الحلقة الثامنة والثلاثون.
“الكونتيسة بياسين كانت…”
توقفت فيلوميل عن الحديث فجأة، وألقت نظرة نحو الكونتيسة بياسين.
ألهذه الدرجة تخاف من كايين؟
راودت فيلوميل دهشة خفيفة، فقبل لحظات فقط، كانت الكونتيسة شامخة بأنفها، تُهين ناديا علنًا دون تردد، أما الآن، فقد شحب وجهها تمامًا وكأنها شخصٌ آخر، هذا التحول المفاجئ في الموقف لم يكن سوى أمر يثير الاستغراب.
فابتسمت لها فيلوميل بود، وقالت بنبرة هادئة:
“لقد كانت لطيفة جدًا، لقد استمتعت حقًا في الواقع، اتفقنا أن نلتقي في حفلة الشاي القادمة أيضًا.”
في البداية، لم تستوعب الكونتيسة بياسين ما سمعته، ورفّت جفنها بدهشة، لكن سرعان ما استعادت توازنها، وبدّلت ملامحها ببراعة.
“يسعدني أنكِ قضيتِ وقتًا ممتعًا يا آنسة.”
لم يكن ذلك غريبًا على امرأة كانت يومًا ما زهرة المجتمع المخملي، فقد بدّلت موقفها بسرعة مذهلة، تبادلت مع فيلوميل نظرات ودودة وابتسامة هادئة… لكن كلتاهما أدركت تمامًا أن الأخرى ليست سهلة أبدًا.
وفي قلب هذا الجو المتوتر، كانت ناديا الوحيدة التي لم تفهم ما يجري.
ما الذي يحدث هنا بحق الجحيم؟
ناديا كانت قد ركبت العربة برفقة فيلوميل صباحًا، وكلها تصميم على أمرٍ واحد: أن تفوز برضا الكونتيسة بياسين قبل فيلوميل، وتعود إلى المجتمع الراقي بشكل باهر.
فمنذ أن انتشرت الأحاديث عن هروبها مع إيمون، تنكّر لها كل من كانت تحافظ معهم على علاقاتٍ سابقة.
لذا، كانت هذه المناسبة بمثابة فرصة أخيرة لها.
لكن الكونتيسة بياسين كانت لطيفة فقط مع فيلوميل، لا، بل وأهانت ناديا دون سبب واضح، وقارنتها بفيلوميل في كل فرصة سنحت لها.
في البداية، ظنت ناديا أن الكونتيسة صدّقت الشائعات عنها، فحكمت عليها مسبقًا.
إلا أن نظرة سريعة إلى ضيوف حفلة الشاي، وإلى ملابس الكونتيسة المحتشمة، جعلتها تفهم كل شيء.
فيولميل خططت لهذا مسبقًا.
وحين ظهر كايين، شعرت ناديا وكأن منقذها قد وصل، ورغم أنه لم يلقِ عليها حتى نظرة، إلا أن وجوده وحده كان يكفي ليشعرها بالأمان.
لهذا، استجمعت قواها مرة أخرى، وقررت أن تتحدث مع الكونتيسة بياسين.
“إذًا… أنت أتيت لمقابلة الآنسة فيلوميل؟زخطيبتك…؟”
لكن مع تلك الكلمات، أدركت فجأة أن الكونتيسة كانت قد ظنتها هي فيلوميل!
إذًا كل تلك الإهانات… كانت بسبب أنها حسبتني فيلوميل؟
لم تستوعب الأمر تمامًا، لكنه منحها أملًا خافتًا، ما دامت الكونتيسة قد أخطأت في هويتها، فربما تبدأ الآن بمعاملتها بلطف.
لكن ذلك لم يحدث.
فقد تجاهلتها الكونتيسة تمامًا، وكأن وجودها لم يعد يُذكر.
كانت ناديا تتابع تلك الابتسامات المتبادلة والضحكات الخفيفة بين فيلوميل وكايين والضيوف الآخرين، غير قادرة على قول كلمة واحدة بقيت تحدّق إليهم، عاجزة عن الفهم، في حالة من الذهول التام.
