الحلقة السابعة والعشرون.
وقفت عاجزة عن الرد، أحدّق في وجه زوجة الماركيز.
“لماذا لا تجيبين؟ إن لم تنتهزي هذه الفرصة الآن، فلن تأتيك مرة أخرى! أجيبي بسرعة!”
ثم مالت بصوت أخفض، تتقطر منه السموم:
“أم تراك تفضلين أن أبوح بماضيك القذر لدوق ويندفيل؟ هل تسعين لأن تتلقي الرفض من ابني، ثم تُطردي من حضرة الدوق نفسه؟”
قبضت على يدي بإحكام، وقد بلغت كلمتها الأخيرة شغاف قلبي.
“هذا حقًا أمر يثير الفضول.”
دوّى صوت غير متوقع بجانبي، ومع التفاتي نحوه كان قد جلس بالفعل إلى جانبي.
كايين، ببرود مهيب، مد يده ليحتوي قبضتي المرتجفة بين راحتيه، ثم رفع عينيه بثبات نحو زوجة الماركيز.
“ذلك الماضي القذر الذي كنتِ تودين أن ترويَه لي… لمَ لا تفعلين ذلك الآن؟”
“الـ… دوق؟”
بدت زوجة الماركيز مأخوذة من المفاجأة، ثم صوّبت نظراتها نحوي بنظرة حادة ممتلئة بالشك.
يبدو أنها ظنت أنني من استدعاه، لكنها كانت مخطئة، فلم أكن أعلم حتى أنه سيتواجد هنا، كما أن جاك لم يكن ليملك فرصة لإخباره، إذ إن كايين لم يتركني من نظره للحظة واحدة.
“ها أنا ذا أمامك بنفسي، فلنسمع ما عندكِ، يا زوجة الماركيز.”
“عذرًا؟”
“قلتِ بنفسك، أليس كذلك؟ أنك ستكشفين لي ماضي خطيبتي القذر.”
“ذلك… أنا فقط…”
“حسنًا، الأمر في صالحنا، علاقتي بالآنسة فيلوميل ليست قديمة بعد، ولم يتسنَّ لي أن أعرف عنها بقدر ما تعرفين أنتِ. لذا، فلنسمع ما لديك.”
بدت مترددة، تتنقل بنظراتها بيني وبينه، وكأنها تحاول أن تقيّم ما طبيعة علاقتنا.
لكنها لم ترَ أن كايين كان قد أمسك بيدي تحت الطاولة.
وما إن لاحظ كايين ذلك التردد في عينيها، حتى أردف:
“وإنْ أفصحتِ، أعدكِ أن تنالي مكافأة ليست بالقليلة.”
“حقًا؟!”
“أتظنين أن دوقًا يكذب؟ مهما كان ما تطلبينه، فلن يتجاوز الفتات بالنسبة لي.”
عند ذكر كلمة المال، تبدّلت ملامحها في لحظة ثم فتحت فمها وبدأت حديثها دون تردد.
“عندما علمت بخبر خطبتكما، شعرت بالحيرة الشديدة، أردت أن أتمنى لها السعادة، لكن ماضيها… كان صدمة لا يمكن تجاوزها، كنت أشعر أنني أرتكب ذنبًا بحقك كل يوم يمر.”
ثم أخرجت منديلاً وبدأت تلمس طرف عينيها الجافتين وكأنها تبكي.
“حين علم إيمون بالحقيقة، ذهب ليثنيها عن قرارها، لكنه… تعرّض لما تعرّض له فجئت إليها مرة أخرى، أحاول أن أعيد إليها رشدها، وأحثها على الاعتراف بماضيها للدوق، لكن… لم أجد أمامي تلك الفتاة البريئة التي كنت أعرفها.”
“حسنًا، وماذا عن ذلك الماضي القذر؟ “
سألها كايين بصوت بارد، وقد تجمدت ملامحه كأنها لوح جليد:
“فهل ستخبرينني الآن؟”
“ماذا؟”
أُربكت زوجة الماركيز من صراحته المباغتة، وأسقطت المنديل من يدها.
“آه… الأمر… من المحرج أن أتحدث عن ذلك بلساني، لكن… أعتقد أنه من واجبي، لأجل سعادتك يا دوق.”
كانت تظن أنها تخفي ابتسامتها ببراعة، تظن أن ملامحها الهادئة تغطي ما في داخلها.
