الحلقة السادسة والعشرون
“آنسة، تفضلي.”
تناولت كوب عصير البرتقال الذي ناولتني إياه صوفيا.
وكالعادة، كان عصير العم لذيذًا… وكأن مذاقه يحمل دفء الأيام التي لا تتغير.
ترددت صوفيا قليلاً، ثم مدّت يدها بعصيرٍ آخر إلى من كان واقفًا بجوارنا.
“أ-أيها الفارس… هل ترغب… بشرب القليل أيضًا؟”
“لا بأس، من الأفضل ألا أقوم بأي شيء خارج المهمة، فلا عليكِ من أمري.”
“آه… فهمت…”
سرعان ما التصقت صوفيا بي وهمست بصوتٍ خافت:
“كيف يعقل ان نتجاهل شخصًا بهذا الحجم؟”
فبادلتها الهمس بابتسامة:
“صدقتِ…”
نظرتُ أنا وصوفيا في نفس اللحظة نحو الرجل الواقف إلى جوارنا بطرف أعيننا.
كان هو جيك، الفارس الذي تولّى مهمة حمايتي منذ الأمس لا يلازمني طوال الوقت، بل فقط حين أخرج من القصر.
كان كايين قد سألني إن كان مناسبًا أن يرافقني هذا الفارس، ولم أجد سببًا للرفض.
“حتى لو كانت تلك المرأة هنا، فأظنها ستهرب لمجرد رؤيته! شكله ملفت جدًا.”
“لا تقلقي، السير جيك أسرع من ناديا على أي حال وإن هربت، نأمره يلحقها ويمسكها.”
“صحيح! آنستي انتِ ذكية!”
***
مرّت ثلاثة أيام منذ طردنا إيمون.
ورغم أنه لم يظهر بعدها، لم اكن اتوقع بأنه سَيستسلم بهذه السهولة. لسببٍ ما، كان يتشبث بفكرة عودتي.
“هل فقد عقله؟ بأي منطق يظن أني سأترك كايين وأعود إليه؟”
وددت لو شققت رأسه لأرى ما بداخله… علّي أفهم طريقة تفكيره الغريبة.
“دائمًا ما كان غبيًا ولكن ليس لِهذه الدرجة.”
يبدو أن وقوعه في حب ناديا أفقده ما تبقى من عقل.
هززت رأسي في ضيق، وعدت للتركيز فيما بين يديّ.
“هل سنفشل في إيجاد ناديا اليوم أيضًا؟”
جعلت عيني تتفحصان الساحة بعناية، تدققان في كل زاوية.
رغم الزحام، كنت واثقة أنني سأتعرف عليها فورًا إن كانت هنا حتى لو لم تكن علاقتنا عميقة، فقد رأيتها عن قرب لسنوات.
جربت التواصل مع عائلة الكونت أليس، لكن كل رسائلي عادت دون رد.
كايين عرض أن يرسل من يبحث عنها، لكني رفضت.
كان التجوّل هنا، وسط الساحة، بحثًا عنها… نوعًا من العلاج النفسي بالنسبة لي.
بل بصراحة، لم أكن متلهفة جدًا لرؤيتها.
“سيدتي!”
نادى صوتٌ مفاجئ، فاستدرتُ بسرعة… لأجد هارنين واقفًا أمامي، مرتديًا عباءةً تُخفي ملامحه.
“هارنين؟”
كان خروجه إلى خارج المكتب في وضح النهار شيئًا نادرًا للغاية، لدرجة أنني فتحت عينيّ بدهشة.
في تلك اللحظة، جلس هارنين بجانبي وهو يحمل عصير البرتقال في يده، محدثًا بعض الضوضاء الطفيفة.
“هارنين.”
“صوفيا، مرحبًا.”
“كيف عرفت أنني هنا؟ لا، هل أصبحت قادرًا على الخروج الآن؟”
“منذ ذلك اليوم، بدأت أخرج كل مساء وأتمرن عرفت أن الرئيسة هنا عندما رأيتها من النافذة وعندما نزلت، أخبرني العم.”
… يبدو أن هارنين كان لا يزال يشعر بالتوتر لكونه في مكان عام، فمسح راحة يده المبللة على رداءه.
