الحلقة الثامنة والعشرون.
“سيدي، لقد وصل.”
كان الخادم يذرع أرجاء القبو بخطوات حذرة، ينفّذ أوامر سيّده حين لمح وجهًا مألوفًا، فسارع بتنبيه سيده.
رفع ايثان رأسه على الفور، بعد أن كان يتابع اللعبة بلا اكتراث.
“أين؟ أين هو؟”
“هناك، سيدي.”
وحين لمح ايثان الاتجاه الذي أشار إليه خادمه، انطلق راكضًا دون تردد.
“أنت!”
اقترب من كين ، الذي كان قد دخل لتوه إلى القبو.
“لم تأخرت؟! أتعلم كم انتظرتك؟”
“سيدي، هل كنت بانتظاري؟”
“نعم! في المرة الماضية، كان لدي الكثير لأتحدث به، لكنك كنت متوعكًا على ما يبدو، وسرعان ما فقدت وعيك.”
رمق ايثان كين بنظرة ممتنة، وقد استعاد ذكرى تلك الليلة، لطالما كان يتلقى مبالغ طائلة من كين، وفي البداية لم يلتفت إلى الأمر، فـ كين كان عضوًا، ومن الطبيعي أن يتصرف بحرية.
لكن شيئًا ما أثار فضوله… كيف لشخص أن يأتي بمبالغ كهذه، وبشكل شبه يومي؟
“لا بد أنه شخص ذو نفوذ… من العيار الثقيل.”
لم يكن ايثان يدرك أن في مشروعه شخصًا من هذا المستوى، لكنه الآن، وقد التقط طرف الخيط، لن يفرّط به.
لذا، كان يعمل منذ مدة على معرفة اسم كين وهويته الحقيقية، فقد كانت طبيعة عمله محفوفة بالريبة، وإن كُشف الأمر للزبائن، سيكون في موقف لا يُحسد عليه.
أراد أن يسقيه الخمر ليُوقعه في فخ، ولكن…
كان هو من سقط أولًا.
ومنذ تلك الليلة، غاب كين ليومين، لم يظهر، مما جعله يظن أنه فقد فرصته للأبد، وسهر الليالي نادمًا.
كان عليه أن يتخلى عن فكرة الإيقاع به.
لكن ايثان لم يكن ليستسلم، فقد كان في جعبته خطة أخرى.
“ما رأيك أن نتحادث في مكان أكثر هدوءًا؟”
“لا بأس، فلنفعل.”
وافق كين ببساطة، فتهلّلت أسارير ايثان سرًا، وقاده إلى الطابق العلوي، حيث استأجر مسبقًا غرفة عبر أحد معارفه من أصحاب المكان.
“بحذر… بهدوء، تفضل.”
تجاوزوا الحشود وصعدوا إلى الطابق العلوي، حيث تلاصقت الغرف على امتداد الممر، ودخل ايثان الغرفة المُخصصة.
“اجلس بأريحية.”
جلس كين، فملأ ايثان كأسًا وسكبه أمامه، كأنما يمهّد لحديث طويل.
“بالمناسبة… إلى متى سأستمر في مناداتك بـ(أنت)؟ ألا تخبرني باسمك؟ أظنك في مثل سني، أو ربما أكبر، لذا أشعر بعدم ارتياح لاستخدام هذه الصيغة.”
“أعتقد أنني أخبرتك في المرة السابقة.”
“هممم… ماذا قلت حينها؟”
“قلتُ إن هذا اللقب لا يزعجني.”
يبدو أن ايثان قد ضغط عليه في تلك الليلة ليسأله عن اسمه، لكنه، وقد كان ثملًا، نسي كل شيء.
“مع ذلك، أرغب في أن نتقارب أكثر… وأنت لطالما أغدقت عليّ بالمال، ألا ترى؟”
دفع الكأس برفق نحو كين، بابتسامة تعكس امتنانًا خفيًا.
“ما قدّمته لا يُذكر، سيدي، مشروعك يحقق لي منفعة عظيمة، لا أكثر.”
“منفعة…؟”
قطب إيثان حاجبيه، وكأن أمرًا غريبًا بدأ يلمع في ذهنه فجأة.
وما إن مد كين يده نحو الكأس، حتى انقضّ إيثان عليه وخطفه في لحظة.
“آه، يبدو أن هناك حشرة في هذا!”
تظاهر ببساطة، لكنه كان قد دسّ مسبقًا شيئًا في الشراب، أسرع الآن بإفراغه وتظاهر بأنه مجرد حادث عابر، ثم دفع الأقداح الأخرى بعيدًا قدر المستطاع.