لكنني رأيت كل شيء.
شفتيها الكبيرتين لم تسعفاها، والابتسامة التي ظنت أنها مطموسة، كانت مزدهرة على وجهها.
“فيلوميل… كانت تقيم علاقات مع عدة رجال ، دون أن تميز بين طبقة وأخرى إنها فتاة ذات سعة صدر عظيمة، وهذه ميزة أراها جديرة بالثناء، في الواقع.”
رفع كايين حاجبه قليلًا، بصوت يفيض بالهدوء:
“أي أنكِ تقولين إن الآنسة كانت على علاقة بعدة رجال؟”
“آه… أظن أن تعبير علاقة لا يكفي، بل كانت تخرج معهم… بشكل خفيف، إن صح التعبير.”
“يبدو أنها كانت محبوبة ، تمامًا كالزهرة التي تجذب الفراشات.”
“لا، لا، حضرة الدوق! هذا ليس ما أقصده!”
بدأ التوتر يطفو على صوتها، بعدما أدركت أن كايين يتعمد تمييع كلامها.
“أعني… أنها كانت تخرج مع رجال كثر للهو فقط.”
“إذن كانت فتاة اجتماعية؟”
“بل كانت علاقتها بهم… أعمق من ذلك.”
“إذن كانت تعرف كيف تصادق الناس بعمق.”
“يا دوق! لستَ تفهمني!”
لم تستطع كبح نفسها أكثر، فنهضت من مقعدها صارخة، وقد أشارت إليّ بإصبعها في اتهام:
“هي من أغوت ابني البريء بجسدها! ثم راحت تعبث مع رجال آخرين أيضًا! فتاة تافهة ومنحطة! والآن تحاول إغواءك أنت أيضًا، يا دوق! أفق من غفلتك!”
صوتها دوّى في المكان، كأنه صفعة في الهواء الساكن.
ثم، وقد أدركت فداحة ما قالت، تراجعت قليلًا وأخذت تحاول إصلاح الأمر:
“آه… معذرة، لقد اندفعت من شدة خوفي وقلقي عليك يا دوق… لم أكن أقصد الإساءة…”
لكن كايين لم يكن لينسى.
تلك النظرة الباردة في عينيه ازدادت حدة، وصوته جاء أشد من سيف:
“كنت أتساءل من أين ورث إيمون كيبان تفكيره المتعجرف وسلوكه الوضيع… والآن أدركت أنه منكِ، سيدتي.”
“ماذا…؟”
“ابتداءً من هذه اللحظة، كل لحظة تعيشينها حتى وفاتك، ستكون معذّبة ومملوءة بالندم ستتمنين لو أن هذا اليوم لم يكن ، ستتمنين لو أنكِ صمتِ.”
“يـ… يا دوق؟!”
نظر إليّ، ومدّ يده إليّ بحنان حاسم:
“آنسة، لنذهب.”
أمسكني من يدي، ونهض بي دون تردد.
أما زوجة الماركيز، فحاولت اللحاق بنا، لكن جاك وقف في طريقها كالظل.
عند الباب، التفت كايين إلى أحد الرجال الواقفين:
“جيو، أظن أن علينا تقديم خطتنا… حان الوقت.”
‘انا غاضب جدًا ، اريد ان اراهم بائسين قريبًا.’
“نعم ، حضرتك.”
آنسة ، اعذريني للحظة.”
“ماذا؟ ، ماذا؟.”
سألته مرة أخرى، دون أن أعرف عما كان يتحدث، لكن كايين أمسك بي من خصري ورفعني، ووضعني في العربة.
أغلق باب العربة وطرق على الحائط.
ثم انطلقت العربة.
لقد حدث ذلك بسرعة كبيرة حتى أنني استعدت وعيي متأخرًا.
“دوق ، كيف عرفت مكاني؟”
” كنت أعلم إنك ستأتين الى هذه الساحة ، وكانت بطريقي لذا فكرت بأصطحابك.”
“فهمت.”
“عمّا قالته الماركيزة..أنا سأشر…”
“لا اصدق ذلك”
اجابها كايين بهدوء مريح ليُريحها.
“لذا ، لا تقلقي آنستي.”
“بعيدًا على ان الدوق يثق بي ، اريد ان اشرح لك ، لا اريد أن اُكره.”