سحبته نحو المقعد ليجلس، وأنا أقول له:
“هل لا زلت تجد صعوبة في تحمل نظرات الناس؟ الجميع في الساحة الآن يراقبك.”
“هل هذا هو الشيء المهم الآن؟ تلك الفطريات… هل عادت؟”
“نعم. منذ حوالي أسبوع.”
“وماذا قال؟ أأعتذر؟”
” صحيح!؟ أليس هذا ما ينبغي أن يكون عليه التفكير السليم!؟”
“لم يعتذر؟”
“كلا! ، وبل تعرف ماذا قال لي؟ قال إنه لم يكن في علاقة مع ناديا وأوصاني ألا
أفهم الأمور بشكل خاطئ، وطلب مني العودة.”
“يا له من مجنون.”
“يبدو أنه أصيب في رأسه كان غبيًا، لكن لم يكن بهذه الدرجة.”
ظل هارنين يتنفس بصوت عالٍ ويتنهد باندهاش، قائلاً “ها، ها، هوه.”
“ماذا عني؟ العودة ألي انا؟..”
“إذا تحتم عليّ الاختيار..سأختارك انت بالطبع”
“حتى لو وُلدت في حياتي القادمة كنملة لن أذهب إلى إيمون.”
“إذا وُلدت الرئيسة كنملة سأعتني بها جيدًا.”
“قبل ذلك يبدو أنك ستُدفن تحت الأغراض التي لم تنظفها؟ هل نظفت مكتبك، أم لا؟”
عند سؤالي، بدأ هارنين يتهرب من الجواب ويحاول إبعاد نظره.
“قلت لك أن تنظف!”
“سأنظف.”
“متى؟”
“هل تُخزنين الملاحظات الآن يا رئيسة؟ ملاحظاتك هذه أكثر من المعتاد.”
“لو كنت تستمع جيدًا، لما اضطررت إلى تكرار نفس الملاحظات كل مرة.”
“تبا، لماذا خرجت؟”
نهض هارنين من مكانه، ثم توجه نحو المكتب.
صرخت باتجاه ظهر هارنين الذي كان يبتعد:
“إذا استمررت على هذا الحال، سأحول المكتب إلى حظيرة للخنازير!”
عند سماع كلماتي، بدأ هارنين في تسريع خطواته، وبسرعة كبيرة دخل المكتب مهرولًا.
“يا إلهي، رغم أنه أكبر مني سنًا بكثير، متى سيكف عن تصرفاته الطفولية؟”
“ربما لأنك ناضجة أكثر، بينما هو لا يزال غارقًا في طفولته.”
“هل يعني أن حياته طويلة لذلك نضوجه متأخر؟”
بعد تفكير طويل، لم أتمكن من إيجاد تفسير آخر.
“ربما يكون هذا هو السبب ، يبدو أن آنستي ذكية حقًا.”
“ما الذي فيه ذكاء هنا؟”
“لا، أعني… ليس الذكاء بالمعنى التقليدي، ولكنكِ دائمًا تأتين بأفكار لا يستطيع الآخرون التفكير فيها…”
“هل هذا مدح؟”
ابتسمت صوفيا دون أن تجيب، وأخذت رشفة من عصير البرتقال.
في تلك اللحظة، توقف جيك فجأة أمامي، بعد أن ظل ثابتًا في مكانه لأكثر من ساعة في الساحة شعرت بالدهشة من تصرفه، وأدرت رأسي.
كان هناك شخص يقترب مني.
بسبب المظلة التي كان يحملها، كان وجهه غير واضح، لكنني استطعت تحديد هويته من طريقة مشيته.
“فيلوميل!”
“…ماركيزة كيبان.”
كانت والدة إيمون.
***
مر صمت غير مريح.
كنت أنظر إلى فنجان الشاي، بينما كانت الماركيزة تتذوق الشاي بعناية.
“لقد أرسلت لك عدة رسائل، ألم تصلك؟”
“لم أستلم أي رسالة واحدة.”
عند سماعها كلماتي، ارتفعت حاجباها قليلًا.
ثم عبست وجعلت ذراعيها متقاطعتين وهي تحدق بي.
“أصبحتِ خطيبة الدوق ويندفيل، أليس كذلك؟ الآن أصبح أنفك إلى السماء، وتتصرفين كأنك لا تملكين أي امتنان.”