“حديث بين رجال؟ لسنا بحاجة إلى الخمر لنفتحه، أليس كذلك؟”
“لا بأس بذلك.” أجاب كين بهدوء، كأنما لم يلاحظ شيئًا.
إيثان ابتلع ريقه الجاف، ثم انحنى قليلًا للأمام.
“لكن حقًا… أود أن أعرف ما نوع تلك المنفعة التي قدمتها لك.”
لم يتلقَّ إجابة واضحة، لكن قلبه كان يرفرف من السعادة، لا بسبب الخمر أو أي مخدر، بل بسبب إحساس داخلي بالسُكر والانتصار.
ترجّل من العربة وهو يصفّر بنغمة خفيفة، كأنما الدنيا بأسرها تغني معه.
دخل القصر بخفة وكأن قدميه لا تلامسان الأرض.
“أهلاً بعودتك، سيدي الشاب الكبير.”
“بتلر؟ ألا زلت مستيقظًا حتى الآن؟”
كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا. توقيت لا يناسب لا نومًا ولا يقظة، لكن بدلًا من سؤاله عن سبب تأخره في النوم بدا السؤال الأجدر: لماذا هو مستيقظ في هذا الوقت؟
انحنى الخادم قليلًا، وعيناه غارقتان في التعب.
لقد كانت الأيام القليلة الماضية جحيمًا بالنسبة له، منزل كيبان لطالما كان مسرحًا للفوضى، لكن منذ اختفاء الابن الأصغر، إيمون، تفاقمت الأمور بشكل غير مسبوق.
وللمفارقة، حين اختفى إيمون، خيّم الهدوء على القصر، لأن الجميع كانوا مشغولين بالبحث عنه.
لكن فور عودته… عادت الفوضى أضعافًا مضاعفة.
كان يخرج كل صباح، ويعود في المساء، دون أن يفسر لأي أحد وجهته، وفي اليوم الثاني، سأل الخادم سائق العربة عن المكان الذي يذهب إليه.
حين علم أنه يزور بيت خطيبته السابقة، التي هي الآن مخطوبة لدوق ويندفيل… كاد الخادم أن يسقط مغشيًا عليه.
وفي اليوم الرابع، لم يعد إيمون في المساء، ولم يظهر له أثر حتى حلول الليل.
ارسل الخادم الرجال للبحث عنه، خاصة حول قصر ويندفيل، بل حتى أمرهم بالتحقق من ضفاف الأنهار، تحسبًا لوجود جثة طافية.
وفي النهاية، تم العثور على إيمون في أكثر الأماكن إحراجًا… بجانب مكب نفايات طعام في أحد أحياء الفقراء القريبة من الساحة.
كان المكان يفيض بالروائح الكريهة، لكن لحسن الحظ، خرج إيمون سالمًا من تلك المغامرة… جسديًا على الأقل.
ولكن مخاوف الخادم لم تنتهِ هنا.
الآن، جاء الدور على إيثان.
الأعمال التجارية للعائلة كانت في تراجع، والدَهم قرر تقليص الأموال المُخصصة لكل فرد من أفراد العائلة إلى النصف، حتى أدوية زوجته لم تعد تُشترى كما في السابق، وكذلك أموال مقامرات إيثان.
ورغم أنه من غير المرجح أن يكون قد ادخر شيئًا من قبل، إلا أن إيثان كان يقامر يوميًا بلا كلل.
وحين سأله الخادم عن مصدر المال، كان يثور غاضبًا مدعيًا أنه لا يخسر دائمًا.
واليوم… انضم قلق جديد إلى كومة هموم الخادم.
“ما الأمر بحق الجحيم؟” سأل إيثان، وقد ضاق وجهه بحدة وهو يلاحظ التوتر في سلوك خادمه.
فتح الخادم فمه ببطء، مترددًا في إكمال حديثه…
وقبل أن ينفد صبره تمامًا، بدأ الخادم بالكلام بصعوبة:
“اليوم… السيدة زارت الآنسة فيلوميل.”
“حقًا؟ هل قالت لها أن لا حاجة لحفل زفاف رسمي؟ فقط مستندات وسينتهي الأمر؟ ومتى يُفترض أن نبدأ باستلام المال؟”
كانت الخطة تقضي بأن تصبح فيلوميل عشيقة دوق ويندفيل، ومن ثم يبدؤون بابتزاز المال منه، تلك الخطة لم تكن جديدة، بل وُضعت منذ أن بدأت الشائعات حول خطبتهما.
“الدوق… يبدو أنه غضب بشدة.”
“هه، طبيعي، لا بد أنه لا يصدق أن فتاته كانت متورطة في كل هذا.”
