الحلقة التاسعة والعشرون.
“حسنًا، كلامها لم يكن خاطئًا.”
رفع كايين كتفيه بلا مبالاة.
“على كل حال، ألم تطلبي مني أن احضر الدعوات التي وصلت باسم الآنسة؟”
“آه، نعم.”
“لابد أن سيباستيان قد وضعها في الغرفة. اذهبي وألقي نظرة.”
“شكرًا لك.”
بعد أن أنهت فيلوميل جلسة الشاي الخفيفة مع كايين، عادت إلى غرفتها، لكن قدميها توقفتا فجأة.
“آه… آنسة…”
كانت صوفيا قد انهارت وسط كومة من الرسائل.
“صوفيا! ما الذي حدث لك؟!”
صاحت فيلوميل بذعر، وراحت تنتشل صوفيا من بين أكوام الورق.
“وقعتُ مرة، لكن كل الرسائل انهمرت فوقي، ولم أستطع الحراك شكرًا لكِ.”
كان المشهد أشبه بمكتب هارنين في أوقات ذروته.
“لكن، آنستي، لماذا جمعتِ كل الدعوات التي وصلت إليك؟ لا تفكرين بالذهاب، أليس كذلك؟ أغلبها قد مرّ تاريخه أصلًا.”
“كنت فقط… فضولية لأعرف مَن أرسلها.”
جلست صوفيا على الأرض بوجه متجهم، وبدأت بفرز الرسائل واحدة تلو الأخرى.
الرسائل كانت على أوراق بسيطة، قد تكون لفقر مرسلها أو انخفاض منزلته… لكن، على الأقل، ألم يكن الأجدر أن يكتبوا أسماءهم؟
بتلك الحيرة فتحت إحدى الرسائل، لكن ما إن وقعت عيناها على السطر الأول، حتى تجمّدت في مكانها.
“……..”
«إلى صديقتي فيلوميل.»
كانت الرسالة من ناديا… لم يكن هناك شك في ذلك.
***
“أين فيلوميل؟”
سأل كايين وهو يتوجه بالكلام إلى سيباستيان، وقد أصبح من المعتاد أن يسأل عنها فور عودته إلى المنزل.
“إنها في غرفتها.”
عند سماعه الإجابة، تردد للحظة، ثم جلس قائلًا:
“أبلغها أني أرغب بتناول العشاء معها الليلة.”
“كما تأمر، سيدي.”
عندما جاء إيمون قبل أربعة أيام، قضى كايين وفيلوميل لأول مرة وقتًا طويلًا معًا، ومنذ ذلك الحين، تحوّلت العادة إلى روتين ثابت؛ لا يمر يوم دون أن يتشاركا وجبة واحدة على الأقل.
أحيانًا كانت فيلوميل من تبادر بالدعوة، وأحيانًا أخرى كان كايين من يفعل.
واليوم، كان هو صاحب الدعوة.
استند إلى ظهر الكرسي، ممدًا جسده بالكامل، محاولًا الاسترخاء قليلًا قبل أن يغوص في الأوراق المتكدسة أمامه…
حكّ كايين مؤخرة عنقه بيده، كأنما يحاول طرد ثقل غير مرئي.
“حالتي ليست على ما يرام هذه الأيام…”
كان يشعر كما لو أصيب بحمى خفيفة؛ عضلاته تؤلمه وجسده بأكمله مثقل كأن شيئًا ينهكه من الداخل.
وبينما كان يعقد حاجبيه ويدلّك عنقه، خطر له أن يعدّ الأيام.
“مستحيل… هل حان الوقت مجددًا؟”
تمتم بقلق.
“هاه… يبدو أن الموعد قد اقترب.”
جميع المتفوقين أولئك الذين تخطّوا حدود البشرية يعانون من ألم، وإن اشتدّ، قد يفقدون السيطرة على أنفسهم ويبلغون حدّ الانفجار.
موعد الألم يختلف من شخص لآخر، فبعضهم يتلقى الألم بشكل دوري، وآخرون بلا نمط واضح.
