الحلقة السابعة والثلاثون.
اقتربت الكونتيسة بياسين من الضيفتين بخطى واثقة.
التفتت الآنسة الشقراء بسرعة عند سماع الخطوات، فتأرجحت أقراطها الكبيرة مع حركتها.
وما إن رأت الكونتيسة بياسين حتى أشرقت بابتسامة واسعة، ونهضت واقفةً بحماس.
“كونتيسة بياسين! لقد أتيتِ! كنت حقًا أرغب في رؤيتكِ…”
“يكفي التحية، اجلسي يا آنسة.”
“نعم…؟ هل تعرفينني؟”
“لو لم أكن أعرفك، لما طلبت منك الجلوس، هل يجب أن أكررها ثلاث مرات؟”
“آه… ن- نعم… بالطبع…”
جلست الآنسة الشقراء مرتبكة، بينما كانت تحاول أن تضبط تعابير وجهها.
جلست الكونتيسة بياسين، ثم أخذت توزع نظراتها على الحضور، تلتقي بأعينهم بهدوء واحدًا تلو الآخر.
وفي النهاية، التقت عيناها بعينَي الآن ذات الشعر البني، التي كانت جالسة بصمت عيناها الخضراوان، بلون فستانها الهادئ، أغمضتهما تحيةً ثم فتحتهما من جديد.
لم تستطع الكونتيسة بياسين أن تخفي ابتسامتها؛ فقد أعجبها ما رأته أكثر مما توقعت.
“فرصة رائعة للمقارنة.”
لم تكن الكونتيسة قد حضرت خطوبة الدوق ويندفيل، لذا لم ترَ فيلوميل من قبل، وكل ما سمعته عنها كان مجرد شائعات.
لكن في لحظةٍ مناسبة، تواصلت الإمبراطورة معها، وطلبت منها التعامل مع فيلوميل بشكل خاص، كانت الإمبراطورة تخطط لعزلها اجتماعيًا من دون أن تتدخل بنفسها.
ومن أجل ذلك، كانت الكونتيسة بياسين مستعدة تمامًا لإضعاف فيلوميل قبل أن تبدأ فعليًا في دخول عالم النخبة في البلاط.
لذلك، لم تُتح لها حتى فرصة إلقاء التحية، بل بادرت مباشرةً بطرح الأسئلة الواحد تلو الآخر.
“ما رأيكِ في نكهة الشاي؟ هل تستطيعين تمييز منطقته، آنسة؟”
“أنا؟ حسنًا، الطعم رائع! أعتقد أنه من الجنوب!”
استدارت الكونتيسة بياسين ببطء نحوها.
“وهل تتفقين مع هذا الرأي، آنسة؟ هل ترين أنه شاي من الجنوب أيضًا؟”
“بناءً على معرفتي المتواضعة، أعتقد أنه شاي من الشرق، طعمه فيه مرارة خفيفة، لكنها تنتهي بحلاوة مميزة، مثل شاي الشرق.”
“حقًا؟ يبدو أنك تملكين معرفة جيدة، بخلاف البعض.”
قالت الكونتيسة بياسين جملتها الأخيرة بنبرة مقصودة، وهي تقارن بشكل صريح بين الضيفتين.
وبينما استمرت هذه المقارنات المُهينة، بدأت تعابير الآنسة الشقراء تتصلب شيئًا فشيئًا، بدا واضحًا أنها أدركت نوايا الكونتيسة الخفية.
شعرت الكونتيسة أنها ربما ذهبت بعيدًا قليلًا، فقررت أن تسترخي قليلًا بطرح سؤال عابر.
“هل الدوق في صحة جيدة؟ ما زلت أشعر بالذنب لأني لم أتمكن من حضور حفل خطوبتكما بسبب مرضي في ذلك الوقت.”
“ماذا…؟”
رمشت الآنسة الشقراء بعينيها، مذهولة.