وفيما كانت على تلك الحال، كانت حفلة الشاي تستمر من حولها…
انتهى الحفل دون أن تدرك ناديا كيف مر الوقت، وبينما كانت تراقب الكونتيسة بياسين تودّع كايين وفيلوميل، نهضت من مكانها على عجل.
“فيلوميل!”
التفتت فيلوميل إليها وهي تهمّ بالصعود إلى العربة، وأمالت رأسها قليلاً باستغراب.
“ماذا هناك؟”
“ماذا هناك؟! أحقًا تسألين؟!”
ناديا لم تستطع كبح مشاعرها، وكان الغضب يتصاعد في صوتها.
“لقد تعمدتِ ذلك، أليس كذلك؟”
قطّبت فيلوميل حاجبيها، ثم تنهدت وكأنها لا تملك الطاقة للدخول في نقاش طويل.
“عن أي شيء تتحدثين، ناديا؟ أنا مرهقة.”
“الثوب! أنتِ مَن أعطاني هذا الثوب! كنتِ تعلمين مسبقًا أن الكونتيسة تكره الأزياء الفاخرة، ومع ذلك زينتِني بهذا الشكل المتكلّف!”
اكتفت فيلوميل بتشابك ذراعيها، ونظرت إلى فستان ناديا الأزرق اللافت.
ثم قالت بنبرة دافئة:
“ناديا…”
ومدّت يدها برفق إلى شعر ناديا المتدلّي في خصلات مموجة كثيفة، تمسحها بلطف، ثم نقرته بخفة كما لو كانت توقظ عقلها النائم.
“فكّري جيدًا، أليس أنتِ من طلبتِ ثوبًا لافتًا بنفسك؟”
ناديا لم تجد ما تقوله، فقد كانت هي بالفعل من طلبت مظهرًا جذّابًا… لم تستطع إنكار ذلك.
بدأت تحرّك شفتيها كأنها سترد، ثم استدارت ناحية كايين وقالت:
“دوق كايين، أرجوك، قل شيئًا…”
“…أنا؟”
للمرة الأولى في حياته، أدرك كايين أن هناك لحظات تصيب فيها الدهشةُ الإنسان لدرجة تعجزه عن الكلام.
ناديا كانت تنظر إليه بعينَي من يستنجد بحليف، بينما هو كان بالكاد يتحمل انزعاجه من إفسادها للحظةٍ كان يودّ تمضيتها مع فيلوميل وحدها.
“ناديا أليس.”
قالها بصوت حازم بعد أن نفد صبره تمامًا.
“إذا أردتِ أن تفقدي صوابك، فتفضلي، لكن لا تجرّي فيلوميل أو أنا إلى جنونك.”
“…ماذا؟ ماذا تعني بكلامك؟”
شعرت ناديا وكأن أحدهم صفعها بقوة على مؤخرة رأسها.
“وأتمنى كذلك أن تغادري منزلي فورًا، فأنا لا أستضيف في منزلي أي امرأة سوى زوجتي، أغراضك بانتظارك أمام الباب الرئيسي، خذيها واغربي.”
ثم وضع كايين ذراعه حول خصر فيلوميل بقوة وثقة، وأردف قائلاً:
“وأعتقد أني أظهرت ما فيه الكفاية من اللطف تجاه طفيليات لا تجيد سوى استنزاف الطعام.”
ساعد فيلوميل في الصعود إلى العربة، ثم التفت مرة أخيرة إلى ناديا التي كانت لا تزال واقفةً في ذهول.
اقترب منها قليلاً وهمس، بصوت لم تسمعه سوى أذنه:
“إذا ظهرتِ مجددًا أمام فيلوميل، فلن تكون أطرافك كما هي.”
وانطلقت العربة، تاركةً ناديا واقفة في مكانها، لا تعرف أكانت تتنفس أم لا.
***
“دوق.”
قالت فيلوميل، بمجرد أن تحركت العربة، وهي تنظر إلى كايين.
“أنت من خطط لهذا، أليس كذلك؟”
لم يكن سؤلاً، بل كانت يقينًا منها.
نظر إليها كايين، وأومأ برأسه مؤكداً.
“نعم.”