لكن كايين، الذي يُعد من بين الأقوى، كان يعاني من دورات ألم أقصر من غيره. ولحسن الحظ، كانت تلك الدورات منتظمة.
تأتيه نوبات صغيرة من وقت إلى آخر، لكن كل ثلاثة أشهر، لا بد أن ينهار يومًا أو أكثر.
وكان الألم لا يُسكّن حتى بأقوى المثبطات وفي تلك اللحظات، لا يكون أمامه من خيار سوى التماس المساعدة من “المُناسب” الشخص المتناغم معه طاقيًا.
رغم أن مشاركة “المناسب” حتى بين المقرّبين تُعد أمرًا غير مريح.
فالمتفوق إذا ما التقى بالمناسب، يفقد السيطرة على مشاعره، يصبح أعمى، مشوشًا، وكأن لا شيء آخر في العالم يستحق اهتمامه.
لا أحد سوى المتفوقين أنفسهم يعرفون هذه الحقيقة.
فالمناسب لا يقتصر دوره على تهدئة الألم، بل يمنح المتجاوز إحساسًا لا يُقاوم من السلام الداخلي، أشبه بالإدمان.
ومتى التقى المتفوق بمناسبه، يتخلى عن القوة، المال، والسلطة… ليصبح كل كيانه موجهًا نحو ذلك الشخص وحده.
عندما اكتشف كايين هذه الحقيقة لأول مرة، كان في العاشرة من عمره فقط… وأصابه الاشمئزاز.
حتى لو أزال الألم، لا يمكنني أن أتحمّل أن أفقد نفسي لأجل أحدهم.
لكن تفكيره تغيّر مؤخرًا قبل بضعة أشهر فقط.
“لا أعامل فيلوميل مثل الآخرين، أليس كذلك؟”
كان يعلم ذلك جيدًا.
فيلوميل كانت مختلفة ليس فقط لأنها مناسِبة له.
بل لأنها كانت أغرب شخصية التقاها في حياته، وألطفها… وأكثرها إمتاعًا.
الوقت معها كان يمر كلمح البصر وكانت الأحاديث بينهما مهما بدت تافهة تخلّف فيه أثرًا، شعورًا عذبًا بالبهجة.
وكان يشعر بالأسى كل مرة يفترقان فيها.
ولهذا، كان كايين واثقًا:
حتى لو لم تكن فيلوميل مناسِبته، لما تغيّر شيء.
ففي الحقيقة، لم يحدث بينهما تواصل سوى مرة واحدة.
صحيح أن تلك اللحظة كانت مريحة على نحوٍ لا يُنسى، وكأن سُحب التعب قد انقشعت…
لكن ذلك وحده لم يكن كافيًا ليزرع فيه مشاعر حقيقية.
كايين كان عقلانيًا، يزن مشاعره بدقة.
حين أمسك بيدها لطلب الاستقرار، شعر بالسكينة.
لكن حين ضمّها ليواسيها، اضطرب قلبه، وارتجف جسده.
وذلك وحده، كان كافيًا ليُدرك الحقيقة.
“يبدو أنني فقدت صوابي بحق.”
قالها بصوت خافت، ثم دفن وجهه في كفيه الساخنتين، وأخذ نفسًا عميقًا كمن يحاول طرد الجنون عن صدره.
ثم حدّق في الفراغ أمامه، شاردًا، كأنما يحاول أن يمسك بخيط أفكاره الهاربة.
“هل أنا… حقًا، تجاه فيلوميل…”
دق دق.
صوت طرقٍ مستعجل على الباب قطع عليه حبل أفكاره.
استفاق كايين في الحال.
“الدوق، إنه أنا.”
“ادخل.”
دخل سيباستيان وعلى وجهه مسحة من القلق.
“هل حدث شيء للآنسة؟”
بما أن سيباستيان ذهب قبل قليل لدعوة فيلوميل للعشاء، أدرك كايين فورًا أن الأمر يتعلّق بها.
“حسنًا… الأمر أن… الآنسة لم تخرج من غرفتها.”
“ماذا؟”
“مرّ بالفعل ساعتان على ذلك.”
