الحلقة الثانية والثلاثون.
نهضت ناديا من مكانها بعدما توقفت عن البكاء شيئًا فشيئًا.
دخلت إلى غرفة الملابس ووقفت أمام المرآة الكبيرة الممتدة من الأرض حتى السقف، ثم بدأت تتأمل جسدها ووجهها من زوايا مختلفة.
كان شعرها المتدلِّي بلا تموّجات لا يزال كثيفًا، يتلألأ تحت الإضاءة بلون ذهبي ناعم.
وعيناها المبللتان بالدموع بدتا أكثر زرقة من المعتاد، مما أضفى عليهما جمالًا خاصًا.
وبسبب التوتر النفسي في الأيام الأخيرة وعدم تناول الطعام جيدًا، فقدت بعض الوزن، مما أظهرها بصورة أكثر رقة ونحافة.
“… لا زلت أجمل من فيلوميل.”
كانت فيلوميل تملك شعرًا بنيًّا مائلًا للذهبي وعينين خضراوين، لكن ألوانها لم تكن جميلة في نظر ناديا.
أما هي، فبشعرها الأشقر وعينيها الزرقاوين، فقد كانت المثل الأعلى للجمال الأرستقراطي.
“بالتأكيد، دوق ويندفيل أصبح يفضلني على فيلوميل الآن… لكن ربما عليّ أن أعتني بنفسي أكثر قليلًا؟”
كما وقع إيمون في حبها، كانت واثقة أن كايين أيضًا سيقع في حبها.
بل كانت تؤمن أنه سيحبها أكثر بكثير مما أحبها إيمون.
لأنها وكايين… كانا مقدّرين لبعضهما البعض.
ومع هذا التفكير، تحسنت حالتها المزاجية فجأة، وبدأت تدندن بلحن خافت بينما تخرج من غرفة الملابس.
***
فتحت ناديا عينيها بعد أن أتمّت تزيين نفسها بالكامل.
كانت تنظر إلى انعكاسها في المرآة، حيث بدت شابة مشرقة، جميلة ونقية، ترمش بعينيها برقة.
ابتسمت ابتسامة مشرقة، ثم نظرت من خلال المرآة نحو الوصيفة التي كانت تقف خلفها.
لكن الوصيفة لم تقل شيئًا رغم تلاقي الأعين، مما جعل ناديا ترفع حاجبيها بدهشة.
“همم؟”
“نعم؟”
“ألا يوجد شيء تودين قوله؟”
ظلّت الوصيفات يرمشن للحظة، ثم رفعت إحداهن صوتها فجأة قائلة:
“يا إلهي، زينتك اليوم رائعة جدًا! بشرتك البيضاء كالثلج تتناسق بشكل مثالي مع اللؤلؤ!”
“صحيح تمامًا! هل تقومين بالعناية ببشرتك بشكل خاص يا آنسة ناديا؟ تبدين كأنكِ تستحمين بالحليب!”
ضحكت ناديا ضحكة خفيفة سعيدة، فقد كانت تنتظر هذه الإطراءات.
“آنسة ناديا، ألا تشعرين بالبرد؟ هل أحضر لكِ شالًا؟ الطقس يزداد برودة هذه الأيام.”
كانت كلمات الوصيفة منطقية، فالفستان الذي اختارته ناديا لم يكن مناسبًا لموسم الخريف الذي بدأ يميل إلى البرودة.
ومع ذلك، هزّت ناديا رأسها بإصرار وقالت:
“لا بأس، أنا لا أصاب بنزلات البرد بسهولة.”
ثم تابعت بصوت أكثر اهتمامًا:
“على كل حال، أليس من المفترض أن يقيم الدوق في القصر اليوم؟”
“نعم، لقد سألت كبير الخدم.”
“جيد، هل يمكنكِ أن ترشديني إلى الحديقة؟”
أمسكت ناديا بيد الوصيفة وبدأت تمشي معها.
مرّت عبر رواق دافئ مرصوف بأحجار التسخين التي كانت مثبتة بكثافة في الأرض، ثم خرجت من القصر.
“آه!”
شهقت ناديا فجأة حين تسلّلت نسمة باردة بين ملابسها.
‘هل… هل كان الجو باردًا لهذه الدرجة؟’
لم تكن قد خرجت من القصر منذ وصولها بالأمس.
ولأن أجواء الداخل كانت دافئة للغاية، فقد نسيت برودة الطقس، لذا بدا البرد أقسى مما هو عليه فعليًا.
“آنسة ناديا، هل أحضر لكِ شالًا الآن؟”
“لـ-لا، لا حاجة.”