لكن تعبير وجه الخادم بقي متجهّمًا، مما أثار انزعاج إيثان.
“ليس هذا ما حدث، سيدي، بل قال للسيدة شيئًا مريبًا… ثم أخذ الآنسة فيلوميل معه.”
“ماذا؟!”
“يبدو أننا أخطأنا في تقديرنا.”
“ألم يكن الأمر مجرد انجذاب لِـ وجه جميل؟”
“يبدو أن الأمر أعمق من ذلك.”
“إذًا كيف انتهى بها الأمر مخطوبة لدوق مثل ويندفيل؟ بأي مهارة؟”
“يبدو أننا ارتكبنا خطأ، حاولت إبلاغ الدوق بنية الاعتذار غدًا، لكن السيدة… غضبت بشدة أعتقد أن عليك، يا سيدي، أن تتحدث معها وتقنعها.”
صمت إيثان قليلًا، قبل أن يسأل:
“وأين إيمون؟”
“لم يستيقظ بعد.”
“حقًا، إنه لا ينفع في شيء.”
كان الخادم يشعر بالارتياح أخيرًا، بعدما وجد شخصًا يمكنه التواصل معه بشكل مباشر، لكنه سرعان ما شعر بقلق شديد عند سماع الكلمات التالية من إيثان.
“على أي حال، لا حاجة للاعتذار.”
“ماذا؟”
“بتلر، أنا بصدد البدء في مشروع ضخم مع شخصية مؤثرة.”
فكر الخادم في أعمال إيثان، وتذكر أنه كان يدير تجارة المخدرات، كانت هذه هي الصناعة الوحيدة التي حقق فيها إيثان نجاحًا، لكن حجمها كان لا يزال صغيرًا نسبيًا.
“يا سيدي، أرجوك…”
“بتلر، أرجوك لا تفرط في القلق هل أصبحت مسنًا لدرجة أن همومك تزداد بهذا الشكل؟”
أخذ إيثان نفسًا عميقًا ثم بدأ ينظر حوله بحذر، ثم خفض صوته بشكل غير عادي.
“أنا أخبرك بهذا فقط، توزيع المخدرات ليس مربحًا بما يكفي، لا يحصل الشخص على المال الذي يستحقه من العمل بهذا المجال المخدرات هي سلعة مثالية، لكن الناس ما زالوا ينظرون إليها بشكل سلبي طبقات النبلاء الدنيا أو عامة الناس هم من يتداولونها، لكن، ماذا لو بدأ النبلاء الكبار في استخدامها؟ حتى لو حاول الإمبراطور منعها، ستحصل المخدرات على شرعية في النهاية.”
“لكن… هناك عدد قليل من النبلاء الكبار الذين يتعاطون المخدرات، أليس كذلك؟”
“سنجعلهم يفعلون ذلك، أليس كذلك؟”
“ماذا…؟”
ابتسم إيثان ابتسامة ماكرة.
“سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، إذا أدمنوا، النتيجة ستكون واحدة. العملية ليست هي المهمة هنا.”
ربت إيثان على كتف الخادم الذي بدا متصلبًا.
“لذا، بتلر، حافظ على لسانك اذهب واهتم بأمي، بما أنني سأصبح شخصًا مهمًا الآن، لن أتمكن من الاهتمام بشؤون المنزل.”
***
“لم أكن أتوقع أن يكون هؤلاء الحمقى مفيدين بهذا الشكل.”
قال كايين وهو يضحك بسخرية بعد أن سمع تقرير كين.
هزت فيلوميل رأسها موافقة، وقد أبدت هي الأخرى موافقتها.
“بالضبط.”
حتى هي، التي وضعت هذا المخطط، كانت مندهشة من النتيجة.
“بصراحة، عندما أخبرتني الآنسة عن هذا المخطط، كنت مترددًا، مهما كان هؤلاء الأغبياء، إلا أن الخطة كانت تبدو سخيفة تمامًا، أليس كذلك؟”
“يبدو أنني بالغت في تقديرهم، كان يجب أن يكون الأمر أكثر بساطة، لكنهم فاجأوني.”
كان المخطط يتمثل في تعاطي المخدرات بشكل سري بين النبلاء من خلال إدمانهم عليها.
كانت هذه فكرة كين التي طرحها على إيثان عبر هويته المزيفة، وعندما عرض عليه الفكرة، لم يتوقع كين أن يوافق إيثان بسرعة، لكن المفاجأة كانت في أن إيثان وافق فورًا.
“على أي حال، بالنسبة لنا، هذه أخبار جيدة.”
التعليقات لهذا الفصل " 28"