“سأذهب حالًا.”
خرج كايين من المكتب دون تردد، متجهًا نحو غرفة فيلوميل.
رغم أنها أُعطيت أفضل غرفة في القصر، إلا أن بُعدها عن المكتب كان أمرًا مزعجًا الآن.
ركض تقريبًا حتى وصل إليها.
كان أمام الباب كل من صوفيا وجايك، يقفان بقلق ظاهر.
“ما الأمر؟”
“آه، دوق!”
أسرعت صوفيا إليه.
“إنها… بعد أن قرأت رسالة ما، طلبت مني الخروج، وأصرت ألا أدخل مجددًا… ولم تجب على أي نداء بعدها…”
اقترب كايين من الباب.
“آنستي.”
لم يكن هناك أي رد.
“آنستي، سأمنحك عشر ثوانٍ فقط إن لم تفتحي، سأكسر الباب وأدخل أعدك، لن أبقى، فقط أريد أن أطمئن أنكِ بخير.”
ثم بدأ يعدّ بصوت منخفض، محافظًا على هدوئه قدر الإمكان.
“عشرة… تسعة… ثمانية… ثلاثة، اثنان…”
طق.
في الثانية التاسعة قبل أن يكمل العد سُمع صوت طرق خافت على الباب.
تنفّس كايين بارتياح.
تابع بصوت أكثر لطفًا:
“هلّا أخبرتني بما حدث؟”
وبعد لحظة، فُتح الباب ببطء.
“فقط أنت، دوق… ادخل وحدك.”
انزلق كايين داخل الغرفة بهدوء، وأغلق الباب خلفه.
نظر حوله.
كانت الرسائل مبعثرة تحت قدميها، كما لو كانت قد فتحتها جميعًا وراحت تفرزها دون اهتمام.
سارت فيلوميل ببطء نحو الأريكة وجلست.
جلس كايين على المقعد المقابل لها بهدوء مماثل.
لم تقل شيئًا، بل كانت تحدّق في إحدى الرسائل بصمت، ثم ناولته إياها.
أدرك من نظرتها أنها تريد منه أن يقرأها.
أخذها منها ببطء.
[إلى صديقتي، فيلوميل.]
وقبل أن يُكمل، عرف على الفور من الذي أرسلها.
“لا يُعقل… ناديا أليس؟”
“نعم.”
أومأت فيلوميل برأسها بهدوء، كأن الأمر لم يعد يحمل أي ثقل.
تناول كايين الرسالة، وبدأ يقرأ بصوت منخفض، سريعًا:
[لقد مر وقت طويل منذ أن كتبت لك
كيف حالك؟ لا، في الواقع، لا ينبغي أن أطرح هذا السؤال.
من المؤكد أنك لست بخير، فقد فقدتِ أعز صديقة… رحلت مع خطيبك، بعد كل شيء.
لكن، فيلوميل التي أعرفها قوية، أعلم أنك تخطيتِ الأمر، وتعيشين حياتك بشكل جيد الآن.
أليس كذلك؟ عائلتك تحبك كثيرًا أيضًا، أليس كذلك؟]
عائلتها؟
لم يتمالك كايين نفسه، وابتسم بسخرية مريرة.
أي جزء في تلك العائلة يحب فيلوميل؟
أي حب هذا الذي يعزلها، يهمّشها، ويرميها في زاوية مظلمة؟
تابع القراءة، والغضب يتصاعد في عروقه.
وما إن وصل إلى نهاية الرسالة، حتى وضعها على الطاولة بيدٍ مرتجفة.
كاد يمزقها، لكنّه بالكاد تماسك.
“…الخلاصة إذن،”
نطقها بصوت مشحون.
“بعد أن شجّها شجار مع إيمون، واستفاقا من أوهامهما، والآن بعدما رفضتهما عائلتهما… تريد أن تأتي وتعيش على حساب دوقيتنا؟”
ثم رمق فيلوميل بنظرة لا تصدق، وقال بمرارة صادقة:
“هل هذه النبيلة… فقدت عقلها؟”
التعليقات لهذا الفصل " 29"