“ماذا تقصدين؟ لم أفهم…”
لكن قبل أن يتسنى لها التفاعل أكثر، كانت الآنسة ذات الشعر البني ما تزال تبتسم بهدوء بجانبها.
عندها، اقتربت مدبرة الخدم بسرعة وهمست بقلق:
“سيدتي…!”
“ما هذه الجلبة؟”
“ذلك… الأمر هو…”
تلعثمت مدبرة الخدم، ولم تستطع أن تواصل حديثها بشكل واضح.
بدأت عينا الكونتيسة بياسين تزدادان حدة بسبب هذا التصرف غير اللائق أمام الضيوف، ولكن قبل أن تنفجر في غضبها، جاء الاضطراب من مكان آخر تمامًا عند مدخل الحديقة.
انقبض حاجبا الكونتيسة، ووجّهت نظرها إلى جهة الضجيج الذي تصاعد من ناحيته، وكأن هناك من دخل بيتها دون إذنها.
كان هناك عدد من الأشخاص يقتربون، لكن من جذب الأنظار فورًا كان رجلًا ذا حضور طاغٍ، يرتدي ملابس خفيفة ويبدو أنيقًا بطريقة غير رسمية، كان شعره الفضي يلمع تحت أشعة الشمس، وعيناه البنفسجيتان تسطعان بجاذبية غريبة.
بنية جسده القوية كانت واضحة حتى من تحت ملابسه، وملامح وجهه الحادة جذبت الأنظار كلها نحوه كما لو كان لوحة فنية خرجت من إطارها.
رفع شفتيه بابتسامة مائلة، متغطرسة لكن فاتنة، جعلت هالته الساحقة تبدو فجأة أكثر سلاسة، وانحنت عينا الرجل الحادتان بشيء من اللين.
“فيلوميل.”
صوته العميق والهادئ هبط على لحظة الصمت كقطرة ماء على سطح ساكن.
دون أن يتوقف، تابع خطاه بخطوات واثقة، مرّ بجانب الكونتيسة بياسين وكأنها غير موجودة، وانحنى أمام إحدى السيدات، ثم طبع قبلة خفيفة على خدها الوضّاء.
“هل كنتِ تستمتعين بوقتكِ؟”
والسيدة التي قَبّلها لم تكن سوى ذات الشعر البني فيلوميل.
فيلوميل اتسعت عيناها بدهشة لم تستطع إخفاءها، لكنها سارعت بضبط تعابيرها.
“كايين؟ كيف وصلت إلى هنا؟”
نطقت اسمه بدهشة، وما إن سمعت أذناه ذلك حتى ارتجف للحظة، ثم انتصب بجسده وأجاب:
“كيف لي ألا أقلق؟ هذا أول ظهور لكِ في مناسبة اجتماعية منذ خطوبتنا، لا يمكنني البقاء مكتوف اليدين.
كونتيسة بياسين، أرجو أن تسامحيني على تدخلي غير المعلن، لكن خطيبتي العزيزة كانت تشغل بالي كثيرًا.”
ثم انحنى لها بتحية خفيفة.
“…الاعتذار؟ لا داعي لذلك أبدًا يا صاحب السمو، لم يكن هناك أي تصرف غير لائق.”
ردّت الكونتيسة بلباقة متماسكة، تتبادل النظر بين كايين وفيلوميل بعينين تزدادان اضطرابًا رغم هدوء صوتها، لم تستطع إخفاء الحيرة في عينيها، حتى وهي تحاول أن تحافظ على ماء وجهها.
ابتلعت ريقها ثم سألت بصوت خافت:
“إذاً… جئت خصيصًا لمقابلة الآنسة فيلوميه؟ خطيبتك؟”
“بالضبط، هل قضيتِ وقتًا ممتعًا، فيلوميل؟”
أشار كايين بيده، فأسرع خدم آل بياسين ليجلبوا له مقعدًا جلس فيه بهدوء وكأنه في بيته.
رفعت فيلوميل فنجان الشاي إلى شفتيها لتغطي جزءًا من وجهها وهمست بسرعة من خلفه:
“كيف وصلت إلى هنا فجأة؟ من دون حتى أن تخبرني؟!”
