامحها لم تكن كاملة أمام عينيه، لكنه استطاع أن يميز تقاطيع وجهها.
وحين وصلت نظراته إلى شفتيها، توقف… كانت شاحبة، وكأن لونها قد خف.
تمنى لو يرى لونها الحقيقي، خاليًا من بقايا أحمر الشفاه.
تأملها، وعندما تحركت شفتاها قليلًا كأنها تهم بالكلام، بان بينهما بياض أسنانها، ثم عادتا لتنطبقا بصمت.
لكن العطش الذي شعر به لم يهدأ، بل ازداد، يدفعه للتقدم أكثر.
“سيّد… سيّد الدوق، لحظة…”
همست فيلوميل بتوتر، لكنه لم يتوقف، بل ترك قبلة جديدة على ذقنها، جعلتها تصمت فجأة.
استمر بتتبع زاوية فمها بقبلاته المترددة، فيما غابت عيناه في عتمة التأمل.
مدَّ يده، ومرر إبهامه على شفتيها، يراقب كيف انضغطتا تحت لمسته، كاشفًا أثر اللون الذي كان يبحث عنه.
لم يملك إلا أن يميل برأسه، يمرر شفتيه بخفة حيث مر إصبعه، كأنه يلتقط بقايا الطِيب الذي علق بهما.
“… مذاقها حلو…”
همس كمن يكتشف أمرًا جديدًا، لكن الطعم وحده لم يكن كافيًا ليطفئ ما يشتعل داخله.
ترك نظراته تنزلق من عينيها المذعورتين نحو وجهها، وبينما تابعت فيلوميل حركاته بقلق، شعرت أن أنفاسها تضيق.
وأخيرًا، حين استقر نظره على شفتيها، أطلقت زفرة طويلة، فتلامست جسدهما مرة أخرى بخفة.
أغمض كايين عينيه للحظة، ثم فتحهما بنظرة مشتعلة.
“أريد أن أتذوق هذا الطعم أكثر…”
ثم انحنى، وطبع قبلة خاطفة على شفتيها.
كانت القبلة قصيرة للغاية، بالكاد لامستها، لكنها جعلت فيلوميل تحبس أنفاسها، عاجزة عن الرد.
وبينما سقط كايين بجسده عليها، فقد الوعي، لكنها لم تشعر بوزنه، وكأن جسده قد خف فجأة.
“ماذا يحدث…؟”
تمتمت، ورفعت يدها المرتجفة لتلمس شفتيها بتردد.
لم تكن هذه القبلة كأي لمسة أخرى…
“أريد أن أتذوق هذا الطعم أكثر…”
تذكرت كلماته، واحمر وجهها بشدة.
لم تعرف كيف تتصرف، فقط بقي تنفسها سريعًا ومتقطعًا.
في الأصل، كايين لم يكن من النوع الذي يقترب من النساء، ولم يُعرف عنه أنه قبل إحداهن من قبل.
لكن الآن… لقد قبّلها، وبعينيه رغبة لم يستطع إخفاءها.
هذا ما جعل عقلها يدور، عاجزًا عن فهم مشاعره الحقيقية.
نظرت إلى ملامحه المتعبة، وشاهدت كيف أن شعره، الذي كان دومًا مرتبًا، بدا مبعثرًا يغطي جبينه.
للمرة الأولى، رأت ملامحه بوضوح… رموشه الكثيفة، شفتيه التي فقدت لونها الوردي، وبقايا أثر من أحمر شفاهها العالق بهما، ما جعل قلبها يخفق بقوة.
حاولت أن تبتعد بعينيها عنه، لكنها لم تستطع، فتسللت نظرتها إلى رقبته، حيث لاحظت عرقه البارد يتساقط.
لكن رغم ما حدث، شعرت بأن حالته تزداد سوءًا، فهزّت كتفيه برفق، تناديه بقلق:
“دوق… دوق!”
أصدر كايين أنينًا خافتًا، مما زاد خوفها، فبدأت تدفعه جانبًا بقوة، حتى لاحظت أمرًا مريبًا…
“… دم؟”
همست، وقد شعرت ببلل على يدها، لم يكن عرقًا، بل دمًا أحمر.
شهقت، وسرعان ما مزقت قميصه، لتجد الضمادة الملفوفة حول بطنه غارقة بالدماء.
فكّتها بلهفة، وإذا بالدم ينزف بغزارة، كأن النزيف لا يتوقف.
ضغطت على الجرح بفستانها، صرخت:
“جيو! كم بقي لنصل إلى القصر؟ حالة الدوق خطيرة!”
“سنصل قريبًا!”
رد جيو من خارج العربة، وفي لحظات توقفت العربة، واندفع جيو حاملاً كايين نحو القصر.
حاولت فيلوميل النهوض لتتبعه، لكنها ترددت، الطبيب موجود هناك، فماذا عساها أن تفعل؟
ومع ذلك، لم تستطع البقاء بعيدًا. أرادت أن تبقى بقربه، أن تعرف حالته، أن تطمئن عليه.
دخلت القصر، تمشي بخطوات ثقيلة، كأنها تخترق سحابة كثيفة من القلق، بينما الفوضى تعم المكان.
“سيدتي!”
نادتها مادونا، مذهولة من الدماء التي لطخت ملابسها.
أجابتها بهدوء:
“اهدئي، هذا ليس دمي.”
ثم نظرت حولها، تسأل:
“أين الخدم؟”
“إنهم في حالة ارتباك، سأهدئهم…”
لكن فيلوميل قاطعتها:
“لا، اجمعيهم جميعًا هنا.”
ورغم أن ثوبها لا يزال ملوثًا بالدماء، تقدمت بخطوات ثابتة، للمرة الأولى تجمع كل خدم القصر.
وقفت في القاعة، وقالت بنبرة هادئة، لكن قوية:
“الآن القصر يعج بالفوضى، وأنا أعتمد عليكم.”
أخذت تتفقد وجوههم واحدًا واحدًا، وأضافت:
“أنتم خدم هذا القصر، عملتم فيه بإخلاص، وأثق بكم.”
ثم أكملت، ناظرة إليهم بحزم:
“الدوق مصاب، وإذا انتشرت الأخبار، ستحدث مشاكل كثيرة، لذلك عليكم أن تواصلوا عملكم كالمعتاد،لا تسمحوا بشيء يُكشف.”
صمتت لحظة، لتترك كلماتها تتردد في أذهانهم، ثم قالت:
“كونوا حذرين في كل كلمة وحركة، لا تتهاونوا.”
ثم توجهت إلى مادونا، التي كانت ما تزال تحدق فيها بدهشة، قبل أن تنتفض فجأة.
مادونا، التي كانت يومًا ما متشككة في فيلوميل، شعرت الآن بشيء مختلف…
فقد جاء كايين يومًا بهذه الفتاة، وأعلن أنها ستكون سيدة القصر.
ورغم أنها ليست من عائلة نبيلة عظيمة، إلا أن حضورها الآن كان يملأ القاعة بثقة وقوة، جعلت الجميع يصمت احترامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 43"