في الحقيقة، لم يكن ذلك مفاجئًا تمامًا. فيلوميل كانت تشعر أن هناك شيئًا غير طبيعي منذ مساء الأمس فجأة، بدأت الملابس تتدفق إلى صالون بيوتيه، رغم أنهم عادةً ما يشترون الملابس بشكل دوري، لكن لم يكن قد حدث من قبل أن وصلت بهذه الطريقة المفاجئة.
وعندما سألته مدام بيوتيه عن السبب، كانت الإجابة:
“لقد طلبها الدوق، وكانت هدية مفاجئة لحضرتك.”
طوال الوقت الذي عرفته فيه، لم يكن كايين من النوع الذي يقدم هدايا مفاجئة كهذه، إذا أراد أن يعطي شيئًا، كان يظهره بنفسه، ولا يرسل أحدًا ليفعل ذلك.
وفي اليوم التالي، عندما جاءت خادمة ناديا لتطلب فستانًا فاخرًا للاستعارة، تذكرت فورًا أن كايين كان قد أرسل الهدية في الليلة الماضية.
فستان أزرق كان يناسب ناديا بشكلٍ تام، وكان بعيدًا تمامًا عن ذوق فيلوميل.
لذلك، أرسلت الفستان مع المجوهرات التي تليق به.
أما فيلوميل، فقد ارتدت فستانًا أخضر داكن يناسب ذوق السيدة بياسين التي كانت تحب الأزياء المحتشمة، وهكذا، أصبحت المقارنة بين فيلوميل وناديا لا مفر منها ربما كان هذا هو السبب في حدوث كل تلك الإساءات غير المقصودة.
وعندما دخل كايين إلى حفلة الشاي، كانت فيلوميل قد تأكدت تمامًا من أنه قد فهم خطتها وبدأ في تنفيذ شيء مشابه لما كانت تفكر فيه.
كان مخطط فيلوميل مشابهًا جدًا لمخطط كايين.
في البداية، كانت تنوي أن تأخذ ناديا معها إلى الحفلة، كانت قد همست عن حفلة السيدة بياسين، متوقعةً أن ناديا ستنضم إليها، وبعد ذلك، كانت تخطط لإظهار أفخم فساتينها، لعل ناديا تختار أحدها، حتى تكون المقارنة أكبر.
كانت فيلوميل تخطط لارتداء الفستان الأخضر الداكن الذي يناسب ذوق السيدة بياسين تمامًا، لزيادة الفجوة في المقارنة بينهما.
تحرك كايين بدعم خفيف لخطة فيلوميل.
“لماذا فعلت ذلك؟”
“سيدتي.”
فك كايين ساقيه المتشابكتين واقترب من فيلوميل، مستعرضًا جسمه نحوها.
“السبب الذي يجعلني أكره ناديا أليس هو أنها تعاملتكِ بإهمال.”
صوت خلع القفازات سمع بجانبها.
بينما كانت القفازات البيضاء تُخلع، ظهرت يد كايين التي كان هيكلها العظمي واضحًا.
“بغض النظر عن مساعدتي لك في الانتقام، إلا أنني أرغب في التخلص من نادية أليس، لأنها تستخف بشخص مهم بالنسبة لي، شخص أحبه وأعتني به.”
وصلت أطراف أصابع كايين الطويلة إلى أذن فيلوميل.
مس طرف أصابعه الحارّة حافة أذنها برقة، مما جعل شعورًا غريبًا ينتشر على جسدها وكأن ريشة هبطت عليه، بالطبع، لم يكن شعورًا سيئًا.
عندما تلاقت عيونها مع عينيه البنفسجيتين المليئتين برغبة خفية، شعرت بأن تنفسها أصبح أسرع بشكل غير مفسر.
تذبذبت رموش فيلوميل مع الشعور الغريب في أطراف أصابع كايين، ثم خفضت عينيها.
“سأجعلكِ شخصًا يحترمه الجميع.”
وصل طرف يده الذي كان ينزل إلى أسفل أذنها ليشعر بلطف على القرط الذي كان في أذنها.
اهتز جسد فيلوميل بحساسية من اللمسة الخفيفة.
“القرط يناسبكِ تمامًا.”
كان القرط مزينًا بحجر بنفسجي اللون، تمامًا مثل لون عيني كايين.
التعليقات لهذا الفصل " 38"