” اذا كنت أكره الآنسة ولو قليلًا ، لم اكن لأفعل شيء مما فعلته، لكن ان ارادت الآنسة الشرح فتفضلي بذلك.”
” كان والديَّ يضعاني في موعد اعمى ثلاث مرات في الأسبوع.”
“حاولت الهروب لأنني لم أرغب في الذهاب، لكن ذلك كان بلا فائدة إذا هربت، كانوا يعيدونني قسرًا، ويعاقبونني، ويحبسونني، ويجوعونني.”
“على ما يبدو، أصبحت مشهورة بكوني أذهب إلى العديد من المواعيد، وبعدما سمعت زوجة الماركيز عن هذه الشائعات، بدأت تكرهني أكثر، في النهاية، بدأت تعتقد أنني كنت أنام مع كل الرجال.”
ورغم أنني حاولت توضيح أن هذا ليس صحيحًا، إلا أن زوجة الماركيز كانت تظل تصدق ذلك.
“لذلك… ربما قالت ذلك من أجل هذا، لكن، سيدي، يمكنني أن أؤكد لك بكل شيء عندي، وأقسم أنني لم أقم بتلك الأفعال أبدًا.”
كان تذكر تلك الذكريات المحرجة وتلفظها بالكلمات يتطلب الكثير من الشجاعة.
توقف الموكب.
ترددت قليلاً ثم نهضت من مكاني.
“سأذهب أولاً.”
ترجلت من العربة وتوجهت إلى القصر وعندما ترجلت صوفيا من العربة التي كانت تتبعني، نظرت إليَّ بعينين مليئتين بالقلق، فأعطيتها ابتسامة خفيفة لأطمئنها.
وفي تلك اللحظة، كان هناك يد كبيرة تغلغلت بين يدي.
تفاجأت، وعندما التفت، كان كايين قد وقف بجانبي بشكل طبيعي ثم أمسك بيدي بإحكام.
“أعتقد أنه يجب عليَّ توضيح شيء.”
“ما الذي تريد توضيحه؟”
“كما قلت، لم أشك بك ولو للحظة واحدة كل ما فكرت فيه حينها كان شيئًا واحدًا فقط، وهو أنني ممتن لأنك تحملتِ كل ذلك فقط هذا.”
أخذ نفسًا عميقًا.
ثم أدار كايين يده الملتفة حول يدي، ليجعل ظهر يدي مواجهًا للأرض.
وهو يرفع عينيه قليلاً، قبَّل ظهر يدي لم تلامس شفاهه يدي، لكن شعرت أن أنفاسه قد استقرت على راحة يدي فشعرت بشيء من الدغدغة.
“شكرًا… لأنكِ لم تنهاري، ولأنكِ جئتِ إلي،” تمتم.
تنفستُ ببطء، أحاول تثبيت نبضات قلبي.
“قلتَ إنك ستحقق كل ما أطلبه، أليس كذلك؟”همست.
“بالطبع هذا وعد، والوعود تُحترم، اليوم وغدًا وطوال العمر.”
نظرتُ إليه مليًّا، ثم إلى الخاتم الذي يزيّن إصبعي وإصبعه، خاتمان متشابهان، كأنهما إعلان صامت لاتحادنا، ثم رفعت عيني إليه، وقلت بابتسامة تحمل مرارة الماضي ونار الحاضر:
“ما أريده هو الشيء ذاته الذي تريده أنت.”
في البداية بدت عليه الدهشة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة مشاغبة.
“هل تقصدين… ذلك الانتقام الدموي الذي أحلم به؟”
هززت رأسي بخفة، وابتسامة خبيثة ارتسمت على شفتي.
“يقولون إن أفضل انتقام هو أن أنجح… وأنا أعتقد أنني نجحت بالفعل، لكن النجاح وحده لا يكفي… ليس لهؤلاء، أنا أريد انتقامًا مصممًا خصيصًا لهم.“
ردد كايين عبارتي الأخيرة ببطء، كما لو كان يتذوق الكلمات في فمه.
“انتقام مصمم خصيصًا… يعجبني ذلك.”
ثم قال بصوت خافت، أقرب إلى القسم:
“وسأكون معكِ في كل لحظة، لننتقم سويًا، يا أميرتي.”
لم أتمالك نفسي، فانفرجت شفتاي أخيرًا عن ابتسامة حقيقية، صادقة… طال غيابها.
التعليقات لهذا الفصل " 27"