كانت على وشك أن تفقد السيطرة على تعابير وجهها.
“قلتُ لك، أتيت لأنني قلق على خطيبتي.”
ردّه الوقح جعل فيلوميل تلتفت إليه لا شعوريًا، كان كايين يحدق بها منذ البداية، وما إن التقت أعينهما حتى ابتسم لها بابتسامة واسعة وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة.
حين وقفت أمام ثقته وجرأته، لم تجد فيلوميه ما تقوله، عندها همس لها كايين بصوت خافت:
“إذن، هل تسير الأمور كما خططنا لها؟”
“…نعم.”
أجابت بسرعة، ثم رمقت الكونتيسة بياسين بنظرة سريعة، كانت الأخيرة لا تزال مذهولة.
“هل كنتُ مخطئة إذًا؟”
بدأت الكونتيسة بياسين تنظر بذهول ما بين فيلوميل وناديا، لقد أخطأت بين الاثنتين ظنّت أن ناديا هي فيلوميل، وأن فيلوميل ليست سوى فتاة عادية!
حتى هذه اللحظة، كانت تمدح من ظنتها الصديقة، وتنتقد الأخرى، وكل شيء كان مبنيًا على هذا الخطأ الفادح.
“هل… هل خدعوني عمدًا؟”
نظرت مجددًا إلى كلتيهما، ناديا كانت تحدق إلى فيلوميل وكايين بتعبير متصلب، بينما فيلوميل بدت غير مبالية تمامًا، تواصل حديثها مع النبيلات الأخريات، متجاهلة نظرات ناديا تمامًا.
ومع ذلك، وبسبب تدخل كايين المستمر، وجدت فيلوميل نفسها تتحدث معه على انفراد أغلب الوقت.
“لكن… من لم تتلقَ التحية كانت أنا!”
منذ البداية، رفضت بياسين إعطاء فيلوميل فرصة للسلام، رغبة منها في تحطيم ثقتها. لكنها لم تكن تدرك أنها كانت تستهدف الشخص الخطأ تمامًا.
اهتزّ جسد الكونتيسة المرتجف من وقع الصدمة، لكنها سرعان ما استعادت توازنها، وبابتسامة مصطنعة التفتت إلى كايين وفيلوميل:
“لو كنت أعلم أن الدوق سيشرفنا بحضوره، لتحضرنا بشكل أكثر رسمية. أخشى أن تكون هذه الجلسة المتواضعة دون المستوى.”
“لا داعي للقلق. أنا المخطئ لأني أتيت من دون سابق إنذار، لقد سبقني قلقي عليها إلى هنا.”
قالها وهو يمسك بيد فيلوميل بلطف. فابتسمت هي بخجل خفيف.
مرر كايين يده على ظاهر يدها برقة.
“فيلوميل، هل كنتِ تستمتعين بوقتك؟”
“نعم.”
أومأت برأسها وهي تهمس.
تنفست الكونتيسة بياسين براحة عند سماع الجواب.
لكن كايين نظر إليها بطرف عينه، بابتسامة ساخرة، ثم سأل:
“وهل كانت الكونتيسة بياسين لطيفة معك؟”
كان السؤال كالسهم أصاب الكونتيسة في مقتل.
لم تتوقع أبدًا أن يُحرجها بهذه المباشرة.
رغم أن نفوذ عائلة بياسين المالي والسياسي ليس كبيرًا، إلا أن مركزها كمربية الأمير الثالث، وكونها ممثلة للإمبراطورة، كان يجعل الجميع يهابها.
لكن كايين ويندفيل، كان من القلائل الذين لا يترددون في مواجهتها.
شعرت أن مصيرها الشخصي أصبح الآن معلّقًا بإجابة فيلوميل، فتحول وجه الكونتيسة إلى اللون الأبيض الشاحب من شدة الخوف.
التعليقات لهذا الفصل " 37"