هزّت ناديا رأسها بعناد، ثم خفّضت صوتها وقالت:
“بالمناسبة، هل حصلتِ على ما طلبتُه منك؟”
“آه، نعم.”
كانت ناديا قد تمكّنت من جذب إحدى الوصيفات فور وصولها إلى بيت الدوق، فقط بجمالها.
كانت تعرف تمامًا أثر جمالها وقوّته
بابتسامة واحدة وكلمة طيبة، كان الخدم يتأثرون بها بسهولة.
ولذلك، ما إن لاحظت أن الوصيفة لم تستطع أن تُبعد نظرها عن وجهها منذ لقائهما الأول، أدركت فورًا أنها أصبحت تحت تأثيرها.
وأول مهمة كلّفتها بها كانت جمع معلومات عن فيلوميل.
“الآنسة فيلوميل تتلقى تدريبًا من مديرة الخادمات لتكون مضيفة القصر.”
“لا يهمني هذا النوع من الأشياء، أعني… لا أريد معلومات عن تلك الأمور.”
“هاه؟ لا تريدين… هذا؟”
“نعم. أقصد، ماذا فعلت بالأمس مثلًا؟”
ظهرت لمحة من التردد على وجه الوصيفة، لكنها سرعان ما أعادت ترتيب تعابيرها.
“هل تقصدين… معرفة كل تفاصيل تحرّكاتها؟”
أومأت ناديا برأسها، وهي تبتسم بخجل:
“نعم، أحتاج إلى ذلك فعلًا، خادمتي السابقة كانت تقوم بهذا دائمًا.”
ثم نظرت حولها بسرعة، وبعد أن تأكدت من عدم وجود أحد، اقتربت من الوصيفة وهمست في أذنها:
“إذا أصبحتُ دوقة يومًا ما، سأجعلك تظلين وصيفتي الخاصة.”
“…مفهوم، سأقوم بذلك.”
ابتسمت ناديا بارتياح بعدما زال التردد من وجه الوصيفة.
“إذًا، ماذا قالت لكِ عن يومها أمس؟ هل كانت غاضبة أو شيء من هذا القبيل؟”
“لا… لم أسمع شيئًا من هذا النوع، أعتقد أنها تناولت العشاء مع الدوق مساءً.”
“ماذا؟ حقًا؟ ولماذا لم يدعوني؟”
“…….!”
شهقت ناديا وغطّت فمها بيدها.
“فهمت… فيلوميل بدأت تعتبرني منافِسة.”
“منافسة…؟”
“بالطبع! لا يوجد تفسير آخر لعدم دعوتي لا بد أنها شعرت بالتهديد حين رأت كم أنا جميلة الآن
فكري بالأمر… كانت فرصة نادرة لتتناول العشاء مع خطيبها، ولو كنتُ موجودة، لكان الدوق ركّز نظره عليّ فقط.”
في العادة، حتى لو كان هناك خطوبة، فإن اللقاءات بين الطرفين داخل القصر لم تكن كثيرة أو متكررة.
كان من الطبيعي أن يتناول الخطيبان الطعام معًا بعد غياب، ولهذا لم يخطر ببال ناديا أن علاقتهما جيدة، فقد افترضت ببساطة أن العشاء بينهما أمر معتاد.
“يمكنني تفهم الأمر… ولكن…”
لماذا كان صدرها يؤلمها إلى هذا الحد؟
أدارت ناديا رأسها وهي ترتجف من طرف رموشها، شعرت بأن الدموع على وشك أن تنهمر، لذا بدأت ترمش بسرعة متعمدة لتمنعها.
‘ليس بعد… الدوق فقط لم يدرك مشاعره بعد، هذا كل شيء، عندما يراني مجددًا، بالتأكيد سيدعوني للعشاء.’
أوه… لكن حتى لو كنا قد وقعنا في الحب من النظرة الأولى، أليس من المبكر دعوة أحدهم إلى العشاء في اللقاء الثاني؟
بدأت ناديا تنغمس في أحلامها السعيدة، وسرعان ما عادت البهجة إلى خطواتها وهي تتوجه نحو الحديقة.
كانت حديقة قصر ويندفيل جميلة بقدر جمال القصر نفسه، وفي هذا الجو البارد، نادرًا ما تُرى الأزهار متفتحة، إلا أن الدفيئة كانت مليئة بالزهور المزهرة، وكل زهرة كانت متألقة لا ذبول فيها، ما جعل النظر إليها متعة بصرية.
‘آه، سأنسق منها باقة!’
سآخذها إلى الدوق، وسألمح له بمشاعري عندها، لن يتردد في الاقتراب مني.
فرحة بالفكرة، أمرت ناديا خادمتها بإحضار مقص الحديقة.