“امتنان؟ هل تلقيت شيئًا من الماركيزة يجعلني مدفوعةً للامتنان؟”
سألتها بصدق، فقد كنت فعلاً فضولية.
لم أستطع تذكر أي شيء قدمته لي سوى الإهانة والخزي.
لم تكن الماركيزة قد وافقت أصلًا على علاقتي مع إيمون، وكانت دائمًا تشك في نواياي، وكأنني كنت أغري إيمون ليتقدم بخطوبتنا.
كانت دائمًا تتجنبني وتبغضني، وفي كثير من الأحيان كانت تستدعيني إلى منزلها للقيام بالأعمال المنزلية أو المهام الصغيرة…
كيف لها أن تتحدث عن “الامتنان” بعدما كانت هي من طلبت مني القيام بكل شيء؟
“أنتِ صغيرة جدًا لتتجرأي على الرد عليّ! هل لأنك مخطوبة للدوق ويندفيل هو سبب لتعاليك؟ إذا ملّ منكِ، فسيتخلى عنكِ ويحل الخطوبة في أي لحظة.”
بالتأكيد، الطلاق بين النبلاء كان أمرًا يحدث بين الحين والآخر.
لكن ما لا أستطيع فهمه هو السبب الذي يجعل الماركيزة واثقة جدًا من أن هذا سيحدث لي.
“هل يعرف دوق ويندفيل كل شيء عنك؟ ربما خدعته بتظاهر بالبراءة، لكن لا شيء يظل مخفيًا في هذا العالم، فيلوميل.”
كان كلامها غير معقول، لكن قوة حسمها جعلتني أشعر بأن ربما هي تعلم شيئًا عن ماضيي مع ويستون.
‘كلما كانت واثقة، كلما شعرت بأنني أكثر قلقًا.’
لكن الأمر يعود إلى عشر سنوات مضت، حيث لم تكن لي أي صلة بعائلة الماركيزة في تلك الفترة.
‘ما الذي تعرفه حقًا؟’
حينما لم أنكر ذلك بشكل قاطع، ابتسمت الماركيزة بابتسامة مائلة، وهي تُظهر احتقارًا واضحًا.
“ها، يبدو أنك تشعرين بالذنب؟ ولكن بالطبع، من المدهش أن تصدقي أنك تستطيعين غسل سمعتك وتغيير تاريخك بهذا الشكل.”
أدرت نظري بعيدًا نحو الطاولة التي كانت صوفيا وجيك جالسين بها على مسافة بعيدة.
كانت صوفيا تنظر إليّ بقلق، وتدوس بقدمها في إشارة إلى توترها، بينما ظل جيك جالسًا في وضعية مستقيمة يراقبني.
قال لي سابقًا أنه إذا أرسلت له إشارة، فسوف يندفع فورًا لمساعدتي.
وكانت قدمه اليمنى قد خرجت قليلًا عن مكانها استعدادًا للتحرك في أي لحظة.
رجعت أنظاري إليها.
“ماذا تريدين بالضبط؟”
بعد مغادرة إيمون، فكرت مليًا في الأمور. كان هو من ينبغي أن يشعر بالخوف مني، وليس العكس فقد كان هو من ارتكب الأفعال التي قد تجعلني أفكر في الانتقام باستخدام قوة كايين.
لماذا هم جميعًا متفاخرون ومتعالون إلى هذه الدرجة، سواء كانوا آباءً أم أبناء؟
لكن بما أن الماركيزة امرأة مسنّة، كنت أتوقع أن تكون أكثر حكمة كنت أتخيل أنها ستعتذر بشكل رسمي، على الأقل.
“أوه، بهذا الشكل كان يجب أن تظهري.”
خفضت صوتها فجأة، وقالت بنبرة هادئة:
“هل يريدك الدوق ويندفيل حقًا؟”
“……لماذا تسألين عن ذلك؟”
“تزوجي إيمون، سأعطيك إذنًا بذلك. وسأسمح لك أيضًا بأن تكوني عشيقة لدوق ويندفيل.”
“……ماذا تقولين؟”
“سأسمح لك بكل شيء، ولكن مقابل المال. يجب أن تدفعي ثمن ما أسمح به.”
التعليقات لهذا الفصل " 26"