رغم شكوك الخادمة، لم تصدق عينيها عندما رأت ناديا تقطع زهرة وردية صفراء بلا تردد.
“آنسة..ن- ناديا…”
كانت الخادمة من ذوات الخبرة الطويلة في قصر ويندفيل، تعاملت مع الكثير من الضيوف وتعرضت لمواقف شتى، لذا كانت تفتخر بعدم ارتباكها مهما كان الموقف.
لكن تصرفات ناديا، من البداية حتى النهاية، كانت لا تُصدق.
ولولا تحذير السيدة مادونا، رئيسة الخادمات، لكانت ركضت بالفعل لتخبر السيد سيباستيان أو مادونا بما جرى.
‘كان ما قالته صحيحًا…’
“استمعي جيدًا. السيدة التي سترعينها هذه الأيام… عقلها ليس على ما يرام، لذا، إن تصرفت بغرابة، لا ترتبكي ولا داعي لإبلاغي في كل مرة، فقط أخبريني بكل شيء قبل مغادرتك في نهاية اليوم.”
بسبب مظهرها الخارجي المتزن، كان من الصعب التصديق في البداية، لكن بعد يوم كامل معها، بات من الواضح أن كلمات مادونا كانت صادقة.
ناديا بدأت تدندن بلحن هادئ، تقطع الأزهار المتفتحة بكل فرح، واحدة تلو الأخرى.
وحين جمعت باقة من الزهور المتفاوتة الطول، ابتسمت برضا ونظرت إلى خادمتها.
“ما رأيك؟ جميلة، أليس كذلك؟”
“ن- نعم… بالفعل…”
“آمل أن تعجب الدوق، آه، بالمناسبة، هل تعرفين ما لونه المفضل؟”
لكن كيف لخادمة تستقبل الضيوف أن تعرف ذلك؟ لذا هزت رأسها نفيًا.
ناديا نقرت بلسانها ضجرًا.
“همم، عديمة الفائدة فعلًا، لكن لا بأس، لن أتخلى عنك.”
“آه، شكرًا لك…”
وبينما كانت ناديا تغادر الدفيئة، تحضن باقتها، راضية تمامًا…
“ناديا؟”
“فيلوميل؟ آه، دوق!”
عندما أدارت ناديا رأسها لسماع صوت فيلوميه، رأت كايين واقفًا بجوارها، ولم تستطع إخفاء فرحتها.
“ناديا، ماذا تفعلين الآن؟”
“آه، هذا؟ لا شيء مهم.”
“……يبدو مهمًا جدًا، في الواقع.”
وبينما استمرت فيلوميل في استجوابها، لم تجد ناديا مفرًا من أن تمدّ باقة الزهور نحو كايين.
“هدية لك، سيدي الدوق.”
“…لي أنا؟”
نظر كايين حوله، متفاجئًا، وعندما تأكد أنه لا أحد سواه، أشار إلى نفسه بإصبعه.
ناديا ابتسمت بخجل.
لكن كايين، وكأن الباقة شيء مقزز، ناولها إلى جيو بإهمال كمن يتخلص من شيء غير مرغوب فيه.
ناديا، التي كانت تسبح في سعادة اعتقادها بأن كايين قبل مشاعرها، لم تلاحظ تلك الإهانة.
‘أوه، صحيح! فيلوميل ما زالت هنا!’
التفتت ناديا على عجل لترى فيلوميل وقد أدارت وجهها، تغطي فمها بيدها، وجهها بدا مشوهًا بالألم، ويداها وكتفاها ترتجفان بشكل واضح.
‘ماذا أفعل؟ الدوق أظهر مشاعره تجاهي بوضوح أمامها، من المؤكد أن فيلوميل مستاءة الآن…’
بدأت ناديا تعضّ شفتها بتوتر.
وفي تلك اللحظة، هبّت نسمة باردة.
“آه!”
ارتجف جسد ناديا من شدة البرد.
ثم تبعتها نوبة سعال، فهرعت إليها خادمتها.
“آنسة ناديا، دعيني أُحضر لك شالًا.”
“لا، لا بأس.”
نظرت ناديا خلسة إلى معطف كايين، قلبها ينبض بقوة، كانت متوترة من أن يتغلب على مشاعره ويخلع سترته ليعطيها لها.
“هل تشعرين بالبرد؟” سأل كايين فجأة.
قفز قلب ناديا من مكانه، وعينها اتسعتا.
‘لا، لا تفعلها أمام فيلوميل، ليس الآن…’
لكن عندما رأت كايين يخلع سترته بالفعل، أغمضت عينيها بشدة، كأنها لا تطيق رؤية ما سيحدث بعدها.
التعليقات لهذا الفصل " 32"